Sunday 12 October 2025
فن وثقافة

تعليم اللغة العربية والثقافة المغربية للطلاب الروس: نموذجٌ لتعزيز الدبلوماسية الثقافية بين المملكة المغربية وروسيا الاتحادية

تعليم اللغة العربية والثقافة المغربية للطلاب الروس: نموذجٌ لتعزيز الدبلوماسية الثقافية بين المملكة المغربية وروسيا الاتحادية إلياس التاغي وجانب من الحضور

مقدمة:

في ظل التحولات المتسارعة التي يشهدها النظام العالمي الجديد الذي يتجه نحو عالم متعدد الأقطاب، تتزايد الحاجة إلى مدّ جسور التواصل الحضاري بين البلدان والشعوب، باعتبارها سبيلا لترسيخ قيم الحوار والتسامح والتفاهم والاحترام المتبادل، ومواجهة الهيمنة الثقافية والتصورات النمطية الضيقة عن الشعوب وثقافتها وحضارتها. ذلك أن التنوع الثقافي والحضاري منبع لتقدم وازدهار المجتمع الإنساني.

 ومن هذا المنطلق، تبرز مبادرة تعليم اللغة العربية والثقافة المغربية للطلاب من روسيا الاتحادية، في إطار اتفاقية التعاون بين كلية أصول الدين بالمملكة المغربية ومركز الثقافة العربية "الحضارة" بروسيا الاتحادية، بوصفها تجربة علمية وثقافية رائدة تستحق الوقوف عندها والتفكير في أبعادها الحضارية والإنسانية.

المحور الأول: من الفكرة إلى التأسيس؛ نشأة مركز الثقافة العربية " بروسيا الاتحادية"، ورسالته الحضارية

انبثقت فكرة تأسيس مركز الثقافة العربية "الحضارة" بجمهورية تتارستان في روسيا الاتحادية من خلال تجربة غنية عاشها مؤسِس المركز الدكتور محمد صالح العماري الذي تلقى تعليمه الابتدائي والإعدادي والثانوي في مدينة عدن، حيث وُلد ونشأ في أسرة ميسورة، وتفتحت ميوله نحو النشاطات العامة في المدرسة، فصار عضوا لأول منظمة "طلائع" للأطفال، التي أُسست فيما كان يُسمى وقتئذ باليمن الديمقراطية حتى أصبح عضوا لاتحاد الشباب الاشتراكي اليمني، حيث صار قياديا في اللجنة المديرية، فانتخب حينها عضوا لمنظمة الحزب الاشتراكي اليمني. وهذا ما سهل له الحصول على المنحة الدراسية، الممولة من الدولة اليمنية للدراسة الجامعية بالاتحاد السوفيتي. فسافر في سنة 1982م للدراسة في الاتحاد السوفيتي، وانتهى من الدراسة الجامعية في سنة 1988م. من ثم، عاد إلى عدن حيث عُين نائبا لمدير ثانوية الجلاء في محافظة عدن، واشتغل في الثانوية حتى عام 1994م. وبعد ذلك، توجه لدراسة الدكتوراه في روسيا الاتحادية بدعوة من أكاديمية علوم جمهورية تتارستان، بعد سقوط الاتحاد ‏السوفيتي، فواصل دراسته حتى عام 1997م، ‏وحينها طُلب منه تدريس اللغة العربية في الجامعة إلى جانب دراسته في سلك الدكتوراه. ومن هنا بدأت تتكوَّن اهتماماته باللغة العربية وقضاياها، لكن بعد أن أنهى دراسته في الدكتوراه، عاد إلى اليمن لمواصلة عمله بوزارة التربية والتعليم. وبعد سنتين من عمله في الوزارة وصلته دعوة من رئاسة جمهورية تتارستان للعمل في المؤسسات التعليمية الحكومية في تدريس اللغة العربية. ومن سنة 2002م، بدأ عمله كأستاذ للغة العربية في جامعة قازان الفيدرالية حتى اليوم. وعلى هذا الأساس، ففكرة تأسيس المركز جاءت نتيجة مزاولته لتعليم اللغة العربية للناطقين بغيرها. ويذكر في حواره معنا بجريدة "أنفاس بريس" أن البدايات الأولى لتأسيس المركز، والشروع في تنظيم بعض الفعاليات، انطلقت من مبادرة جماعية جمعته بمعلمين عربين كانا مقيمين آنذاك في جمهورية تتارستان، وهما: الدكتور تقي الدين الصمادي من الأردن والأستاذ أمير الحاج من السودان. ويؤكد أن المركز في هذه المرحلة لم يكن "يحمل الصفة القانونية". ويضيف، أن نقطة التحول جاءت من لقاء جمعه بأستاذه المشرف على أطروحة الدكتوراه، الأكاديمي ميرزا محمودوف، إحدى الشخصيات العلمية البارزة في جمهورية تتارستان، والذي روى له حديث الرئيس قائلا:"الرئيس استدعاني يوم أمس فذهبت إليه فطلب مني تأسيس المركز للثقافة العربية، وأنا كما ترى شخص مشغول جدًا ومتقدم في العمر، فإذا كانت لديك الرغبة والاستعداد لهذا العمل سأعطيه الموافقة وإذا لا ترغب فأنا سأعتذر له."

رد الدكتور العماري بالموافقة، وأوضح لمشرفه الدكتور محمودوف، أن المركز موجود بالفعل، وأن الخطوة الأساسية الآن تكمن في إضفاء الصفة القانونية عليه. ومن ثم، تكلف محمودوف بالمهمة، ونظم اجتماعا رسميا للمجلس العلمي للمعهد التتاري الإقليمي، الذي أقرّ تأسيس المركز رسميا.

ومباشرة بعد الحصول على الموافقة، تم تخصيص مكتب وقاعات دراسية داخل مبنى المعهد، وبدأ الفريق بتقديم الدروس المسائية لتعليم اللغة العربية، إلى جانب تنظيم العديد من النشاطات الثقافية والتعليمية الهادفة إلى نشر اللغة والثقافة العربية، مؤسسين بذلك مرحلة جديدة من العمل الأكاديمي والثقافي الجاد. وأشار أن أنشطة المركز انطلقت من سنة 1999م، وكانت تركز بشكل أساسي على الترويج للغة والثقافة العربية بين الشباب في جمهورية تتارستان. ‏وشملت هذه الأنشطة تنظيم أيام الثقافة العربية، والمسابقات الكبرى باللغة العربية، وبعض الحلقات النقاشية والمحاضرات والمؤتمرات، إلى جانب عدد من ‏المعارض التي عرضت العالم العربي بصورته المشرقة، خلافا لما تروجه آلة الإعلام الغربية من مظهر قاتم للشعوب العربية وثقافتها وحضارتها.

وتأتي هذه الأنشطة في إطار الرسائل الحضارية والإنسانية للمركز من أجل تعزيز التنمية المستدامة، وتوطيد التفاهم المتبادل، وبناء الثقة، والتعاون الشامل، والصداقة بين شعوب روسيا الاتحادية والدول العربية. كما يسعى المركز من خلال برامجه إلى تعريف شعوب روسيا الاتحادية بتاريخ وتطور الشعوب العربية، والإنجازات التي تحققت في مجالات الثقافة والتعليم والرياضة والاقتصاد والعلوم والتكنولوجيا، مؤكدا بذلك رسالته الحضارية التي تربط بين حضارة الشعوب العربية وحضارة شعوب روسيا الاتحادية.

المحور الثاني: اتفاقية التعاون بين مركز الثقافة العربية "الحضارة" وكلية أصول الدين تُسْهم في تعزيز الدبلوماسية الثقافية بين روسيا الاتحادية والمملكة المغربية

المعلوم أن مركز الثقافة العربية "الحضارة" بروسيا الاتحادية شراكات متعددة مع العديد من المؤسسات التعليمية والمراكز الثقافية. وتشمل هذه الشراكات جامعة تشرين في سوريا، والوكالة المصرية للشراكة من أجل التنمية التابعة لوزارة الخارجية المصرية منذ أكثر من 17 عاما. كما يضم التعاون جامعة القاهرة من خلال كلية الدراسات العليا للتربية، ومهرجان أسوان لسينما المرأة. ويشمل التعاون أيضا جامعة السلطان قابوس في عمان عبر مكتب التعاون الدولي، وكلية الآداب، وأكاديمية إسطنبول للغات، وعلاقات طويلة المدى مع جامعة عبد المالك السعدي ممثلة بكليتي الآداب والعلوم الإنسانية وكلية أصول الدين بالمغرب.

 

استماع النشيدين الوطنيين، المغربي والروسي، بحفل افتتاح الدورة التكوينية الصيفية بكلية أصول الدين لعام 2025م

وخلال الفترة الممتدة من 2011 إلى 2014، استفاد طلاب المركز من الدورات الصيفية في اللغة العربية والثقافة المغربية بكلية الآداب والعلوم الإنسانية، بينما تُقام هذه الدورات منذ 2015 وحتى اليوم بكلية أصول الدين. بحيث بلغ عدد المستفيدين من هذه الدورات التكوينية 576 طالبا وطالبة، إلى ‏جانب 14 معلما ومعلمة، ما يعكس حجم التعاون والانفتاح والتفاعل الأكاديمي بينهما في دعم تعليم اللغة العربية والتعريف بالثقافة ‏المغربية. ‏

وأوضح الدكتور العماري في حواره مع جريدة "أنفاس بريس" أن التعاون بين المركز وجامعة عبد المالك السعدي أثمر عن تنفيذ 16 دورة تكوينية، إلى جانب عقد دورات لتبادل الخبرات بين ‏المعلمين والإداريين. كما أكد على المشاركة الفاعلة لأساتذة جامعة عبد المالك السعدي في المؤتمرات الدولية التي نُظمت ‏في مدينة قازان، إضافة إلى المشاركة السنوية في لجنة تحكيم المسابقة الدولية للغة العربية والثقافة، التي ينظمها مركز "الحضارة" ‏بالتعاون مع معهد العلاقات الدولية والتاريخ والدراسات الشرقية والإسلامية في جامعة قازان الفيدرالية.‏

وهذا ما أكده الدكتور أحمد الفقيري، أستاذ بكلية أصول الدين وأحد المشاركين في لجنة التحكيم في مسابقة أولمبياد اللغة العربية، ‏بقوله: "صحيح، في إطار الشراكة التي أبرمت بين جامعة عبد المالك السعدي ومعهد العلاقات الدولية والتاريخ والدراسات الشرقية ‏والإسلامية في جامعة قازان الفيدرالية، تم دعوة وفد كلية أصول الدين من طرف الجامعة للمشاركة في أولمبياد اللغة العربية، ‏والمشاركة في لجان التحكيم للمسابقة."

ويأتي هذا التعاون في إطار اتفاقية الشراكة التي تجمع الجانبين، والتي تهدف إلى تنمية الكفايات اللغوية لدى الطلاب من ‏روسيا الاتحادية، وتعميق معارفهم حول الثقافة المغربية، وتمكينهم من الاندماج في البيئة المغربية لفهم فنونها وتراثها ‏وعاداتها وتقاليدها، وتنوعها الثقافي واللغوي الذي يجمع بين الأصالة والانفتاح. كما يسعى التعاون إلى تعريفهم بعمق اللغة ‏العربية كما تُستعمل في المغرب، وتشجيعهم على ‏الحوار الثقافي، وإبراز لهم دور المغرب التاريخي والحضاري كجسر للتواصل بين إفريقيا وأوروبا ‏والعالم العربي.‏

وبهذا، يزرع مركز الثقافة العربية "الحضارة" وكلية أصول الدين بين المملكة المغربية وروسيا الاتحادية قيم التنوع ‏والتعايش الثقافي، والتسامح والحضور الحضاري، والاحترام المتبادل من خلال الدورة التكوينية الصيفية في تعليم اللغة ‏العربية والثقافة المغربية لفائدة الوفد الطلابي القادم من مختلف الجامعات والمعاهد من روسيا الاتحادية، منها جامعة الصداقة ‏بين الشعوب (‏RUDN‏)، والمدرسة العليا للاقتصاد بموسكو، وجامعة "سانت بطرسبرغ" الحكومية.‏

نضرب مثالين عن الاحترام المتبادل بين المملكة المغربية وروسيا الاتحادية في سياق هذه الدورة التكوينية. المثال الأول ‏يتمثل في الأنشطة الثقافية التي تسعى إلى التعريف بالتنوع الثقافي الروسي بالمغرب. ومن ضمن هذه ‏الأنشطة، الأمسية الثقافية بالمركز الثقافي لرشوندي بمرتيل، التي قدم المشاركون خلالها تقاليد وعادات بلدان روسيا الاتحادية من خلال عروض في الموسيقى، والشعر، والرقص، والمأكولات التقليدية.

                 الصورة من أمسية ثقافية التي أقيمت يوم 17 يوليوز 2025م، بالمركز الثقافي لرشوندي بمرتيل

والمثال الثاني، تم تنظيم ورشة أشرفتُ على تأطيرها عن الدارجة ‏المغربية برفقة الطالب ميخائيل تشيرنيخ - طالب في الدراسات ‏الإقليمية الأجنبية (الصين؛ الشرق العربي)، تخصص الاستعراب ‏بجامعة الصداقة بين الشعوب (‏RUDN‏). وقد جاء ذلك بدعوة من ‏مديرة دائرة مشاريع المركز، أليونا ريفينا، بمقر إقامة ‏الوفد الطلابي بمدينة مارتيل.

                 الطلاب روسيا الاتحادية المستفيدون من الورشة في الإطار ميخائيل تشيرنيخ وإلياس التاغي

وشكلت هذه الورشة فرصة للوقوف على الجذور التاريخية للدارجة المغربية، حيث تم تسليط الضوء على تأثير العوامل التاريخية والثقافية المتعددة، وعلاقات الجوار مع أوروبا، إلى جانب ما خلّفه الاستعمار الأوروبي، خاصة الفرنسي والإسباني، من أثر لغوي واضح. كما تم التوقف عند المكوّنين الأمازيغي والعربي، باعتبارهما من الركائز الأساسية في تشكيل الهوية اللغوية المغربية. مما أسفر عن نشوء نسيج لغوي متنوع تتمازج فيه الأمازيغية والعربية والفرنسية والإسبانية، الأمر الذي منح الدارجة المغربية خصوصيتها وثراءها. كما تم التوقف عند الخصائص والمميزات اللغوية لكل من الدارجة المغربية واللغة العربية الفصحى، مع إبراز أوجه التداخل والاختلاف بينهما، في سياق يرسخ قيم التواصل والحوار والاحترام المتبادل، ويعزز دور اللغة بوصفها جسرا للتقارب الثقافي والحضاري بين المملكة المغربية وروسيا الاتحادية.

المحور الثالث: انطباعات الطلاب الروس حول برنامج الدورة التكوينية ‏الصيفية والثقافة المغربية

تُبرز انطباعات الطلاب الروس المشاركين في الدورة التكوينية الصيفية لعام 2025م بكلية أصول الدين في ‏المغرب، وخاصة الذين أجريت معهم المقابلات المنشورة بجريدة "أنفاس بريس"، انطباعات إيجابية وغنية ‏بالتجربة الإنسانية والعلمية حول البرنامج. ومن خلال إجاباتهم، يتضح أن البرنامج اتسم ‏بالكثافة من حيث الساعات والمحتوى، لكنه في الوقت ذاته كان ممتعا ومثمرا. إذ لم يُنظر إليه كبرنامج ‏تعليمي، بل كتجربة شاملة لاكتشاف المغرب والاندماج في محيطه الاجتماعي والثقافي والحضاري. فمثلا، يقول بوتروس ساخاروف، طالب بالماجستير بكلية الدراسات الشرقية بجامعة "سانت بطرسبرغ" ‏الحكومية في روسيا: "بشكل عام، البرنامج كان مكثفا للغاية. كان لدينا ثلاثة حصص وأربع ساعات ونصف في اليوم. وأنا أحببت الدراسة هنا، فالمعلمون يتحدثون معنا، ونحن نتحدث معهم. كما أنني أحببت الثقافة المغربية، فهي منفتحة ومضيافة." ومن خلال تجربته، أكد أنه اكتسب عددا من المفردات الجديدة بالعربية وطوّر قدرته على صياغة الأفكار بسرعة أكبر، مما يعكس ‏تمثله الإيجابي للبرنامج باعتباره فضاء للتطور اللغوي والكفايات التواصلية.‏

أما إيلوزا إسماعيل، طالبة تدرس بالمدرسة العليا للاقتصاد في موسكو، بكلية علم الأحياء والتكنولوجيا الحيوية، في تخصص ‏التكنولوجيا الحيوية الخلوية والجزيئية، وتعمل بمسجد موسكو "الجامع" كمرشدة سياحية، فقد رأت في البرنامج تجربة تعليمية ‏وثقافية متكاملة. كما أكدت أن تنوع الأنشطة والرحلات خلال الإقامة بشمال المغرب مكّنها من الاحتكاك المباشر بالمغاربة ‏واكتشاف الثقافة المحلية عن قرب. وبما أنها شاركت في البرنامج للمرة الثانية، فقد أدركت القيمة المضافة لهذه التجربة، إذ تعلمت ‏الدارجة المغربية وطورت مهارات التحدث والترجمة من العربية إلى الروسية لزملائها.‏ تقول إيلوز إسماعيل: "الدورة التكوينية في اللغة العربية والثقافة المغربية، لم ننجح في تعلم اللغة العربية فحسب، بل نجحنا أيضا في مجالات متنوعة. وكانت ممتعة ومفيدة لكل الطلاب. وهذا البرنامج التعليمي وفر للطلاب التدريب الأساسي لتعلم اللغة العربية وممارسة مهارة الاستماع، والتحدث، والكتابة، والقراءة. وكذلك، في نفس الوقت، كان برنامجنا مليئا بالأنشطة والفعاليات العديدة خلال الإقامة بشمال المغرب لمدة خمسة أسابيع. وهذه الفترة سمحت لنا التعرف على الثقافة المغربية الحقيقية عن قرب، وذلك من خلال التواصل مع السكان المغاربة، والرحلات العديدة للمدن المغربية." وتضيف، قائلة: " خلال هذه الدورة التكوينية، تعلمت الدارجة، وشاركت في ورشة الدارجة المغربية، حتى أنني استطعت أن أتكلم مع السكان بالدارجة أكثر، بالمقارنة مع السنة الماضية.

ومن أبرز المهارات التي اكتسبتها، خلال هذه الفترة، خبرة جيدة وجديدة في الترجمة من اللغة العربية إلى اللغة الروسية للطلاب في مجموعتنا. وخاصة أن أغلب الطلاب يتعلمون اللغة العربية لمدة غير طويلة. لذلك، كانوا بالحاجة إليّ لمساعدتهم، أحيانا، في الترجمة من العربية إلى الروسية، خاصة خلال الزيارات العديدة للمتاحف والأماكن التاريخية التي زرناها".

في حين عبّرت سفيتلانا سيدوفا، من مدينة "بافلوفسكي بوساد"، المدينة المعروفة بشالاتها الملونة وتصاميم الزهور، وهي ‏طالبة بجامعة الصداقة بين الشعوب (RUDN) في مجال الصحافة، وتدرس اللغة العربية في الجامعة لتصبح صحفية في ‏وسائل الإعلام الروسية-العربية في المستقبل، عن انطباعها وتجربتها بالاندهاش والانبهار. فهي جاءت إلى المغرب لأول مرة بهدف تعلم اللغة العربية، لكنها وجدت في المغرب ‏أكثر مما كانت تتوقع. وقد انبهرت، كما تقول، بلطف الناس وحبهم.

تقول سفيتلانا سيدوفا: " هذا الصيف كنت في المغرب لأول مرة، وكان هدفي الأساسي من الرحلة هو تعلم اللغة العربية. لكنني، وجدت في المغرب أشياء كثيرة قيّمة، بالنسبة لي.. أنا مندهشة من الناس في المغرب على لطفهم، ومحبتهم لبلدهم. كنت سعيدة جدا برؤية أساتذتنا، بعيون متلألئة، وهم يحدثوننا عن الثقافة والتاريخ وحتى الاقتصاد. وهكذا لم أتعلم اللغة العربية والثقافة المغربية فحسب، بل وقعت في حب المغرب أيضا". فضلا عن ذلك، كانت هذه الدورة التكوينية بالمغرب، بالنسبة لها، غنية على المستويين اللغوي والشخصي. فهي لم تُخف دهشتها حين تمكنت من إجراء حوارات سلسة باللغة العربية، وهو ما اعتبرته أهم مكسب حققته خلال فترة التكوين. وتضيف، أن رغبتها في التواصل بالعربية جعلها أكثر انفتاحا واجتماعية، إذ ساعدها الاحتكاك اليومي مع المغاربة على تجاوز الخجل والتفاعل بثقة. أما المفاجأة الكبرى بالنسبة إليها، فكانت قدرتها على فهم قواعد اللغة العربية بالعربية، تقول: "جئت إلى المغرب لأتحدث العربية مع الناطقين بها. وقد فوجئت عندما أجريت حوارا جيدا مع البعض، وفهمنا بعضنا البعض. وهذا أهم شيء بالنسبة إليّ. كما ساعدتني الرغبة في التحدث باللغة العربية على أن أصبح اجتماعية أكثر.  وكانت المفاجأة بالنسبة إليّ، هي القدرة على فهم قواعد اللغة العربية. ولحسن الحظ، في كلية أصول الدين بتطوان، تمكنت من فهم كل شيء".

كما تعكس إجابات الطلاب الروس من خلال المقابلات التي أجريتها معهم مجموعة من الانطباعات الإيجابية تجاه الثقافة المغربية. وقد توزعت انطباعاتهم بين الإعجاب بالفنون المغربية من جهة، والانبهار بالكرم وحسن الضيافة والانفتاح على الآخر من جهة أخرى. فمثلا، بوتروس ساخاروف، يقول: "أكثر شيء أثار انتباهي في الثقافة المغربية الموسيقى والرقص..  أحببت الثقافة المغربية، فهي منفتحة." وفي المقابل، أشارت إيلوزا إسماعيل على البعد الإنساني في الثقافة المغربية، وعبّرت عن ذلك، بقولها: " لقد جذب انتباهي، في الثقافة المغربية، المغاربة أنفسهم. إن أجمل ما أعجبني في المغرب، الناس الطيبون. فكل واحد من الذين التقيت بهم خلال هذه الدورة التكوينية، كان له القلب الجميل، والابتسامة الخالصة، وحسن الضيافة، واليد الكريمة المعينة.

لقد تعاملوا معي كابنتهم دائما، لذلك أحضرت معي إلى بلدي، ليس فقط، الهدايا التذكارية، بل الانطباعات الجميلة وابتسامات المغاربة في قلبي." في حين ركزت سفيتلانا سيدوفا على محبة المغاربة للروس، إذ اندهشت بمحبتهم، كما أُعجبت كثيرا بالهندسة المعمارية التقليدية، والزخارف والفسيفساء التي تزين المنازل، والأزقة الضيقة في المدن القديمة، تقول: " لقد شدَّ انتباهي، في الثقافة المغربية، حب الشعب المغربي ولطفه. أخبر جميع أصدقائي عن طيبة الناس في المغرب. كما أُعجبت بالهندسة المعمارية في مختلف المدن، وبزخارف المنازل، والفسيفساء، والشوارع الجميلة الضيقة في المدينة القديمة. ورغبت في تصوير كل التفاصيل."

بوجه عام، تكشف المقابلات التي أجريتها مع هؤلاء الطلاب أن برنامج الدورة التكوينية الصيفية يتميز بالغنى والثراء. كما رأوا أن الثقافة المغربية منفتحة وتحتضن الآخر المختلف ثقافيا، ورأوا في كلية أصول الدين بيئة متميزة للتعلم.

 

المحور الرابع: آفاق التعاون بين روسيا الاتحادية والمملكة المغربية عبر مركز الثقافة العربية "الحضارة" وكلية أصول الدين ‏

يُعد التعاون بين مركز الثقافة العربية "الحضارة" بروسيا الاتحادية وكلية أصول الدين بالمملكة المغربية ‏ نموذجا ‏متميزا للتعاون الأكاديمي والثقافي. فقد انطلقت هذه الشراكة في سنة 2015م، وتم تجديدها سنة 2023م في عهد عميد الكلية، ‏الدكتور عبد العزيز رحموني، تأكيدا للرغبة المشتركة في مواصلة الجهود الرامية إلى تعزيز أواصر التعاون العلمي والثقافي ‏بين المملكة المغربية وروسيا الاتحادية.‏ وتهدف هذه الشراكة إلى تنمية الكفايات اللغوية للطلبة الروس وتوسيع معارفهم حول اللغة العربية والثقافة المغربية، مما يسهم ‏في التعرف على مكونات الثقافة المغربية من فنون وعادات وتقاليد. كما تروم الشراكة إلى التعريف بالتنوع الثقافي الروسي بين الشباب في المغرب، مما يجعل هذا التعاون جسرا متينا للحوار والتبادل ‏الحضاري بين الشعبين.

وتكوّن برنامج الدورة التكوينية الصيفية لهذه السنة من شقين: الشق الأول كان بكلية أصول الدين بتطوان، ابتداء من 14 يوليوز إلى 8 غشت 2025م. وتضمّن هذا الشق دروسا في علم ‏النحو، والمحاضرات والورشات، إلى جانب التعرف على مظاهر الحياة اليومية المغربية، وزيارة المتاحف والمآثر التاريخية، ‏ومدن شمال المغرب من تطوان إلى طنجة، ومن شفشاون إلى أصيلة. كما شمل التعرف على تاريخ المغرب الممتد قبل الإسلام ‏عبر ممالكه الأمازيغية، وفي عهد الإسلام عبر سلالاته الحاكمة المتعاقبة من الشرفاء والأمازيغ، من الأدارسة والمرابطين ‏والموحدين والمرينيين والوطاسيين والسعديين والعلويين.‏ وهي السلالات التي نحتت في حقل التاريخ اسم "المملكة المغربية" ‏منذ عهد الموحدين. وفي هذا السياق، أكد عميد الكلية خلال الحفل الختامي للدورة التكوينية، حرصه ‏الكبير على تطوير برنامج الدورة التكوينية، مشيرا إلى أن الكلية، التي تأسست سنة 1963م، تولي اهتماما خاصا بنشر قيم ‏التسامح والاعتدال واحترام الرأي الآخر، ونقل رسالة الإسلام السمحة.‏

أما الشق الثاني، فيتعلق برحلة ترفيهية وسياحية انطلقت من 10 إلى 16 غشت 2025م، وشملت عددا من المدن المغربية، في ‏‏مقدمتها المدن الإمبراطورية: فاس، والرباط، ومراكش، وذلك بهدف استكمال الصورة الشاملة عن المملكة المغربية، كما ‏صرّحت ‏بذلك مديرة دائرة المشاريع بالمركز.‏

من اليمين: ألونا ريفينا، محمد علا، محمد عقا، عبد العزيز رحموني، جمال الدين بن حيون، دينيس نوفوسيولوف، فيرا بافلوفا، سيرغي لفوف، في الحفل الختامي للدورة التكوينية 2025م

وبذلك يكون طلاب روسيا الاتحادية قد اكتسبوا معرفة حقيقية عن المغرب وثقافته وحضارته وتاريخه وجغرافيته، ومكانته ‏الإقليمية والدولية. وهذا من شأنه أن يعزز أواصر الصداقة والتعاون، وترسيخ قيم التفاهم والحوار والتواصل بين المملكة ‏المغربية وروسيا الاتحادية، ذات العمق التاريخي والحضاري العريق. وفي هذا السياق، أشار نائب رئيس جامعة عبد المالك السعدي، الدكتور جمال الدين بن حيون، خلال الحفل الختامي للدورة ‏التكوينية، إلى أن المغرب يحمل انطباعا إيجابيا جدا تجاه الثقافة والحضارة الروسيتين، معتبرا أن برنامج الدورة التكوينية ‏الصيفية يمثل برنامجا استراتيجيا بالغ الأهمية بالنسبة للمملكة المغربية وروسيا الاتحادية. وأكد أن الجامعة تشجع وتدعم هذا ‏البرنامج الموجه للطلاب الروس لما يمثله من أهمية بالغة في تعزيز أواصر الصداقة بين الشعبين. كما أكد عميد الكلية، أن هذه المبادرة تندرج في إطار الدبلوماسية العلمية والثقافية،وتهدف إلى تعزيز وترسيخ أواصر ‏الصداقة بين البلدين العريقين، خاصة بعد الزيارة التاريخية التي قام بها الملك محمد السادس إلى روسيا الاتحادية.‏ ومن جانبها، أكدت مديرة دائرة المشاريع بالمركز أن هذه الدورة كانت مليئة بالتجارب والمعارف والذكريات التي ستظل ‏محفورة في الذاكرة، مؤكدة أن طلاب المركز قدموا نموذجا متميزا في تمثيل ثقافة روسيا الاتحادية بالمغرب، معتبرة أنهم ‏شكلوا جسرا حيا للتواصل الحضاري والتفاهم الثقافي بين البلدين الصديقين، اللذين تربطهما علاقات الاحترام المتبادل ‏والرغبة الصادقة في تعزيز التعاون الأكاديمي والثقافي.‏ كما أشاد ممثلو السفارة الروسية بهذه الدورة التكوينية، حيث نوّه الكاتب الأول، السيد دينيس نوفوسيولوف، بالمجهودات ‏الكبيرة التي بُذلت لإنجاح هذه المبادرة. كما عبّر عن تقديره لتنوع مجالات الصداقة المغربية الروسية، مشيرا إلى أن كلية ‏أصول الدين وفرت الظروف الملائمة للطلاب الروس للاطلاع على التاريخ والثقافة والدارجة المغربية، معتبرا أن هذه ‏المبادرة منفتحة على آفاق واعدة. من جانبها، أضافت السيدة فيرا بافلوفا، أن الدورة لم تقتصر على تحسين المهارات اللغوية فحسب، بل أسهمت كذلك في تعزيز ‏التعاون بين المغرب وروسيا، متمنية استمرار التعاون المثمر بين الكلية والمركز. وأكدت أن بعض الطلاب الذين شاركوا ‏في الدورة التكوينية الصيفية للسنة الماضية (2024م) قد انضموا هذا العام إلى فريق الممثلية التجارية الروسية بالرباط. ومن جهته، عبّر ممثل وزارة الزراعة الروسية، السيد سيرغي لفوف، عن امتنانه للكلية والمركز على منحه الفرصة الثمينة ‏لزيارة مدينة تطوان للمرة الأولى في حياته، مؤكدا أهمية هذه الدورة التكوينية، ومعتبرا أن اللغة ليست مجرد أداة لفهم ‏الثقافات، بل وسيلة فعالة لبناء جسور الثقة بين الناس والشعوب.

وبوجه عام، فإن التعاون بين كلية أصول الدين ومركز الثقافة العربية "الحضارة" يفتح آفاقا واعدة لتعزيز التعاون بين المملكة ‏المغربية وروسيا الاتحادية، خاصة وأن العمق الحضاري للمملكة المغربية يمثل في محيطه نموذج الدولة–الأمة، تماما كما ‏هو الحال بالنسبة لروسيا الاتحادية.‏

 

خاتمة وتوصيات:

على سبيل الختام، يتبيّن من خلال مجمل المعطيات التي جُمعت هذه السنة حول مبادرة الدورة التكوينية الصيفية في اللغة ‏العربية والثقافة المغربية، لفائدة الطلبة القادمين من روسيا الاتحادية عبر مركز الثقافة العربية "الحضارة"، ‏أنها تمثل نموذجا رائدا في تعزيز الدبلوماسية الثقافية بين المملكة المغربية وروسيا الاتحادية، وفضاء حقيقيا للحوار المتبادل ‏بين الثقافتين المغربية والروسية، وترسيخ قيم التسامح والانفتاح، وإبراز صورة المغرب ‏كجسر حضاري بين إفريقيا وأوروبا والعالم العربي، إلى جانب التعريف بثراء وتنوع الثقافة الروسية.‏

كما أثبتت المداخلات والتصريحات والمقابلات أن هذه المبادرة تمثل خطوة استراتيجية ضمن ‏مسار متين من التعاون الثقافي والعلمي بين المملكة المغربية وروسيا الاتحادية. وعلى هذا الأساس، نوصي بتوسيع نطاق ‏التعاون الأكاديمي والثقافي بين جامعة عبد المالك السعدي وجامعات روسيا الاتحادية، وإدراج اللغة والثقافة الروسية ضمن ‏وحدات شعبة اللغات والثقافة والتواصل بكلية أصول الدين بالمغرب، وتشجيع الإعلام الثقافي المشترك للتعريف بالثقافتين ‏المغربية والروسية.

 

إلياس التاغي، طالب بشعبة اللغات والثقافة والتواصل بكلية أصول الدين، بتطوان، المغرب