Monday 24 November 2025
كتاب الرأي

عزيز جلال: الأخصائيون النفسيون مناطق الالتقاء والافتراق داخل النفس الإنسانية

عزيز جلال: الأخصائيون النفسيون مناطق الالتقاء والافتراق داخل النفس الإنسانية عزيز جلال
بحكم الثقافة المغربية وخصوصية المجتمع ، أضحى مصطلح " الأخصائي النفسي" من بين المصطلحات الأكثر تداولا ، لكن هذه العبارة لا تعني شخصا بعينه ولا تخصصا لذاته ، فالنفس، بما هي كيان معقد، لا تعالج أو تفهم عبر تخصص واحد، بل عبر نظام معرفي متعدد، تتجاور فيه المقاربات وتتقاطع، دون أن تذوب أو تتكرر،والاختزال عفوي في الكثير من الحالات يطبعه حسن النية ، في الوقت ذاته ، قد يخفى على الكثير من الذين يتداولون هذه العبارة أنها حمالة لتعدد معرفي ثري ومدهش، بمرجعيات ومدارس متنوعة لكل رؤيتها ووسائلها في الاشتغال او في الأهداف او في الفئة -مجال اشتغالها-، حيث مجال النفس البشرية لا يتم تناوله بصيغة الجمع بل هي حالات فردانية أو لنقل هي فسيفساء دقيقة ، تحتاج إلى تداخل كل التخصصات ، برؤية واضحة حيث لا مجال للتطابق أو التضاد بل التقاطع ، تداعيات التحديث الذي يعرفه المجتمع المغربي وارهاصاته على البنى التقليدية المتغلغلة، حيث لا تزال وصمة المرض النفسي تقف حاجزا امام طلب المساعدة او العلاج النفسي، حلات الهدر المدرسي، والطلاق، والاكتئاب ، والوساوس، كلها مؤشرات واضحة تصب في كون وجود الأخصائيين النفسيين ليس ترفا أو رفاهية ، بل أضحى ضرورة وطنية للمساهمة في تكوين وبناء المواطن السوي المساهم في مسايرة العصر والتكيف مع تقلبات المزاج والضغوطات النفسية والاجتماعية، هل يجوز لنا الحديث عن الأخصائي النفسي بصيغة المفرد ، أم من الواجب التمييز بين مختلف تخصصات علم النفس ، هل كل اخصائي نفسي مخول له الغوص في كل مناحي حياة الأفراد والجماعات على حد سواء أم أن لكل تخصص ميدانه ، وأنه من الواجب أن نستحضر مناطق الالتقاء والافتراق بين الأخصائيين بصيغة الجمع، لا من باب المقارنة والمفاضلة ولكن من باب التوضيح ، وإثراء النقاش في مجالات تهم كل الأفراد باختلاف ثقافاتهم واهتماماتهم، متى فتحت النفس أبواب الجروح والصدمات نلتقي بعلم النفس الإكلينيكي ، الذي من اختصاصاته التعامل المباشر مع الظواهر النفسية والاضطرابات السلوكية ،مجاله غرفة الألم الداخلي و زاده ومقصدمه معرفة " لماذا "السلوك ،حيث يختلف عن الطبيب النفسي الذي همه اعادة توازن السلوك من خلال مقاربة بيوكيميائية لأن السؤال عنده هو "كيف "
فكيف يصير الدارس لعلم النفس أخصائيا اكلينيكيا؟
ومن يحق له ممارسة العلاج النفسي؟
العلاج النفسي لا يمارس إلا من طرف الأخصائيين الإكلينيكيين المكونين بعد الحصول على الإجازة في علم النفس ، يتلقى تكوينا أكاديما في علم النفس المرضي ، بسلك الماسترمع تدريب ميداني بالمستشفيات والمصحات تحت إشراف أهل الخبرة والتجربة في الميدان ، مع تكوين عملي وتطبيقي في الاختبارات الاسقاطية والموضوعية ، ونظريات العلاج النفسي، ومهارات المقابلة الاكلينيكية ومهارات التشخيص، والبرتوكولات العلاجية
لكن الأمر يختلف عندما نرغب في قراءة النفس من خلال مرايا المجتمع فهو ميدان علم النفس الاجتماعي ، الذي يهتم بتحليل الظواهر الجماعية ، وتقييم أثر العوامل الاجتماعية على الصحة النفسية ،وإعداد برامج التوعية ، ودراسة السلوك في سياقاته الاجتماعية ، الأخصائي الاجتماعي لا ينزل إلى الأعماق الداخلية للفرد، بل يقرأ الظواهر التي تحيط به، ويعمل على بناء استراتيجيات الوقاية المجتمعية، وتصميم حملات التوعية والتدخل الميداني .. لكنه جزء أساسي من المنظومة: فلا علاج فردي يمكن أن ينجح إذا كان الفرد مأخوذا في أزمة اجتماعية مفتوحة، بل لابد من العلاج الاجتماعي للبنى المنتجة للضغط.
وفي المدرسة تتشكل البذرة الأولى وتنمو شخصية المتعلم، يعمل الأخصائي التربوي المدرسي على تشخيص عسر القراءة والتشتت وبطء المعالجة، ومشاكل السلوك المدرسي،وإعداد البرامج النفسية الوقائية داخل المؤسسات التعليمية، لكنه يبقى تدخلا نمائيا تعليميا وليس تدخلا علاجيا
وفي مجال الأسرة باعتبارها البنية الاكثر حساسية وأي خلل يعتريها ينعكس على الفرد يشتغل الأخصائي الأسري ، على ديناميات العلاقة الزوجية، الإرشاد الأسري، فالنزاعات الأسرية يتدخل الأخصائي من أجل إعادة هندسة العلاقات وضبطها
لكن حين تتكلم الأعصاب بصمت فلابد من ربط السلوك بالدماغ والأعصاب ، فيصير المجال ضرورة تقيم الوظائف المعرفية من ذاكرة وانتباه و.....وهو مجال علم النفس العصبي زاده في ذلك اختبارات متخصصة الأقرب للطب، لكنه يحتفظ في جوهره بالتخصص النفسي
وفي مجال الجرائم والسلوك المنحرف ، فعلم النفس الجنائي يعمل على فهم الظاهرة لا تبريرها من خلال تحليل السلوك الاجرامي وتقييم خطورته وفعم الدوافع النفسية للانحراف، والمساهمة داخل السجون والمحاكم
ومواكبة الفضاء الرقمي فعلم النفس السيبراني يتدخل لفهم الادمان الرقمي والسلوك الافتراضي والعنف الالكتروني والهوية الرقمية وغيرها من الظواهر التي برزت مع التحولات الرقمية في المجتمعات
والمبدأ بسيط العلم واحد لكن المهام متفرقة :
التداخل ممكن… لكن الاستبدال مستحيل
التقاطعات دون الانصهار، اكيد هناك تقاطعات جلية بين مختلف التخصصات النفسية في الملاحظة العلمية، الإصغاء، التقييم الأولي، والبرامج الوقائية، لكنها تختلف في التشخيص العيادي، العلاج، التعامل مع الأعراض المعقدة، فالتميز ليس في التخصص بل في الإخلاص لما تخصصت فيه ، فمتى رأينا جراحا يلغي طبيب القلب ، او اكلينيكيا يلغي تربويا، ولا اجتماعيا يلغي معرفيا أو عصبيا ، لكن في ظل كل هذا الجراح وحده من تلقى عليه مسؤولية ودور فتح الجسد من باب المسؤولية لا من باب التفرد أو رغبة جامعة منه لإقصاء غيره
وبكلمة نقول ختاما ، نظرا لارتفاع الضغوط النفسية، والاضطرابات، والعنف، والإدمان، وانهيار الروابط الاجتماعية، تصبح الحاجة ملحة لتكامل: الإكلينيكي للعلاج و الاجتماعي للوقاية والتربوي للدعم الأسري و الباحث لإنتاج المعرفة والموارد البشرية لتحسين العمل
كلما احترمنا الحدود، أكيد سيزدهر التعاون وحين تصان التخصصات، يستعيد الإنسان مكانه في المركز،فكل فرد وكل شخص يستحق أن يفهم ويعالج ويواكب لاحالة تتسابق عل تبنيها التخصصات .