فرنسا، بلد يفترض أنه قلب الديمقراطية الأوروبية، تجد نفسها اليوم على مفترق طرق تاريخي: أزمة سياسية متواصلة، شارع غاضب، إقتصاد مهدد، ومجتمع يتفتت داخليا تحت ثقل الفقر والتهميش، وأزمة سياسية مفتوحة على المجهول.
منذ مساء الإثنين، ومع سقوط حكومة فرانسوا بايرو، دخلت الجمهورية مرحلة جديدة من الارتباك. إيمانويل ماكرون، الذي فقد أكثر من عام في البحث عن معادلة برلمانية مستحيلة، يقف اليوم عاريا سياسيا: رئيس بلا أغلبية، بلا سند حكومي، وبلا رؤية واضحة. إعلانه عن تعيين رئيس وزراء جديد "في الأيام القليلة المقبلة" لا يخفي حقيقة الأزمة البنيوية: النظام السياسي الفرنسي يعاني انسدادا خانقا، حيث لا أحد قادر على بناء توافق مستقر.
ومع ذلك، ليست المشكلة محصورة في لعبة الكراسي داخل الإليزيه أو في حسابات الأحزاب. الحقيقة أن هذه الأزمة السياسية تزامنت مع ارتفاع مستوى الغليان الشعبي. غدا، سينزل الشارع في حركة "Bloquons tout" (لنجمّد كل شيء)، في مشهد جديد من العصيان الاجتماعي الذي يضع الدولة في مواجهة مباشرة مع شعبها. لذلك، يلوّح وزير الداخلية برونو ريتايو ـ قبل ساعات من إستقالته ـ بقمع صارم: 80 ألف شرطي ودركي في حالة إستنفار لمنع الانفجار.
لكن وسط هذا الصخب السياسي والأمني، يطلّ وجه آخر أكثر قسوة: الفقر الذي ينهش المجتمع الفرنسي. في ضواحي باريس مثل سان دوني، المشهد لا يحتاج إلى تحليلات اقتصادية معقدة: وجوه شاحبة، شباب بلا أفق، عائلات تتنفس الهامش وتكاد تختنق من الضيق الاجتماعي. هذه ليست مأساة المهاجرين وحدهم، بل مأساة فرنسيين كثر يسحقون تحت وطأة البطالة وغلاء المعيشة وغياب الأمان الاجتماعي.
تبدو الدولة وكأنها تنشغل بالسيطرة على الشارع أكثر مما تنشغل بمعالجة جذور الاحتقان: غلاء متصاعد، أجور راكدة، وإنقسام طبقي يتسع يوما بعد يوم. هنا، يصبح السؤال أكبر من إسم رئيس الوزراء الجديد: هل تستطيع الجمهورية أن تحافظ على عقدها الاجتماعي، أم أنها تدخل مرحلة "تآكل داخلي" لا رجعة فيه؟
كما لو أن السياسة والشارع لا يكفيان، جاء التهديد الاقتصادي ليضيف وزنا جديدا إلى ميزان الأزمة. وكالة "فيتش" تستعد لإعلان قرار قد يهبط بالتصنيف الائتماني لفرنسا. خطوة كهذه تعني إهتزاز الأسواق، زيادة كلفة الديون، وضغطا هائلا على الاقتصاد الوطني. وماكرون، الذي يواجه أصلا تآكلا في شعبيته، يجد نفسه أمام مأزق مزدوج: كيف يقنع الفرنسيين بالتضحية أكثر بينما ثروات النخب المالية تبقى محمية؟
مفارقة فرنسا اليوم تتجلى بوضوح: بلد يحتضن مباريات المنتخب الوطني في "بارك دي برانس"، يتغنى بالانتصارات الرياضية، لكنه عاجز عن معالجة الجراح المفتوحة في شوارع سان دوني أو في مدن الجنوب المهمشة. بينما تملأ الإعلام صور الكرة، يتوارى الواقع الأصعب: أحياء بأكملها بلا أمل، شباب يرى مستقبله مغلقا، وطبقة وسطى تتآكل بسرعة مقلقة...إلى أين؟
السؤال المطروح اليوم ليس من سيصبح رئيس الوزراء الجديد، بل هل تملك فرنسا بعد الآن القدرة على إعادة بناء عقد إجتماعي متين؟ ما نشهده ليس أزمة عابرة، بل زلزال متعدد الأبعاد: سياسي، إقتصادي، اجتماعي. قد تتمكن الجمهورية من ترميم صدع هنا أو هناك، لكن الشرخ العميق بين السلطة والشعب بات واقعا يصعب إنكاره.
فرنسا، كما تبدو اليوم، ليست دولة على وشك إصلاح سريع، بل جسد مثقل بالأمراض، يحاول أن يقف رغم هشاشته. وكما ينهش الفقر ضواحيها، تنهش الانقسامات السياسية قلب مؤسساتها. وإذا لم يتم التدارك، فإن "بلد الثورة" قد يجد نفسه أمام ثورة من نوع آخر، ثورة ليست بالضرورة في الشارع فقط، بل في تآكل الثقة بالنظام الجمهوري نفسه.
زكية لعروسي /كاتبة مغربية مقيمة بفرنسا