Saturday 4 October 2025
مجتمع

زينب البهي: حين تتحول الأطر الصحية إلى مشانق معلّقة لفشل السياسات

زينب البهي: حين تتحول الأطر الصحية إلى مشانق معلّقة لفشل السياسات زينب البهي
لم‭ ‬يعد‭ ‬خافيا‭ ‬أن‭ ‬الحكومة،‭ ‬بدل‭ ‬أن‭ ‬تواجه‭ ‬الأسئلة‭ ‬الجوهرية‭ ‬حول‭ ‬مأزق‭ ‬المنظومة‭ ‬الصحية،‭ ‬آثرت‭ ‬أسهل‭ ‬الطرق:‭ ‬نصب‭ ‬المشانق‭ ‬الرمزية‭ ‬للشغيلة‭ ‬الصحية،‭ ‬وتقديمها‭ ‬في‭ ‬صورة‭ ‬“المُقصِّرة“‭ ‬و“المُتخاذلة“،‭ ‬لتصنع‭ ‬منها‭ ‬شماعة‭ ‬تعلق‭ ‬عليها‭ ‬فشل‭ ‬السياسات‭ ‬العمومية‭. ‬هذا‭ ‬الخيار‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬وليد‭ ‬الصدفة،‭ ‬بل‭ ‬هو‭ ‬نتاج‭ ‬رؤية‭ ‬تعتبر‭ ‬الصحة‭ ‬مجالاً‭ ‬استثمارياً‭ ‬لا‭ ‬حقاً‭ ‬اجتماعياً،‭ ‬وتفضل‭ ‬تسليم‭ ‬القطاع‭ ‬للخواص‭ ‬على‭ ‬إعادة‭ ‬بنائه‭ ‬بما‭ ‬يخدم‭ ‬كرامة‭ ‬المواطن‭.‬
 
‭ ‬لقد‭ ‬عاين‭ ‬المغاربة‭ ‬جميعا‭ ‬كيف‭ ‬جرى‭ ‬إقبار‭ ‬نظام‭ ‬“راميد“‭ ‬دون‭ ‬بديل‭ ‬حقيقي،‭ ‬وكيف‭ ‬تحول‭ ‬الحق‭ ‬في‭ ‬العلاج‭ ‬إلى‭ ‬ترف‭ ‬تحدده‭ ‬القدرة‭ ‬الشرائية‭. ‬
وبينما‭ ‬يعاني‭ ‬المواطن‭ ‬من‭ ‬“التعرية‭ ‬الصحية“،‭ ‬يُفتح‭ ‬الباب‭ ‬واسعا‭ ‬أمام‭ ‬منطق‭ ‬السوق،‭ ‬وتسوّق‭ ‬وصفة‭ ‬الخصخصة‭ ‬باعتبارها‭ ‬الحل‭ ‬السحري‭. ‬غير‭ ‬أنّ‭ ‬هذه‭ ‬الوصفة‭ ‬تخفي‭ ‬وجها‭ ‬آخر‭ ‬أكثر‭ ‬خطورة:‭ ‬شيطنة‭ ‬الأطر‭ ‬الصحية‭ ‬وتحويلها‭ ‬إلى‭ ‬كبش‭ ‬فداء،‭ ‬بدل‭ ‬محاسبة‭ ‬من‭ ‬صاغ‭ ‬السياسات‭ ‬وأدار‭ ‬القطاع‭ ‬لعقود‭.‬
 
إنّ‭ ‬الخطاب‭ ‬الرسمي‭ ‬الذي‭ ‬يروج‭ ‬اليوم‭ ‬لا‭ ‬يكتفي‭ ‬بالتنصل‭ ‬من‭ ‬المسؤولية‭ ‬السياسية،‭ ‬بل‭ ‬يُوجّه‭ ‬رسالة‭ ‬خطيرة‭ ‬للمرتفقين،‭ ‬تُحرّضهم،‭ ‬بشكل‭ ‬مباشر‭ ‬أو‭ ‬غير‭ ‬مباشر،‭ ‬على‭ ‬النظر‭ ‬إلى‭ ‬الممرض‭ ‬والطبيب‭ ‬والتقني‭ ‬باعتبارهم‭ ‬سبباً‭ ‬في‭ ‬تردي‭ ‬الخدمات‭.
 
‬وهكذا‭ ‬يُزرع‭ ‬بذور‭ ‬التوتر‭ ‬داخل‭ ‬المرفق‭ ‬العمومي،‭ ‬ويُستبدل‭ ‬النقاش‭ ‬حول‭ ‬التدبير‭ ‬والتمويل‭ ‬والحكامة‭ ‬بلغة‭ ‬الاتهام‭ ‬والتخوين‭.‬
‭ ‬في‭ ‬مقابل‭ ‬ذلك،‭ ‬ما‭ ‬يغيب‭ ‬عن‭ ‬خطاب‭ ‬الحكومة‭ ‬أنّ‭ ‬هذه‭ ‬الشغيلة‭ ‬نفسها‭ ‬كانت‭ ‬سبّاقة‭ ‬إلى‭ ‬دق‭ ‬ناقوس‭ ‬الخطر،‭ ‬عبر‭ ‬إضرابات‭ ‬واحتجاجات‭ ‬متكررة،‭ ‬نبّهت‭ ‬إلى‭ ‬الأعطاب‭ ‬البنيوية‭ ‬التي‭ ‬أصابت‭ ‬المنظومة‭ ‬الصحية،‭ ‬وحذّرت‭ ‬من‭ ‬تحويلها‭ ‬إلى‭ ‬مجال‭ ‬للمتاجرة‭.‬
 
 ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬تلك‭ ‬الاحتجاجات‭ ‬تعبيرا‭ ‬عن‭ ‬مصالح‭ ‬ضيقة،‭ ‬بل‭ ‬عن‭ ‬إدراك‭ ‬عميق‭ ‬بأنّ‭ ‬انهيار‭ ‬المنظومة‭ ‬سيحرم‭ ‬المواطن‭ ‬من‭ ‬حقه‭ ‬الأصيل‭ ‬في‭ ‬العلاج‭.‬
اليوم،‭ ‬بدل‭ ‬أن‭ ‬تفتح‭ ‬قنوات‭ ‬الحوار‭ ‬وتبنى‭ ‬الثقة‭ ‬مع‭ ‬الأطر‭ ‬الصحية،‭ ‬نُصبت‭ ‬مشانق‭ ‬سياسية‭ ‬وإعلامية،‭ ‬لتقدَّم‭ ‬الشغيلة‭ ‬قربانا‭ ‬يطهر‭ ‬السياسات‭ ‬من‭ ‬دنس‭ ‬سوء‭ ‬التدبير‭. ‬غير‭ ‬أنّ‭ ‬الحقيقة‭ ‬تظل‭ ‬أوضح‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬تطمس:‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬لأي‭ ‬منظومة‭ ‬صحية‭ ‬أن‭ ‬تنهض‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬حماية‭ ‬أطرها،‭ ‬وتقدير‭ ‬كفاءاتها،‭ ‬وضمان‭ ‬حقوقها‭.‬
 
إنّ‭ ‬إصرار‭ ‬الحكومة‭ ‬على‭ ‬صناعة‭ ‬خطاب‭ ‬يحول‭ ‬الأطر‭ ‬الصحية‭ ‬إلى‭ ‬شماعة‭ ‬جاهزة،‭ ‬لا‭ ‬يُخفي‭ ‬فقط‭ ‬عجزها‭ ‬عن‭ ‬تقديم‭ ‬حلول‭ ‬واقعية،‭ ‬بل‭ ‬يكشف‭ ‬إرادة‭ ‬واعية‭ ‬في‭ ‬التملص‭ ‬من‭ ‬مسؤولياتها‭ ‬الدستورية‭. ‬فالمشكل‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬يوماً‭ ‬في‭ ‬الطبيب‭ ‬أو‭ ‬الممرض‭ ‬أو‭ ‬التقني،‭ ‬بل‭ ‬في‭ ‬السياسات‭ ‬التي‭ ‬أفرغت‭ ‬القطاع‭ ‬من‭ ‬محتواه‭ ‬الاجتماعي‭. ‬وعليه،‭ ‬فإنّ‭ ‬السؤال‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬مهرب‭ ‬منه‭ ‬اليوم‭ ‬هو:
 
متى‭ ‬تمتلك‭ ‬الحكومة‭ ‬الجرأة‭ ‬للاعتراف‭ ‬بفشل‭ ‬خياراتها،‭ ‬وفتح‭ ‬ورش‭ ‬إصلاح‭ ‬حقيقي‭ ‬يعيد‭ ‬الاعتبار‭ ‬للقطاع‭ ‬العمومي،‭ ‬بدل‭ ‬الاكتفاء‭ ‬بتعليق‭ ‬فشلها‭ ‬على‭ ‬أعناق‭ ‬من‭ ‬حافظوا‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬تبقى‭ ‬من‭ ‬روح‭ ‬المنظومة‭ ‬الصحية؟
زينب البهي،  باحثة في علم النفس