في أفق الاستحقاقات التشريعية المقبلة، يتعاظم الترويج لاسم وزير سابق ورجل أعمال نافذ بصم الحقل الاقتصادي في السوق المغربية وتم ربطه خلال تلك التجربة بنفس الحزب الذي يترأس الحكومة اليوم، حيث يتم الترويج له باعتباره المرشّح الأوفر حظًا لقيادة الحكومة القادمة، خلفًا لرئيس الحكومة الحالي - الذي يراد له ربما ان ينتقل
إلى موقع آخر -.
من الناحية الدستورية، تظل نتائج الاقتراع طبعا هي الفيصل، والدستور المغربي واضح في هذا الباب، لكن السياسة ليست فقط نصوصًا، بل أيضًا موازين قوى وتأثيرات بنيوية على المشهد العام.
الخطر هنا ليس في اسم الشخص بقدر ما هو في إعادة إنتاج نفس المعادلة السياسية–الاقتصادية التي عرفتها البلاد في السنوات الأخيرة: تغوّل الرأسمال على الممارسة السياسية، واستقواء المصالح المالية والشبكات المصالحية على المدرسة الوطنية الحزبية بمختلف مرجعياتها، مما يشكل تهديدًا لطبيعة الدولة الاجتماعية وللوحدة الوطنية، ويضعف قدرة الدولة على توجيه مسارها التنموي وفق أولوياتها ومصلحة المجتمع، لا وفق أولويات السوق.
التجربة المغربية مع رئيس الحكومة الحالي أظهر بوضوح أن الجمع بين الثروة الهائلة ومفاتيح القرار السياسي قد يؤدي إلى اختلالات خطيرة: تباينات في الثروة الوطنية وتخوفات بعض رجال الأعمال، صفقات ضخمة، دعم مالي سخي لفائدة دوائر ضيقة، ارتفاع الأسعار بشكل غير مسبوق، تضارب مصالح على أعلى المستويات، وانتعاش لوبيات وتجار الأزمات الذين كلّفوا الاقتصاد الوطني مليارات الدراهم، في مجموعة من المجالات كالطاقة أو التغذية والمواشي، وتحلية مياه البحر وغيرها من المجالات التي اثيرت في الفضاء العام حسب تقارير صحفية وبرلمانية.
هذا النموذج الليبرالي الذي قد يصبح متوحشا ليس جديدًا على التجارب الدولية؛ مع وجود الفارق في طبيعة النظام السياسي، حيث تبقى المؤسسة الملكية الضامن للتوازنات ولردع الانحرافات. فإيطاليا مثلا عاشت نموذجًا مشابهًا مع سيلفيو برلسكوني، رجل الأعمال والإعلام الذي ترأس الحكومة ثلاث مرات. سيطر برلسكوني على جزء كبير من المشهد الإعلامي والاقتصادي، ما مكّنه من التأثير المباشر على الرأي العام والسياسات العمومية. لكن النتيجة كانت إضعاف الثقة في المؤسسات، تضارب المصالح، واتهامات متكررة باستغلال المنصب لخدمة مصالحه الاقتصادية، وهو ما ساهم في تآكل جودة الحياة السياسية، وأدخل البلاد في دوامة من الأزمات السياسية والقضائية.
ومن المهم التأكيد هنا أن هذه المقاربة ليست موقفًا ضد رجال أو نساء الأعمال في حد ذاتهم، فهم رافعة أساسية للاقتصاد الوطني إذا اتيحت لهم الفرصة بشكل عادل ومتناسب، ومساهمون في خلق الثروة وفرص العمل. إنما الموقف الحازم هو ضد منطق الليبرالية المتوحشة الذي يجعل المال يتحكم في القرار السياسي، وضد استغلال النفوذ لتحقيق مصالح شخصية أو فئوية على حساب المصلحة العامة، وضد اختزال السياسة في خدمة دوائر اقتصادية ضيقة بدل خدمة الوطن والمجتمع.
في المغرب، استمرار نفس المنطق يعني تكريس نموذج تتراجع فيه السياسة أمام المال، وتُفرغ فيه المؤسسات من مضمونها، ويصبح التشريع خاضعًا لسلطة اللوبيات بدل أن يكون انعكاسًا لإرادة الأمة. القانون التنظيمي للإضراب، مثالًا، جاء ملبّيًا لمصالح اقتصادية أكثر من استجابته لروح الدستور وحماية الحق النقابي. أما المجتمع المدني، الذي ارتقى به دستور 2011، فقد هُمّش، وأُغرق الفضاء العمومي بمنطق الولاءات الحزبية للأغلبية بدل معايير الكفاءة والنزاهة.
إن المرحلة التي يمر بها المغرب اليوم، بما تحمله من تحديات مركبة وإكراهات متشابكة في مقدمتها أجراءة هذه الدولة الاجتماعية، وما تستدعيه من محطات مفصلية في مسار البلاد سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، تفرض إلحاحًا غير مسبوق على ضرورة استدعاء كفاءات وطنية أصيلة، متشبعة بالمرجعية الوطنية، ومؤهلة بالخبرة والجدية وروح المسؤولية، سواء في المجال التشريعي أو التدبيري. فربح رهان الوطن لن يتحقق إلا عبر الاستثمار في هذه الطاقات، بعيدًا عن منطق الشبكات المصالحية ومخططات أذرع الليبرالية المتوحشة، التي قد لا ترى إلا من زاوية الاستغلال وتكديس الثروة وجني المكاسب، ولو كان الثمن المساس بأسس الدولة الوطنية ومقوماتها الاستراتيجية. ولعل الملفات والوقائع المشار إليها أعلاه خير شاهد على ذلك.
في المقابل، الخطب والرسائل الملكية، وآخرها خطاب عيد العرش، تطرح رؤية مناقضة تمامًا لنهج هذة الليبرالية المتوحشة: رؤية ترتكز على العدالة الاجتماعية، التضامن الوطني، وتحصين المكتسبات الديمقراطية. إن استمرار الفجوة بين المشروع الملكي الاجتماعي-التنموي وبين ممارسات حكومات رهينة للمال واللوبيات ليس مجرد اختلاف في التوجهات، بل هو خطر استراتيجي على تماسك الدولة وقدرتها على الاستجابة لتحديات المستقبل.
إلى موقع آخر -.
من الناحية الدستورية، تظل نتائج الاقتراع طبعا هي الفيصل، والدستور المغربي واضح في هذا الباب، لكن السياسة ليست فقط نصوصًا، بل أيضًا موازين قوى وتأثيرات بنيوية على المشهد العام.
الخطر هنا ليس في اسم الشخص بقدر ما هو في إعادة إنتاج نفس المعادلة السياسية–الاقتصادية التي عرفتها البلاد في السنوات الأخيرة: تغوّل الرأسمال على الممارسة السياسية، واستقواء المصالح المالية والشبكات المصالحية على المدرسة الوطنية الحزبية بمختلف مرجعياتها، مما يشكل تهديدًا لطبيعة الدولة الاجتماعية وللوحدة الوطنية، ويضعف قدرة الدولة على توجيه مسارها التنموي وفق أولوياتها ومصلحة المجتمع، لا وفق أولويات السوق.
التجربة المغربية مع رئيس الحكومة الحالي أظهر بوضوح أن الجمع بين الثروة الهائلة ومفاتيح القرار السياسي قد يؤدي إلى اختلالات خطيرة: تباينات في الثروة الوطنية وتخوفات بعض رجال الأعمال، صفقات ضخمة، دعم مالي سخي لفائدة دوائر ضيقة، ارتفاع الأسعار بشكل غير مسبوق، تضارب مصالح على أعلى المستويات، وانتعاش لوبيات وتجار الأزمات الذين كلّفوا الاقتصاد الوطني مليارات الدراهم، في مجموعة من المجالات كالطاقة أو التغذية والمواشي، وتحلية مياه البحر وغيرها من المجالات التي اثيرت في الفضاء العام حسب تقارير صحفية وبرلمانية.
هذا النموذج الليبرالي الذي قد يصبح متوحشا ليس جديدًا على التجارب الدولية؛ مع وجود الفارق في طبيعة النظام السياسي، حيث تبقى المؤسسة الملكية الضامن للتوازنات ولردع الانحرافات. فإيطاليا مثلا عاشت نموذجًا مشابهًا مع سيلفيو برلسكوني، رجل الأعمال والإعلام الذي ترأس الحكومة ثلاث مرات. سيطر برلسكوني على جزء كبير من المشهد الإعلامي والاقتصادي، ما مكّنه من التأثير المباشر على الرأي العام والسياسات العمومية. لكن النتيجة كانت إضعاف الثقة في المؤسسات، تضارب المصالح، واتهامات متكررة باستغلال المنصب لخدمة مصالحه الاقتصادية، وهو ما ساهم في تآكل جودة الحياة السياسية، وأدخل البلاد في دوامة من الأزمات السياسية والقضائية.
ومن المهم التأكيد هنا أن هذه المقاربة ليست موقفًا ضد رجال أو نساء الأعمال في حد ذاتهم، فهم رافعة أساسية للاقتصاد الوطني إذا اتيحت لهم الفرصة بشكل عادل ومتناسب، ومساهمون في خلق الثروة وفرص العمل. إنما الموقف الحازم هو ضد منطق الليبرالية المتوحشة الذي يجعل المال يتحكم في القرار السياسي، وضد استغلال النفوذ لتحقيق مصالح شخصية أو فئوية على حساب المصلحة العامة، وضد اختزال السياسة في خدمة دوائر اقتصادية ضيقة بدل خدمة الوطن والمجتمع.
في المغرب، استمرار نفس المنطق يعني تكريس نموذج تتراجع فيه السياسة أمام المال، وتُفرغ فيه المؤسسات من مضمونها، ويصبح التشريع خاضعًا لسلطة اللوبيات بدل أن يكون انعكاسًا لإرادة الأمة. القانون التنظيمي للإضراب، مثالًا، جاء ملبّيًا لمصالح اقتصادية أكثر من استجابته لروح الدستور وحماية الحق النقابي. أما المجتمع المدني، الذي ارتقى به دستور 2011، فقد هُمّش، وأُغرق الفضاء العمومي بمنطق الولاءات الحزبية للأغلبية بدل معايير الكفاءة والنزاهة.
إن المرحلة التي يمر بها المغرب اليوم، بما تحمله من تحديات مركبة وإكراهات متشابكة في مقدمتها أجراءة هذه الدولة الاجتماعية، وما تستدعيه من محطات مفصلية في مسار البلاد سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، تفرض إلحاحًا غير مسبوق على ضرورة استدعاء كفاءات وطنية أصيلة، متشبعة بالمرجعية الوطنية، ومؤهلة بالخبرة والجدية وروح المسؤولية، سواء في المجال التشريعي أو التدبيري. فربح رهان الوطن لن يتحقق إلا عبر الاستثمار في هذه الطاقات، بعيدًا عن منطق الشبكات المصالحية ومخططات أذرع الليبرالية المتوحشة، التي قد لا ترى إلا من زاوية الاستغلال وتكديس الثروة وجني المكاسب، ولو كان الثمن المساس بأسس الدولة الوطنية ومقوماتها الاستراتيجية. ولعل الملفات والوقائع المشار إليها أعلاه خير شاهد على ذلك.
في المقابل، الخطب والرسائل الملكية، وآخرها خطاب عيد العرش، تطرح رؤية مناقضة تمامًا لنهج هذة الليبرالية المتوحشة: رؤية ترتكز على العدالة الاجتماعية، التضامن الوطني، وتحصين المكتسبات الديمقراطية. إن استمرار الفجوة بين المشروع الملكي الاجتماعي-التنموي وبين ممارسات حكومات رهينة للمال واللوبيات ليس مجرد اختلاف في التوجهات، بل هو خطر استراتيجي على تماسك الدولة وقدرتها على الاستجابة لتحديات المستقبل.
ذ. كمال الهشومي
استاذ العلوم ااسياسية بكلية الحقوق بأكدال
جامعة محمد الخامس - الرباط
استاذ العلوم ااسياسية بكلية الحقوق بأكدال
جامعة محمد الخامس - الرباط
