كلمة "هروب" مستعملة، في هذا العنوان، بمعنى أن شخصا ما هرب لأنه خائف من شيءٍ ما. وبعبارة أخرى، الشخصُ الهارِبُ، هارِبٌ لأنه يخشى أن يقع في قبضة الخوف، فتضيع منه أشياء كثيرة.
أما الخوف الذي أتحدَّثُ عنه، في هذه المقالة، فليس هو الخوف المعتاد كالخوف من أفعى أو عقرب أو من حيوان مفترس أو من كلبٍ مسعور أو من مرض أو من سوء أحوال الطقس أو من عدوان الآخرين أو من شرِّهم… الخوف الذي أتحدَّثُ عنه، هو الخوف من المستقبل، بعد إنهاء المسار الدراسي.
بالطبع، لا أحدَ يعلم كيف سيكون مستقبلُه. لكن لا شيءَ يمنع الناس، وخصوصا، الشباب منهم، أن يختاروا نوعيةَ هذا المستقبل وأن يتهيَّأوا لتحقيق هذا الاختيار. كيف يتم هذا التهيؤ؟
أول عقبة (مرحلة) يجب تخطِّيها هي الحصول على شهادة البكالوريا التي هي الدرجة الأولى التي تُمهِّد الطريقَ لبناء المستقبل المشار إليه أعلاه. وهذه المرحلة تبدأ من المدرسة الابتدائية l'école primaire، إن لم نقل تبدأ مبكِّراً، أي من التعليم ما قبل المدرسي l'enseignement préscolaire. وتنتهي بالتعليم الثانوي التَّأهيلي l'enseignement secondaire qualifiant, مروراً بالتَّعليم الثانوي الإعدادي l'enseignement secondaire collégial.
وهذه المرحلة التي قد تبدأ من التعليم ما قبل المدرسي وتنتهي بالتعليم الثانوي التأهيلي، أي بالحصول على شهادة البكالوريا، هي التي يتم فيها بناء الإنسان المغربي وتنشئتُه الاجتماعية construction de la personne humaine marocaine et sa socialisation. وهذه المرحلة تكتسي أهمية بالغة نظرا لتأثيرها على مستقبل الأجيال الصاعِدة les générations à venir. وأهمِّيتُها البالِغة مرتبطةٌ ارتباطاً وثيقاً بجودة الخدمات التي يقدِّمها المُدرِّسون داخل الأقسام، علماُ أن منظومتَنا التربوية بعيدة كل البُعد عن هذه الجودة.
ولهذا، فهذه المنظومة فشلت فشلاً ذريعا في بناء الإنسان المغربي المُتفتِّح فكريا والمُتحرِّر اجتماعياً والقادر على الإبداع وعلى خلق اللقيمات المضافة والثروة والمساهمة الفعلية في تنمية البلاد وازدهارها.
ولهذا، فكل شاب حاصل على شهادة البكالوريا ويتوفَّر على المؤهِّلات المشار إليها أعلاه، فالفضل لا يرجع للمنظومة التربوية. بل يرجع هذا الفضلُ إما لاجتهادٍ شخصي وإما للوسط الذي ترعرع فيه. فإذا كان هذا الوسط، هو نفسُه، متفتِّحاً فكرياً ومُتحرِّراً اجتماعيِاً، فلا بدَّ أن يكونَ له تأثيرٌ على شخصية هذا الشاب.
وفي غالب الأحيان، هذا النوع من النَّاشِئة يتابعون دراستَهم العليا في جامعاتٍ أو مؤسسات تعليمية عليا أجنبية. وعندما يُنهون دراستَهم العليا، غالباً ما يبقون في البلد الذي نالوا فيه شهادتَهم العليا. وقرارُ البقاء في البلد الذي نالوا فيه الشهادة العليا، إما أن يكونَ قراراً شخصيا وإما أن يكونَ مرتبطا برغبة بعض الشركات الخاصة أو المؤسسات العمومية التي ترغب في توظيف هذا النوع من البروفَيلاَت. فإذا كان القرار قراراً شخصياً، فهذا القرار هو الذي جعلني أُعطي لهذه المقالة عنوانَ "الهروب الاضطراري". لماذا؟
لأن الشاب المتفتِّح فكرياً والمُتحرِّر اجتماعياً، يزداد تفتُّحا وتحرُّراً أثناء إقامته في البلد الذي نال فيه شهادتَه العليا. وبالتالي، فإنه يصبح قادراً على تحليل مستقبله ودراستِه دراسةً يطرح، من خلالِها، حيثيات أو تفاصيل هذا المستقبل les tenants et les aboutissants de cet avenir.
وإضافةً إلى قدراته الفكرية en plus de ses capacités intellectuelles، فإنه يعرف، مُسبقاً، أن التَّوظيفَ، في هذا البلد السعيد، يخضع ل"باك صاحبي" وللزبونية le clientélisme وللمحسوبية le népotisme، بمعنى أنه إذا أردتَ أن تحصلَ على وظيفة أو منصب مشرِّفين، يلزمك واسطة un piston, وليس أية واسطة، واسطة يُقام لها ويُقعد. فمن ماذا قد يخاف هذا النوع من الشبان المُتفتِّحين فكريا والمُتحرِّرين اجتماعيا؟
يخافون أن يضيعَ منهم مستقبلُهم. وحتى إذا أمَّنوه، فإنه لن يسلمَ من الحساد والمُتآمرين والمُتربِّصين، وما أكثرهم، سواءً في القطاعين العام والخاص. هذه العوامل هي التي تدفع المتحرِّرين اجتماعياً والمُتفتِّحين فكرياً أن يهربوا مُضطرِّين من بلد ازديادِهم والإقامة في بلدان أجتبية، وهو ما يُسمى عادةً ب"هجرة لأدمغة" la fuite des cerveaux. وهجرة الأدمغة نزيفٌ تعاني منه جميع بلدان العالم، لكن، بصفة خاصة، البلدان السائرة في طريق النمو، التي هي في حاجة ماسة لبناتها وأبنائها. لماذا اعتُبِرت هجرة الأدمغة بالنزيف؟
لأن كثيرا من الشباب يغادرون البلادَ بعد حصولهم على شهادات عليا. وتعليم وتكوين الشباب، من المرحلة ما قبل المدرسية إلى المرحلة الجامعية له كُلفة مالية. وهذا يعني أن بلدان الإقامة تستفيد من الكفاءات المغربية دون أن تُنفقَ على تكوينهم ولو درهما واحدا. إنه، فعلاً، نزيف وضياعٌ للمال العام. وهذا النَّزيفُ هو الذي جعل شركاتٍ أجنبيةً ومؤسسات عمومية وخاصة تعجُّ بالكفاءات المغربية.
وفي الختام، عندما أقول الشباب المتفتِّح فكرياً والمتحرِّر اجتماعياً، فهذا لا يعني أن بلادَنا لا يوجد فيها هذا النوع من الشباب. لا أبدا! هذا النوع من الشباب موجودٌ في بلادنا. لماذا؟ لأن كثيرا منهم اختاروا عن طواعية البقاءَ في وطنهم الأم، وهم مشكورين على هذا الاختيار، رغم صعوبة التوظيف. والبقاء في الوطن الأم ليس اضطرارياً لأنه تم بدون ضغطٍ. أما فيما يخص الهروبَ الاضطراري، فالضغط مفروض على الشباب، أي ليس من اختيارهم. فمتى سيُرفَع هذا الضغط عن الشباب "بْلا ما نْعْطِوْ خَيْرْنا لْغِيرْنَا".
