Sunday 7 September 2025
كتاب الرأي

عبد السلام بنعبد العالي: كيف تطوّرت النظرة إلى المال وقيمته في المجتمعات المعاصرة؟

عبد السلام بنعبد العالي: كيف تطوّرت النظرة إلى المال وقيمته في المجتمعات المعاصرة؟ عبد السلام بنعبد العالي

بين البخل والتبذير والزهد... و"ما لا يشترى"

 

"النقود هي الذهن الحقيقي للأشياء جميعها، فكيف لمالكها أن يكون غبيا؟ إنه يستطيع أن يشتري لنفسه الموهوبين، أليس هذا الذي يسيطر على الموهوبين أكثر منهم موهبة؟ ألست أنا الذي أملك، بفضل ما أتوفر عليه من نقود، كل ما يصبو إليه القلب، ألست أمتلك القدرات الإنسانية جميعها؟ ألا تحول نقودي كل أوجه عجزي إلى نقيضها؟" - كارل ماركس، مخطوطات 1844

 

"لم يحدث قط أن وسيلة نقية، شيئا عديم اللون تماما، وخاليا تماما من المعنى في ذاته، مثل المال، يتحول إلى غاية مهيمنة بهذا الشكل. في حين أن المال ليس سوى وسيلة للحصول على الأشياء، أصبحت الأشياء جميعها بالنسبة الى عدد لا يحصى من البشر مجرد وسائل لكسبه. بينما يجد فيه عدد لا يحصى من السلاسل الغائية في الوجود نقطة مشتركة، نقطة تقاطع، فإنه يقف فوق كل تحديد خاص، فوق كل محتوى خاص للحياة – إنه السيد المطلق" - جورج زيمل

 

هل المال غاية أم مجرد وسيلة؟ جوابا عن هذا السؤال، يعقد عالم الاجتماع الألماني جورج زيمل مقارنة بين البخيل والمبذر في علاقتهما بالمال. عند البخيل يتجسد المال كقوة مطلقة. طبيعة القوة المتجسدة في المال، تمنح البخيل إحساسا بالقوة المطلقة. البخل إذن هو شكل من أشكال إرادة القوة، كل ما في الأمر أن تلك القوة تظل عند البخيل مجرد طاقة خالصة، طاقة كامنة، لا تستثمر ولا توظف، فلا يستمتع بها.

 

يحب البخيل المال كما يحب المرء شخصا شديد الوقار. مجرد وجود هذا الشخص إلى جانبه يمنحه نوعا من الطمأنينة، من غير حاجة إلى أن تدخل علاقته به في تفاصيل المتعة الملموسة. من خلال تخلي البخيل، مقدما وبوعي، عن استخدام المال وسيلة من المفترض أنها تنطوي على طاقة كامنة، وأنها قادرة على أن تتيح له متعة معينة، فإنه يضع المال على مسافة من ذاتيته لا يمكن اختراقها، ومع ذلك، هي مسافة يسعى إلى تجاوزها باستمرار عبر وعيه بامتلاك المال.

 

سحر الاستسلام الخفي

إذا كان طابع المال كقوة يجعله يبدو عند البخيل كالشكل المجرد للمتع التي لا يتم تذوقها، فإن تقدير امتلاكه يأخذ لون الموضوعية بقدر ما يتم الاحتفاظ به دون إنفاقه، فهو محاط إذن بسحر الاستسلام الخفي هذا، الذي يرافق الغايات الموضوعية جميعها، والذي يجمع وجه المتعة الإيجابي ووجهها السلبي في وحدة فريدة لا توصف. وإذا بلغ العنصران في البخل أقصى توتر متبادل، فذلك لأن المال، كقوة مطلقة، يفتح على إمكانات غير محدودة للمتعة، وفي الوقت نفسه، ودائما كوسيلة مطلقة، يترك متعة ما غير مستخدمة بالكامل. هناك عند البخيل دائما متعة "مرجأة"، وقوة المال عنده تعمل "على التراخي" بتعبير الأشاعرة، فهي تظل قائمة من غير أن يكون "فاعلا بها".

 

ينبهنا زيمل إلى ضرورة عدم الخلط بين البخل والتقشف. البخل علاقة بالمال لا بالأشياء، أو لنقل إنه علاقة بالأشياء، لكن، من حيث قيمتها النقدية. يقول: "ينصرف ذهني هنا إلى أولئك الأشخاص الذين يعيدون استخدام عود ثقاب مستعمل بالفعل، والذين يحرصون على استعادة الصفحات الفارغة من الرسالة، والذين يحتفظون بعناية بأصغر قطعة خيط ويخصصون طاقة كبيرة للعثور على أصغر دبوس ضائع، هؤلاء الأشخاص، ننعتهم بالبخل، لأننا تعودنا على الخلط تلقائيا بين سعر الأشياء وقيمتها. لكن في الواقع، هؤلاء الأشخاص، بتصرفهم على هذا النحو، لا يفكرون مطلقا في القيمة النقدية لهذه الأشياء: شدة المشاعر هنا تتجه تحديدا نحو القيمة الملموسة للأشياء، التي هي في أعينهم غير متناسبة تماما مع قيمتها النقدية. في كثير من الحالات على الأقل، لا يتعلق الأمر مطلقا عند هؤلاء "المتقشفين" بتوفير بضعة سنتيمات، لأنهم ليسوا مهووسين بالمال – الذي يسمح بالحصول على الأشياء المعنية دون أي صعوبة – لذا يظهرون، في كثير من الأحيان، استقلالية معينة ولا يقدرون إلا الشيء نفسه".

 

لا ينبغي إذن أن نتصور أن البخيل يتطلع، من وراء المال، إلى الإمكانات التي يمكن للمال أن يوفرها له. فهو لا ينظر إليه من حيث إنه يمكنه من تحقيق ملذات وإشباع رغبات. لا يهدف من وراء اكتساب المال إلى ما يتجاوزه. فإرادة القوة التي يمثلها المال غير المنفق تحدد عند البخيل كقيمة نهائية مرضية تماما، إنها إرادة تريد نفسها، إرادة إرادة.

 

هامش الوجود

عدا المال، فإن الخيرات الأخرى كلها تقع، بالنسبة إلى البخيل، على هامش الوجود، و"من كل منها ينطلق شعاع يقود بوضوح إلى مركزه الأصلي، أي إلى المال. أما الاعتقاد بأن العكس هو الصحيح، أي أن هذا الشعاع ينطلق من المركز إلى الهامش-حتى لو كان ذلك داخليا فقط- فسيكون جهلا كاملا بالإحساس الخاص جدا بالمتعة والقوة اللتين يشعر بهما البخيل. لأنه لو نقلت هذه القوة الكامنة في المركز إلى الاستمتاع بأشياء ملموسة، لضاعت كقوة". فالأشياء بالذات لا تهم البخيل، لأن النقود جردتها من أي غاية.

 

هل تتبدل النظرة إلى المال عند المبذر؟ هنا أيضا فإن المال ليس أقل أهمية بالنسبة إلى المبذر منه عند البخيل، لكن في صورة الإنفاق وليس في صورة الامتلاك. إذ يتشكل إحساسه بالقيمة في اللحظة التي يتحول فيها المال إلى أشكال أخرى من القيم، وبكثافة تجعله يشتري متعة هذه اللحظة بهدر كل القيم الأكثر ديمومة.

 

المبذر في الاقتصاد النقدي لا يمنح نقوده عشوائيا، بل ينفقها على مشتريات غير معقولة، لا علاقة لها بموارده. ومتعة التبذير، التي يجب تمييزها بدقة عن اللذة العابرة لاقتناء هذا الشيء أو ذاك أو استعماله، هي متعة مرتبطة بفعل التبذير ذاته، من غير اعتبار للمحتوى المادي للشيء أو الظواهر المرتبطة به، كما أنها، زمانيا، متعة مرتبطة بلحظة إنفاق المال، أيا كان ما ينفق عليه. وهذه اللحظة، بالنسبة للمبذر، تطغى على التقدير الصحيح للنقود وعلى قيمة الأشياء معا. لا يهم المبذر المال في ذاته ولا ما يوفره، وإنما فعل التبذير ذاته. ما يهمه ليس المال مترجما إلى أشياء، وإنما المال مترجما إلى أفعال تبذير.

 

البخيل يحول امتلاك النقود إلى غاية في ذاتها ومصدر للذة، بينما تظل النقود أساسية عند المبذر، كما هي لدى البخيل، لكن على شكل الإنفاق لا الادخار كما سبق أن أشرنا. قيمة النقود عنده تتجلى في ترجمتها، وإحساسه بتلك القيمة يتشكل عند انتقال النقود إلى أشكال أخرى من القيمة. لهذا، وبسبب ارتباطه الوثيق بالنقود، يتضخم التبذير المرضي بسرعة إلى حد مثير للقلق، مما يجعل صاحبه فاقدا لأي معيار عقلاني، لأنه يفتقر، أمام الأشياء الملموسة، إلى قدرة التحكم الذاتي التي يمنحها معيار الاستيعاب.

 

يرتبط التبذير من وجوه عدة بالبخل أكثر مما توحي به معارضتهما الظاهرية المتكررة. كلما زادت قدرتنا على الشراء، زاد شعورنا بأن "لا شيء يستحق". فنلجأ إلى مزيد من الاستهلاك لملء الفراغ، لكنه يفاقم الاغتراب. كأن ما يجمع البخيل والمبذر في علاقتهما بالمال هو هذه العلاقة اللامحدودة: فالمبذر لا ينفك يبذر، والبخيل لا ينفك يدخر. لا حدود يتوقفان عندها، ولا وضع يرتاحان إليه.

 

طرف ثالث

لا بد أن ندخل طرفا ثالثا في هذه المقارنة كي نزيدها وضوحا، وربما تعقيدا، هذا الطرف هو ذلك الزاهد الذي يبدو أنه ليس معنيا لا بما يعني البخيل، ولا بما يعني المبذر، فلا المال يعنيه ولا الأشياء. لكن الظاهر أننا، حتى ههنا سنلفي المال قطبا مركزيا. فعلى الرغم مما قد يتبادر إلى أذهاننا، فإن البخل والتبذير والزهد، رغم التناقض الظاهر، تلتقي جميعا في نقطة جوهرية: وهي الموقف من النقود باعتبارها وسيطا بين الإنسان والأشياء.

 

البخيل يوقف حركته عند المال ذاته، والمبذر عند لحظة إنفاقه، أما الزاهد الفقير فيتجاوز المال برمته ليصل إلى عالم بلا وسائط مادية. وهذه المواقف الثلاثة، على اختلاف دوافعها ونتائجها، تكشف أن للنقود قوة خاصة تمنحها موقعا مركزيا في الحياة الاقتصادية والنفسية للإنسان، وأن علاقتنا بها، سواء تمسكا، أو إهدارا، أو نبذا، هي علاقة تحدد ملامح وجودنا الاجتماعي والنفسي والأخلاقي.

 

كتب زيمل: "المال هو الابتكار الثقافي الوحيد الذي يمثل طاقة محض، فقد تحرر كليا من قيده المادي، ليصبح رمزا مطلقا. إنه الظاهرة الأكثر دلالة في عصرنا، حيث غزت ديناميكيته كل نظرية وممارسة. وكونه مجرد علاقة (وبالتالي كونه ممثلا نموذجيا لزمانه)، دون أن يحوي أي جوهر لتلك العلاقة، لا تناقض هذه الحقيقة. فالطاقة، في النهاية، ليست سوى محض علاقة".

 

المال إذن علاقة توجد من وراء كل العلاقات. في عام 1896، كان جورج زيمل ذهب في نص "المال في الثقافة الحديثة"، حتى القول إن المال علامة ثقافية قادرة على تحريف معنى القيمة ذاته، كما لو كان يخلقها من ذاته خلقا، بدلا من أن يكون وسيطا بين القيم. لذا فإن المال، بوصفه مجرد وسيلة، يُحوّل إلى غاية، ويخلق توليفة بين الوسيلة والغاية حتى يصبح هو نفسه غاية ومركزا. هذه المكانة المركزية تحوله إلى غاية متناقضة، وتضفي عليه هالة من القوة الجزئية الوهمية. فهو يحتوي في ذاته ويسهّل تقريبا كل الوسائل المؤدية إلى الغايات. وهو يفعل ذلك بكفاءة عالية الى درجة أنه يصبح الهدف بحد ذاته من مساعينا: لم نعد نحرك الوسائل لبلوغ غاياتنا، بل أصبح الحصول على هذا "الوسيط الفائق"، أي المال، هو الغاية نفسها. "فنحن نختبر المال، وهو مجرد وسيلة للحصول على خيرات أخرى، كخير مستقل بذاته".

نتفهم الآن ما نشعر به من انزعاج لحظة مواجهة "ما لا يشترى"، ما ليس قابلا لأن يترجم بلغة النقود. فتركيز كل الاهتمام على المال كوسيلة وغاية في آن واحد يجعلنا عاجزين عن تقدير قيمة الظواهر الحيوية التي تقاوم التعبير النقدي، وتنتمي إلى عالم "ما لا يشترى"، أي العالم الذي لا تقوى أمامه سلطة المال. لا يحب المال ما يتنطع عن التقويم النقدي، ما لا "يترجم"، وما يجعله يحس بضعف قوته وحدود "طاقته"، وبأنه لم يعد لا غاية ولا وسيلة. خصوصا أنه، عندما ينتخب كعلامة تجسد القيمة بمعزل عن الواقع، فإنه يتحول إلى شكل من "الانزياح"، أي أنه لا يعود مجرد وسيلة محايدة، بل يصبح علامة انفصلت عن مدلولها لتتحول إلى سلطة قائمة بذاتها، يصبح قوة مستقلة تفعل في العلاقات الاجتماعية، وتغير طبيعة الرغبات الإنسانية.

 

على هذا النحو، تنقلب الأمور: فبدلا من أن يكون المال أداة لتحقيق القيم، يغدو مصدر القيمة الوهمي، مما يؤدي إلى اغتراب الإنسان عن احتياجاته الحقيقية. ذلك أن المال لا يعود مجرد وسيط ييسر التبادل بين قيم موجودة مسبقا، بل يتحول إلى أداة تنتج القيمة من العدم، الأمر الذي يؤدى إلى تآكل لا ينفك يتزايد للوعي بماهية الأشياء الحقيقية.

عن مجلة :" المجلة "