انطلقت أول شرارة لحراك الريف في 28 أكتوبر 2016، ولم تكن دوافعه مطالب اجتماعية كما يزعم متزعموه، بل كان تأجيجاً لحدث يمكن أن يقع في أي دولة في العالم. في ذلك اليوم المشؤوم، تعرض شاب يُدعى قيد حياته محسن فكري يبلغ ثلاثين سنة للشطط في استعمال السلطة من طرف أحد رجال الشرطة، وكانت هذه الحالة فردية واستثنائية لا تمت بصلة إلى توجه دولة الحق والقانون.
في ذلك اليوم، اشترى محسن فكري حوالي 500 كيلوغرام من سمك ممنوع بيعه، وصادرها الشرطي وألقى بها في شاحنة النفايات. تشبث محسن ببضاعته بباب الشاحنة الأوتوماتيكي، وعندما انتبهت لجنة المصادرة لوجوده، نطق الشرطي بعبارات غير لائقة "طحن أمو" مما أدى إلى وفاته. هذه الحادثة أججت الأوضاع في الحسيمة، وغلفت بمطالب اجتماعية. بدأ الحراك بقيادة ناصر الزفزافي، الذي لم يكن يعي ما يفعل. امتد الحراك لثمانية أشهر، حيث كانت هناك دعوات لتأجيج الفتنة. آنذاك حل جمال بنعمرو بالمغرب، دبلوماسي كان آنذاك ممثل الأمين العام للأمم المتحدة مكلفاً بملف اليمن حينها، وطرح فكرة الحوار على أحد رجال الدولة مع المحتجين بالريف لزعمِه هو الآخر أن مطالب الحراك لا تعدو اجتماعية صرفة لإنهاء الاحتياجات، إلا أن رد الدولة كان واضحاً، حيث أشار رجل الدولة إلى أن هذه الأخيرة قادرة على البقاء مع المحتجين لأربعة عشر عاماً، لأن هناك ما يسمى بهيبة الدولة، وهي غير قابلة للمساومة. لم يعتقل ناصر الزفزافي إلا في 29 ماي 2017، أي بعد مرور حوالي ثمانية أشهر من وفاة فكري، وحكم عليه بعشرين سنة في حكم عادل لا يمكن أن أشكك فيه. إبان الحراك، كان ناصر ينتقد الدولة ومؤسساتها، ويخاطب رموزها بقلة احترام ظناً منه أنه المنقذ من الهلاك.
لم يعتقل الزفزافي على آرائه السياسية أو الاحتجاجات، بل بعد أن قام بمنع خطيب من إتمام خطبة صلاة الجمعة بمسجد بالحسيمة، وقد تبع بعدة تهم واضحة. وفي خطوة إنسانية، سمحت المندوبية السامية للسجون لناصر لحضور جنازة والده الذي وافته المنية، وقد اعتلى سطح منزل الهالك وقال إنه يخاطب الوطن كله، لا الريف وحده.
هذا الخطاب يبدي مراجعة فكرية للزفزافي، وهذا هو مغزى السجن، لأنه مؤسسة لإعادة الإصلاح والتأهيل. إن الدفاع عن الوطن فرض كفاية، وعندما يُطلب منك يصبح فرض عين. بعد ثماني سنوات، نجد مراجعة للفكر، كما قام بها مجموعة من أنصار السلفية الجهادية. إن حضور سجين لجنازة أحد أصوله يبقى إجراء روتينياً عند المندوبية السامية للسجون وإعادة إدماج المعتقلين. ولكن ليُحوَّر هذا الإجراء القانوني، وينطق بعض مرضى الريف الذين يروجون لسراب قادم من الشرق. حيث إن هذا السراب لم ينجح على مدار نصف قرن في إقناع المجتمع الدولي بخرافة البوليساريو.
المغرب القديم والحديث ظل وسيظل حصناً حصيناً وسداً منيعاً في وجه جميع مناورات ودسائس الأعداء. وما يجب فعله هو ألا نعطي لهذا الإجراء القانوني أكبر من حجمه. الوطن لا يحتاج أحداً ليمنّ عليه.
في الأخير، أقولها بكل أمانة: إن حراك الريف لم تكن مسبباته مطالب اجتماعية صرفة، بل جاء كردة فعل. وقد كان ذوو النفوس الضعيفة يعملون على تشبيه محسن فكري ببوعزيزي المغرب، لكن شتّان بين قرطاج والرباط.