Tuesday 25 November 2025
كتاب الرأي

رضا الفلاح: أي نموذج مغربي للحكم الذاتي في الأقاليم الصحراوية؟

رضا الفلاح: أي نموذج مغربي للحكم الذاتي في الأقاليم الصحراوية؟ رضا الفلاح
يقوم مفهوم الحكم الذاتي على التمييز بين الاختصاصات التي تؤول إلى سلطات جهوية تسير شؤونها بنفسها، والاختصاصات السيادية التي تعود للسلطة المركزية، في إطار التقسيم العمودي للسلطة. يسعى الحكم الذاتي إلى التوفيق بين مبدأ السيادة والحفاظ على الوحدة الترابية من جهة، والمطالب التي قد تتعلق بمنح إقليم أو عدة أقاليم بعض الصلاحيات السياسية والحقوق الاقتصادية أوالثقافية. ويعد وفقا للقانون الدولي ولقرارات الأمم المتحدة وفي التجارب الدستورية المُقارنة شكلا من أشكال تقرير المصير أو ما أصبح يُعرف في القانون الدولي الحديث بتقرير المصير الداخلي.
ليس في نظام الحكم الذاتي نموذج أو مقاس واحد يناسب الجميع، فمصطلح الحكم الذاتي متعدد الدلالات، إذ يشير إلى نماذج متنوعة من التنظيم تتراوح بين اللامركزية والجهوية والفيدرالية. ويشكل عمليا أساسا مستداما لحل النزاعات سواء كانت داخلية أو إقليمية، أو للاستجابة لخصوصيات معينة في أحد أو عدة أقاليم داخل الدولة الواحدة. ويتحدد اختيار النموذج الأنسب بناء على فهم مسبق وشامل لخصوصيات كل حالة على حدى وتبعا لسياقاتها السياسية والتاريخية. وما زال مفهوم الحكم الذاتي غير محدد بدقة وفاسحا المجال لقراءات وتأويلات متعددة وفقا لسياق كل حالة. وتلعب المحددات الداخلية والجيوسياسية إلى جانب التأثيرات الخارجية (مثلا منظمة الأمم المتحدة والقوى العظمى) أدوارا مهمة في مسار صياغة وتنفيذ أي شكل من أشكال الحكم الذاتي.
ولذا، فإنه من الضروري قبل الخوض في النقاش حول التجارب المُقارنة، أن نقوم أولا بتحديد ملامح هذه الخصوصية المغربية كمتغير مستقل بينما تبقى صيغة الحكم الذاتي المنتظر تفصيلها مجرد مسألة تقنية ومتغيرا تابعا.
سيتم تقسيم هذه الخصوصيات إلى أربعة أصناف كبرى: 1- الخصوصيات الجيوسياسية والمرتبطة بطبيعة النزاع؛ 2- الخصوصيات المرتبطة بالبنية التاريخية والسياسية؛ 3- الخصوصيات الانتروبولوجية؛ 4- الخصوصيات المرتبطة بالجغرافيا الاقتصادية.
 
الخصوصيات الجيوسياسية والمرتبطة بطبيعة النزاع
تتمثل الخصوصية الأولى في أنه خلال العشرين سنة الماضية فرض المقترح المغربي أولويته ووجاهته كأفضل وسيلة للتسوية السياسية والواقعية دوليا وأمميا. تستمد الحالة المغربية قوتها في الحصول على اعتراف دولي واسع جدا بالسيادة المغربية على الصحراء بشكل صريح أو من خلال دعم مقترح الحكم الذاتي تحت السيادة المغربية.
أما الخصوصية الثانية فتتعلق بإقليمية النزاع وبالأخص الدور الأساسي الذي لعبته منذ البداية الجزائر ودول أخرى في افتعال النزاع وتأسيس ميليشية انفصالية مسلحة، وهو ما يتعارض مع الطابع الوحدوي للصحراء كجزء لا يتجزأ من المغرب خضع في فترة معينة للاستعمار الاسباني. وبالتالي، فحالة الأقاليم الجنوبية تختلف عن عدة حالات كان النزاع فيها متمركزا حول أسباب داخلية محضة تتعلق بالتمايز الإثني أو العرقي والثقافي أو تتعلق بأقلية معينة داخل فضاء جغرافي مثل حالة إقيم كاطالونيا وإقليم كردستان العراق أو التاميل بسريلانكا. مفهوم الأقلية العرقية أو الإثنية غير موجود في المغرب، وفي هذا الصدد يقول عالم الاجتماع المغربي محمد الشرقاوي:"تاريخ المغرب بدون الصحراء غير مفهوم، والصحراء بدون المغرب مجرد صحراء". عموما، يجمع المغرب بين غنى وتنوع ثقافته، وفي نفس الوقت انسجام وتناغم مكونات هويته الجامعة.
تتعلق الخصوصية الثالثة بارتباط النزاع بالإرث الكولونيالي وتقسيم المغرب بين قوتين استعماريتين أوروبيتين هما فرنسا وإسبانيا، وهذا ما عزز انطباعا مغلوطا بأن هناك خصوصية تاريخية تتعلق بالأقاليم الصحراوية، بينما الراسخ في الامتداد التاريخي والجغرافي هو روابط البيعة وبين شيوخ القبائل الصحراوية وسلاطين المغرب منذ قرون عديدة، وقد خلقت هذه الروابط مظاهر للسيادة وفق ما يُعرفها القانون الدولي.
تتعلق الخصوصية الرابعة بطبيعة النزاع الذي دار بالصحراء المغربية، بحيث لم يتعلق الأمر بحركة سياسية مطالبة بالاستقلال من داخل الإقليم، بل كانت في البداية انتفاضة ضد الاستعمار الاسباني قبل أن تتحول إلى ميليشية مسلحة مدعومة من دول أجنبية منذ تأسيسها سنة 1973 تحت رعاية ليبيا والجزائر. وقد تشبت سكان المناطق الصحراوية في الدفاع عن أرضهم ضد البوليساريو انطلاقا من اعتزازهم بالهوية الجامعة للأمة المغربية. هذه الخصوصية هي ما تجعل من الحالة المغربية مختلفة عن حالات أخرى مثل حالة إقليم الباسك أو حالة كوسوفو أو جزر آولاند (فنلندا).
 
الخصوصيات المتعلقة بالبنية التاريخية والسياسية
يتميز السياق التاريخي لحالة الأقاليم الجنوبية بعلاقات الولاء التقليدية ذات الطابع الديني والسياسي والقائمة على البيعة وعلى الامتداد القبلي، وتعيين ممثلي السلطان المغربي في الصحراء بظهائر ملكية. كما أن القبائل في الصحراء تشكل امتدادا متجانسا مع بقية المغرب في الهوية الدينية وفي اللغتين العربية والأمازيغية، والعديد من العادات والتقاليد الاجتماعية والثقافية. ولا ننسى بأن القبائل الصحراوية كسائر القبائل الموجودة في المغرب كانت دوما إلى جانب سلاطين وملوك المغرب في صف المقاومة ضد الاستعمار الأوروبي.
تتجسد الخصوصية الثانية في بنية الدولة المغربية الموحدة، والتي وضعت إطارا دستوريا وقوانين تنظيمية ترسي من الناحية النظرية أسس الجهوية الموسعة وليس الحكم الذاتي. لم يعمد المغرب إلى وضع نموذج "دولة واحدة بنموذجين أو عدة نماذج للحكم" كما فعلت الصين فيما يخص هونغ كونغ وماكاو أو إسبانيا فيما يخص أقاليم كاطالونيا والباسك وغاليسيا. وبالتالي، فإن الحكم الذاتي الأنسب في الأقاليم الجنوبية هو النموذج الذي سيرسخ ويقوي من الجهوية المتقدمة.
الخصوصيات الأنتروبولوجية:
تكمن الخصوصية الأولى في سياق تاريخي تميز بوجود هوية مشتركة وجامعة تضمن مكانا للتعبير عن الإرث الثقافي لجهات المغرب. وقد شهدنا في العقدين الأخيرين تطورا إيجابيا في اتجاه حماية وتثمين الثروة اللامادية المتمثلة في الغنى والتنوع الثقافي، وعلى مستوى الاعتراف بالخصوصيات الثقافية وتثمينها باعتبارها إرثا لاماديا يشكل مصدر قوة ناعمة ونموذجا يمكن الاحتذاء به من قبل دول أخرى في تدبير تنوعها الثقافي بطريقة تعزز من الوحدة الوطنية والانسجام الثقافي بدل أن تتسبب في توترات أو نزعات انفصالية. وفي هذا الصدد، يبرز بوضوح اختلاف حالة الصحراء المغربية عن حالة كاطالونيا والباسك تحت حكم الجنرال فرانكو الذي فرض إقصاء ممنهجا للخصوصيات الثقافية واعتبرها تهديدا للوحدة الإسبانية، ويختلف أيضا عن نماذج أخرى كالتيبيت في الصين أو جزيرة كورسيكا بفرنسا قبل أن تتجه السياسة الفرنسية في السنين الأخيرة نحو توسيع اختصاصاتها.
تتمثل الخصوصية الثانية في وجود امتداد إثنو-قبلي يربط الأقاليم الصحراوية بباقي التراب المغربي، وهذا ما يشكل جوهر الطابع الانتروبولوجي للصحراء المغربية كصورة مماثلة للمكونات الأساسية للهوية المغربية وهي العربية والأمازيغية والحسانية.
الخصوصيات المرتبطة بالجغرافيا الاقتصادية
لم تكن في يوم من الأيام قضية الصحراء مصدرا للربح الاقتصادي بالنسبة للمغرب، بل على العكس تماما لقد ضخ المغرب استثمارات ضخمة في الأقاليم الجنوبية منذ 1975 بحيث يناهزحجم هذه الاستثمارات حسب التقديرات 132 مليار درهم. وبحكم طول أمد أقدم نزاع في القارة الإفريقية، فلقد قدم المغرب والمغاربة قاطبة من طنجة إلى الكويرة تضحيات جسيمة من أجل الوحدة الترابية والوطنية. ومن المؤكد أن الحكم الذاتي سيطرح مسألة الموارد الطبيعية في الصحراء والتي سيمكن التنقيب عنها واستغلالها في مرحلة ما بعد نهاية النزاع. في هذا الصدد، ينبغي التنبيه إلى أن صيغة صلبة وغير متماثلة asymétrique للحكم الذاتي فيما يخص المجال الاقتصادي والضريبي من شأنها أن تفضي إلى توترات تهدد الوحدة الوطنية. وتعد كاطالونيا نموذجا حيا على ما قد يحصل إذ عزز هذا الوضع من النزعة الانفصالية لدى بعض الكاطالان وأدى إلى أزمة 2017 بعد تنظيم استفتاء غير دستوري وإعلان الانفصال. نفس التحذير يأتينا من النموذج الإيطالي الذي مر بالعديد من التوترات بين الشمال والجنوب جراء تعميق الحكم الذاتي في المنطقة المسماة بدانيا (تسمية سياسية لمنطقة أقصى شمال إيطاليا الغنية مقارنة بوسط وجنوب إيطاليا).
الخاتمة
وكخلاصة لما سبق، فإن الخصوصيات المتعددة للحالة المغربية تقتضي من صناع القرار أن يحددوا في مرحلة أولى النماذج التي تختلف بشكل جذري عن الأقاليم الصحراوية انظلاقا من مبدأ "لا يُقارن إلا ما ما هوقابل للمُقارنة". وفي المرحلة الثانية، نحدد الخصائص العامة التي تنسجم مع المعايير الديمقراطية والوحدة الترابية، ثم بعد ذلك نضع الصيغة التي تراعي الجذور الجيوسياسية للنزاع وكذلك الخصوصيات التاريخية والسياسية والاقتصادية والانتربولوجية لارتباط إقليم الصحراء بباقي المغرب ككل.
وعلى هذا الأساس، سيكون من الضروري وضع تنزيل الحكم الذاتي بشكل تدرجي تحت سلطة الدولة المركزية فيما يخص تنفيذه وتأويله بشكل يستبق المخاطر الممكنة ويصحح المسار في الوقت المناسب. أما فيما يخص مصدر الاستلهام الذي يمكن أن تشكله التجارب المقارنة، فالمسألة يجب أن تظل تقنية، إذ يمكن دراسة بعض التفاصيل الإجرائية التي نجح تطبيقها في تجارب تتضمن بعض التقارب مع الحالة المغربية، مع العلم أن النموذج السياسي في جوهره لا يمكن إلا أن يكون فريدا ومغربيا خالصا و بخطوط حمراء واضحة فيما يتعلق بمقومات السيادة.
وأخيرا، فإن مفتاح الحكم الذاتي هو تحقيق التنمية والعدالة المجالية إلى درجة أن الكل سينسى الحكم الذاتي لأنه مجرد تقنية ويصبح السؤال ليس حول أي سلط ستتوزع ولا حتى هل سينجح النموذج، و لكن كيف سيتم خلق تنمية وثروة وفرص للاستثمار وللعمل، وكيف ستتوزع ثمار التنمية بالشكل الذي سيعود بالنفع على المغرب والمغاربة بشكل عادل ومنصف.