Thursday 27 November 2025
كتاب الرأي

أنور الشرقاوي : حكاياتي مع رجال الشرطة 

أنور الشرقاوي : حكاياتي مع رجال الشرطة  أنور الشرقاوي
 مشاهد غير مألوفة من يوميات عادية 
هناك في اللقاءات الخاطفة إيماءات  خفيفة كأنها من الهواء، لا يلتقطها إلا من كان قلبه مهيّأ لسماع الهمسات التي يعجز عنها الكلام.
هي شذرات من الإنسانية تتبادلها أرواح لن يلتقي بعضها ببعض مرة أخرى.
لحظات قصيرة، لكنها مثقلة بالمعاني، كالصور التي تستقر في الذاكرة دون أن نعرف لماذا بقيت.
رجال الشرطة الذين صادفتهم عند زوايا مدننا الحارقة، تركوا في أيامي أثرًا يشبه توقيعات صامتة على صفحات دفتر هشّ، أحرص عليه كما يحرص المرء على ذاكرة نفسه.
 
 هديّة تحت شمس الصيف 
انفتح النهار يومها كفرّان مشتعل.
شمس قاسية، تهوي من السماء كحدّ سيف.
كنت أقود ببطء، عرقي يسيل، وصدغي ينبضان، حتى بدا الطريق كأنه يمتحن صبري.
وعند دوّار صغير، رأيته: شرطي واقف، يشبه حارسًا يتحدى الطبيعة.
كانت بزّته تمتصّ الحرارة كأنها تخفي سرًّا لا يريد أن يبوح به.
يمسح جبينه بحركة آلية، لا يشكو، لا يتذمر.
يقوم بواجبه فقط.
توقفت.
مددت إليه قنينة الماء الصغيرة الحجم. 
كان فعلًا بسيطًا، لكن في تلك اللحظة أحسست أنه يحمل ثِقل تحيّة لإنسان صامد تحت شمس لا ترحم.
رفع رأسه.
رأيت في عينيه مزيجًا من التعب والعرفان.
وقال بصوت خافت، كأنه يخرج من أعماق بعيدة:
«شكرًا يا دكتور».
ثم عاد إلى وقفته الأولى، وحيدًا في مسرح صيف لا يعرف الرحمة.
 
 الشرطي ذو النظرة الدافئة 
كان صباحًا رماديًا، خفيفًا مثل ورقة لا تعرف إلى أين تسقط.
كنت أمشي ببطء في اتجاه محطة القطار الرباط، شارع محمد.الخامس.
فجأة لمحته يمر بقربي ، قبعته في يده، كأنه عائد من رحلة طويلة متعبة. 
ابتسمت وسألته:
«كيف حالك يا صديقي؟ ليلة صعبة؟»
رفع رأسه.
في عينيه لم يكن هناك شكوى، ولا بطولة، بل صدق بسيط… صدق يضيء القلب.
قال:
«جدًا… أتوق أن أصل إلى بيتي، أقبّل أولادي، آكل شيئًا، وأعانق زوجتي».
كان يتكلّم بطمأنينة رجل يعرف أن السعادة تختبئ في الأشياء الصغيرة التي نمرّ عليها بلا انتباه:
قبلة، طبق دافئ، حضن ينتظر عودته.
قبض بقوة على قبعته، حيّاني، ومضى.
وفكرتُ: هذه هي عظمة الإنسان البسيط.… لا أكثر ولا أقل.
 
 طريق الدراجات النارية 
كان الصباح هادئًا، والشارع واسعًا، والمدينة تستيقظ على مهل.
قدت سيارتي دون انتباه كافٍ، فوجدت نفسي في المسار المخصص للدراجات النارية.
أشار إليّ شرطي ليستوقفني، بحركة رشيقة فيها احترام أكثر مما فيها سلطة.
اقترب من نافذتي وقال بابتسامة خفيفة:
«دكتور… (شعار الطبيب يفضحني دائمًا)… هذا ليس مسارك».
كنت أعلم.
وهو كان يعلم أنني أعلم.
تبادلنا نظرة فيها شيء من الرفق، كأن خطئي الصغير سرّ لا يخص سوانا.
قال:
«سنساعد بعضنا… أنت تخدم الناس، ونحن نخدمهم أيضًا».
لكن المشهد لم يكتمل كما توقّع.
فجأة، مرّت رئيسته.
امرأة قوية الحضور، نافذة النظرة، وراء مقود سيارتها.
بإشارة واحدة تغيّر كل شيء.
لم يكن ينوي تحرير مخالفة.
لكن وجودها فرض قانونًا آخر.
«150 درهمًا… بدل 400. ومن دون أي خصم من النقاط».
هذا ما أقره الشرطي. 
ثم سلّمني الشرطي نظرة خفيفة، فيها اعتذار وفيها وفاء للإنسان قبل القانون.
قرأت فيها:
القوانين قوانين… لكن الرفق يبقى من شيم البشر.
انطلقت وأنا أشعر بأنني خرجت من حكاية قصيرة، كتبتها الحياة بيد دقيقة تجمع بين العدالة والرحمة.
 
 الوجه الآخر للزيّ الرسمي 
كانت تلك اللحظات قصيرة، دقيقة من الزمن، أو أقلّ.
كان يمكن أن تمرّ بلا أثر، لولا أنها كشفت لي شيئًا مهمًا:
خلف كل زيّ رسمي… هناك إنسان.
رجل أو امرأة، بقلب يخفق، وهموم تثقل، وأحلام تشرق كل صباح.
وجوه محروقة بالشمس.
أصوات متعبة من ليالٍ طويلة.
حركات ثابتة تحمي مدينة كاملة من الفوضى.
نحن لا نراهم كما يجب.
لكنهم، دومًا، يروننا.
وأحيانًا، في لحظة صادقة، تمرّ بيننا شرارة صغيرة:
كلمة، سلام، مساعدة، غرامة مخففة، ابتسامة…
إنسانية هادئة، لا تحتاج إلى ضجيج كي تُفهَم.