الرد الخامس الموافق للحلقة الخامسة من سلسلة صحيفة "لوموند": "لغز محمد السادس"
تمهيد: أسرار القصور أم استراتيجية زرع الشبهات؟
في الحلقة الخامسة من سلسلة «لغز محمد السادس»، التي نُشرت بتاريخ 28 غشت 2025، تدّعي صحيفة "لوموند" رفع الستار عن كواليس السلطة العليا المغربية تحت عنوان مثير: «محمد السادس، المخزن وفن أسرار القصور». يتوقع القارئ في الوهلة الأولى غوصًا عميقًا في ديناميات المؤسسات بالمملكة، لكن سرعان ما يتغير المنحى ليظهر المغرب كنظام غامض يرتكز على تقلبات الملك، الرموز البروتوكولية، الصراعات الداخلية، والولاءات الشخصية.
تصبح السلطة هنا لعبة مظاهر، حضور وغياب. يفسّر غياب ياسين المنصوري، رئيس المخابرات الخارجية، خلال صلاة عيد الأضحى في تطوان كدليل على سقوطه في المكروه. وتحوّل عدم دعوة عثمان بنجلون لحدث رسمي عام 2012 إلى عقوبة رمزية. كل حركة رمز، كل غياب رسالة، وكل تعيين مؤامرة.
لكن ما تقدمه "لوموند" على أنه تحقيق، هو في الحقيقة قراءة أحادية الشيفرة، حيث تصبح الشبهات دليلاً، وتختفي التعقيدات المؤسسية خلف سرد أشبه بالسرد الروائي.
قراءة محصورة في منهجية التشكيك
يقصر السرد في الحلقة الخامسة المؤسسات المغربية إلى مجرد أدوات حول ملك مطلق القدرة، دون الإشارة إلى إصلاح الدستور في 2011، أو دور البرلمان، أو آليات محاسبة الحكومة، أو حتى أشكال الوساطة السياسية والاجتماعية المتعددة.
بدلاً من ذلك، تعرض المقالة بلاطًا ملكيًا يهيمن عليه مجموعة ضيقة من الشخصيات المعروفة: فؤاد عالي الهمة («نائب الملك»)، منير الماجيدي (مدير الثروة)، ياسين المنصوري (المخابرات الخارجية)، وعبد اللطيف الحموشي (الأمن الداخلي)، كل ذلك حول الملك الذي يظهر أحيانًا كحكم صامت وأحيانًا كرئيس لمجموعة نفوذ محاط بـ "نادي السبعة" من التكنوقراط وزملائه القدامى في المدرسة المولوية.
لكن التركيز على الأفراد دون وضع سياق مؤسسي أو نظرة نظامية يحول التحليل إلى مسرح ظلال حيث تصبح كل الأمور مجرد تأويلات، ولا يُقرأ شيء سوى من خلال التشكيك الممنهج في الدولة.
أين ذهبت الإصلاحات؟
في سعيها لإثبات أن السلطة المغربية قائمة فقط على السيطرة الشخصية والعلاقات غير الرسمية، تتجاهل "لوموند" تمامًا الإصلاحات الهيكلية للعهد.
لا ذكر للدستور الجديد الذي أُقر بعد الربيع العربي، ولا للتقدم الاقتصادي الهام مثل تطوير طنجة المتوسط، الانتقال الطاقي، أو تعميم التغطية الصحية. لا إشارة للتنمية الجهوية المتقدمة أو سياسات الإدماج الإقليمي.
بدلاً من ذلك، تلمّح المقالة إلى هذه المشاريع بشكل مقتضب لتقللها إلى أدوات لجذب خارجي أو لإضفاء شرعية داخلية. يصبح القطار فائق السرعة مجرد لعبة، وصعود المغرب في إفريقيا مجرد استراتيجية صورة. يصبح التطور مشكوكًا فيه بطبيعته.
يرتكب هذا الطرح خطأً منهجيًا كبيرًا باعتبار أن الفجوة تلغي الصدق، مع أن أي إصلاح في بلد مثل المغرب، المتنوع ثقافيًا وهوياتيًا وذا تاريخ متعدد، هو بالضرورة تدريجي، تكيفي، وأحيانًا متعثر. ولا ينقص ذلك من واقعيتها أو تأثيرها.
ملكية بدون شرعية مؤسسية؟
تكافح مقالة "لوموند" لفهم الطبيعة الهجينة والفريدة للملكية المغربية. تُقابل الحداثة بالتقليد، والشخصنة بالإصلاح، كما لو كانت تناقضات لا حل لها. في الواقع، الملكية في المغرب ليست حالة شاذة، بل هي العمود الفقري لنظام ضبط سياسي يتحمل أدوارا ومسؤوليات تاريخيًا، دينيًا، رمزيًا ومؤسسيًا في آن واحد.
الملك ليس مجرد رئيس دولة، ولا ملكًا شكليًا. هو، وفقًا للدستور، ضامن الوحدة الوطنية، استمرارية الدولة، وتوازن السلطات. تجاهل ذلك، كما تفعل "لوموند"، يعني إنكار العقد السياسي-الاجتماعي المغربي في جوهره.
المجموعات النافذة، العائلة، الشبهات مرة أخرى: رؤية بلاطية وليست دولة
تخصص "لوموند" فقرات طويلة للتحدث عن التوترات بين شخصيات السلطة: التنافس بين مديرية مراقبة التراب الوطني والمديرية العامة للأمن الخارجي، تصعيد أو تهميش بعض المستشارين، التوترات المفترضة مع شقيقات الملك، الحذر تجاه ولي العهد، أو العودة المفاجئة للأميرة للا سلمى.
مرة أخرى، الاستراتيجية واضحة: إعطاء الأولوية للعلاقات غير الرسمية على الرسمية، وللأسرية على المؤسسات.
لكن ماذا تبقى من عمل الدولة الحقيقية؟ دور الحكومة ؟ الوسائط الاجتماعية؟ التعددية الحزبية حتى وإن كانت محدودة؟ لا شيء. يُختزل كل شيء في صراع شبكات وفي قراءة فرويدية للسلطة.
هذه النظرة البلاطية تنكر وجود دولة منظمة، وتعزز صورة نظام يحكمه الظل. إنها رؤية رومانسية لكنها اختزالية للغاية.
فرض نموذج فريد: حجب السيادة المغربية
أخيرًا، تحكم "لوموند" على المغرب دون مساءلة مرجعيتها الخاصة. يتم تقييم البلاد وفق معايير الديمقراطية الليبرالية الغربية، دون الأخذ في الاعتبار خصوصيات المملكة الثقافية، التاريخية، الدينية والجيوسياسية.
لكن المغرب ليس نسخة فاشلة من وستمنستر أو الجمهورية الخامسة. إنه يصنع نموذجًا سياسيًا خاصًا به يجمع بين التقاليد الملكية، التحديث الاقتصادي، الحوار الاجتماعي، والاستقرار الإقليمي. هذا النموذج ليس مثاليًا، لكنه سيادي، شرعي، ومدعوم على نطاق واسع من مجتمع يعرف مواقعه.
فرض نموذج موحد يعني إنكار الاستقلال الفكري والسياسي لعالم الجنوب ، باسم عالمية غالبًا ما تنسى الاستماع قبل الحكم.
ختاما: التبسيط على حساب الجدية؟
لا تخلو مقالة "لوموند" من الذكاء في تدبيج الأسلوب أو من النجاح في جمع المعلومات، لكنها تفتقد إلى الجوهر والأساس: الدقة المنهجية، العمق السياقي، واحترام التعقيد السياسي والاجتماعي المغربي.
بادعاء الكشف عن أسرار القصور، تخفي في النهاية الديناميات الحقيقية للمغرب المعاصر، وبالتالي تفشل في إبراز ما يميز المملكة: بلد في مرحلة انتقالية، غير كامل، بطيء أحيانًا، لكنه أساسًا سيد مصيره.
الدكتور محمد براو/ خبير دولي في الحكامة ومؤلف كتاب: "الحكامة الجيدة في ضوء التوجيهات الملكية"