"كلنا أمازيغ"!.. هذا ما تُصِرّ على تأكيده أدبيات الحركة الأمازيغية، ومنه تستقي عناوين "الشعب الأمازيغي" و"بلاد تمازغا"، و"العلم الأمازيغي"، و"اللغة الأمازيغية"، و"السنة الأمازيغية".. وغيرها مما تؤثث به مشروعها في تشكيل "القومية الأمازيغية" ضداً على المشروع القومي العربي الوافد من المشرق...
فهل المغاربة جميعًا "أمازيغ"؟
(1) ـ أصل كلمة "أمزيغ":
شاع بيننا من خلال الخطاب السائد للحركة الأمازيغية أن معنى "أمزيغ" هو "الإنسان الحُرّ النبيل". فهل هذا هو معناه الوحيد؟
مما ورد من فرضيات بخصوص كلمة "أمزيغ" نجد: "الغازي"، و"الغريب"، و"المستقر"، و"البَنّاء" و"المُشيِّد"، و"الأحمر". ويبدو لنا هذا المعنى الأخير (الأحمر) هو الأقرب إلى الصواب إذا علمنا أن كلمتي "إمزوغ" و"إمزوغان" تحملان معنى الشيء الأحمر. ونجد في أحد المعاجم الصادرة في الجزائر كلمة "أميزواغ" (جمعها: "إميزواغن") تحمل معنيين: "الأحمر" و"رجلٌ من العرق الأبيض".
فماذا لو رجعنا مباشرة دون وسطاء إلى ما تحتفظ به الذاكرة الشعبية لهذه الكلمة؟
أنا من أبناء جنوب شرق المملكة المغربية، وإنك إذا سألت أيّ شخص (مهما كان سنه) في بوادي هذه المنطقة عن معنى كلمة "أمزيغ"، فسيجيبك ببداهة ودون أدنى تردد بأنها تعني "الأبيض". هكذا بكل بساطة بعيدًا عمّا يُتكلّف من تأويلات. وفي اللسان العربي الدارج بالمنطقة، عندما نصف شخصًا بأنه "أحمر"، فنعني بذلك أنه "أبيض".
ويزداد تأكيد هذا المعنى "البسيط" و"الواضح" من خلال القصص التي تتردّد وقائعها بين الحين والآخر بين شباب المنطقة. فعندما يتجرأ شاب أسود على طلب يد فتاةٍ بيضاء للزواج من نفس دوّاره، أي أن كليهما معًا يعيشان في بيئة بربرية واحدة ويتكلمان لغة بربرية واحدة، فإنه في كثير من الحالات (إن لم نقل معظمها أو كلها) يرفض الأهل مُباركة الزواج لأن الذي تقدّم ليس "أمازيغيًا"! أي بمعنى أنه: ليس "أبيضًا" ببساطة.
لهذا فإن إطلاق كلمة "أمازيغ" يستدعي بالضرورة الكلمات الدالة على السود، من قبيل: "الحرطاني"، و"أسوقوي" و"إسمخ".
(2) ـ "الإنسان الحُرُّ النبيل":
فكيف تطورت كلمة "أمزيغ" من معناها الحقيقي "أحمر" أو "أبيض" إلى المعنى المجازي "الحُر النبيل"؟
لا نجد أفضل من موقف الزواج المختلط نفسه لكي نعرض لهذا التطور.
فالبيض والسود يعيشان معًا في المنطقة متجاورين متداخلين إلى مستوى التشابك، وهما على كل حال يتعاونان في كل شيء مما له علاقة بالمصلحة العامة... غير أنه في مسألة التزاوج بالذات، فإنك تجد نفسك فيما يشبه الجزر المنغلقة على نفسها، فيُمنع التزاوج بين العنصرين، أو بالأحرى: يمتنع (أو يأ نف) "العنصر الأبيض" عن التزاوج مع "العنصر الأسود"!
يشتد إذن التركيز على كلمة "أمزيغ" كلما تعلق الأمر بمشروع للزواج بين أسود وأبيض. فحينها ينتفض أهل الأبيض لكي يعترضوا على هذا الزواج جملة وتفصيلاً بدافع غير مصرح به، حقيقته: الحفاظ على نقاء وصفاء العرق الأبيض وملامحه "الرقيقة"، "الجميلة"، "النبيلة".
هذا الرفض الصارم، المتشنج أحيانًا كثيرة، يستشنع اختلاط الدماء؛ أو بالأحرى، يستشنع أن تتلوث الدماء البيضاء النقية بدماء سوداء مستقبحة. هكذا إذن نصل إلى معنى "الحُر" و"النبيل" (في تصوري بحسب النسق الاجتماعي للمنطقة التي أنتمي إليها): فالأبيض هو ذلك الإنسان الذي سلِمت دِماؤه من الاختلاط بدماء أخرى يُنظر إليها بقذارة، وهي هنا بطبيعة الحال الدماء الزنجية. "الأمازيغي" هو ذلك الإنسان الذي حقق نقاءً وصفاءً عرقيًا، فلا تشوبه شائبة. في حين أن الخلاسي (والأسود) هو كائن بشري مشوه لا صلة له بالنسخة الأصل.
بهذا تحمل كلمة "أمزيغ" معاني: النقي، والأصيل، والحقيقي، والحُر، والنبيل..، وما شابه ذلك من المعاني "الجميلة" التي ينسبها "الأسياد البيض" لأنفسهم.
خلاصة القول
ننقلها على لسان رجل مسن أبيض أمغر (أمازيغي) من الجنوب الشرقي؛ فقد سألته يومًا: «هل يمكن أن أصف جاري الأسود بأنه "أمازيغي"؟»... استشنعت ملامح وجهه السؤال..، ثم أجاب بحسم لا تردد فيه: «لا!..».
(3) ـ سكان المغرب الأولون:
في يوم دراسي نظمه المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية سنة 2018 بعنوان "صورة الأمازيغ في الكتابات الوطنية والأجنبية"، تحدث أحد باحثيه عن التنظيم الاجتماعي لآيت عطا، فلم يتردد في ربط وجود عنصر "الحراطين" (السود) بجنوب شرق المغرب مباشرة بتجارة الرقيق. كما يبدو من خلال ذلك اليوم الدراسي أن هناك "إجماعًا" على أن الليبيين (الليبو أو الريبو) هم "الأمازيغ القدامى". وهذا ما تكاد تجمع عليه جميع الأدبيات الأمازيغية منذ ظهورها في ستينيات القرن العشرين.
غير أنه، وبتفحص المراجع التاريخية، نكتشف أن شمال إفريقيا الذي تصر أدبيات الحركة الأمازيغية على تبييضه، هو في الواقع غير ذلك تمامًا.
فأول عنصر بشري وثقت المصادر المصرية وجوده غرب النيل هو عنصر "التيحينو" في حوالي 3200 ق.م؛ وهو ذو صفات زنجية تختلف تمامًا عن عنصر "التيميحو" الأمغر ذي العيون الزرقاء الذي ذكر بعد ذلك بما يقارب ألف سنة (2300 ق.م.): أفلا يكون التيحينو (الأقرب للزنوج) مجرد مجموعة من الإثيوبيين الذين تحدث عنهم الكتاب القدامى؟ ثم ألا يكون التيميحو (البيض) مجرد وافدين (أو غزاة) جدد على المنطقة (غرب مصر على الأقل) دفعوا الإثيوبيين نحو الجنوب والشرق؟
وبالانتقال إلى القرن الخامس ق.م. مع المؤرخ اليوناني هيرودوت، نجده يتحدث عن شعبين أصيلين في ليبيا (شمال إفريقيا): الليبيون والإثيوبيون.
وبحسب المؤرخ الفرنسي (Stéphane Gsell) فإن الإثيوبيين قد سكنوا الصحراء إلى تخومها الشمالية على الأقل منذ أزمنة بعيدة، وبصموا عليها رسوماتهم. وإنه إذا كان الباحث في معهد الثقافة الأمازيغية ينسب سكان الواحات قسرًا لتجارة الرقيق، فإن المؤرخين ينسبونهم إلى الإثيوبيين الذين كانوا يستوطنون الصحراء منذ عهود قديمة غابرة. ويمكن أن نقول هنا (على الأقل) أن ما يقارب النصف الجنوبي للمغرب (بما فيه تافيلالت ودرعة وسوس على الأقل)، وثلثي الجزائر جهة الجنوب، وأكثر من نصف تونس جهة الجنوب، وكامل ليبيا وموريتانيا، كانت كلها مواطن للإثيوبيين منذ القديم قبل أن يزاحمهم فيها أو يزحزحهم عنها الليبيون (البيض).
بل ويمكننا أن نتقدم أكثر نحو الشمال إلى السواحل المتوسطية، حيث إن فرضية أن يكون السود هم السكان الأقدمون لشمال إفريقيا غير مستبعدة.
أمام هذا الحرج، فقد ابتكر أحد كتاب الحركة الأمازيغية عنصرًا: "الأمازيغ ذوي الملامح الزنجية"!!.. وهو لا يعي أنه يريد أن يجمع قسرًا بين معنيين متضادين: "أبيض أسود"!!..
(4) ـ عودٌ على بدء:
هل المغاربة جميعًا "أمازيغ"؟ بمعنى: هل المغاربة جميعًا "بيض"؟
كان جواب الشيخ المسن العارف بثقافة قومه كما توارثتها الأجيال واضحًا..، إنه: «لا!..».
فهل تعمدت الحركة القومية الأمازيغية منذ نشأتها تجنب الحديث عن معنى "البياض" لكلمة "أمزيغ"، حتى وإن كانت أدبياتها لا تتحدث عن الليبيين بصفتهم "الأمازيغ القدامى" إلا بكونهم "بيضًا"؟
ألم يكن مؤسسو الخطاب الأمازيغي يدركون ذلك؟ ربما.. فالقبائليون في الجزائر لم يكن لهم علم مسبق بكلمة "أمزيغ"، وإنما أخذوها عن بربر المغرب. وبخصوص نشأة هذا الخطاب في المغرب، فقد شهد انطلاقته من المدن الكبرى، وليس من البوادي؛ لذلك فقد وجد نفسه (ربما) بعيدًا عن إدراك المعنى الذي تحمله كلمة "أمزيغ" في النسق الاجتماعي للبادية المغربية، فلا يدرك بذلك عمق الألم الذي تُحدثه تلك الكلمة العرقية الإقصائية "أمزيغ" في نفوس من تُرفع في وجوههم من أحفاد الإثيوبيين. غير أن تأكيد الأدبيات الأمازيغية على ربط تاريخ شمال إفريقيا بالليبيين وحدهم يرجح فرضية أن الحركة الأمازيغية منذ نشأتها لا تنظر إلى سُودِ المنطقة إلا على أنهم جميعًا مجرد وافدين جدد، تم استقدامهم إلى بلاد المغرب في إطار تجارة الرقيق.
ما موقع أحفاد الإثيوبيين في خطاب الحركة الأمازيغية؟.. إنه لا شيء يُذكر، أو محاولات إلحاق متعسفة فاشلة ونسب كل شيء على وجه هذه الأرض وتحتها للأمازيغ (للبيض)، ويبقى الأصل والمرجع هو ذلك "الليبي الأمغر" "الأمازيغي القديم"، صاحب البشرة البيضاء المشربة بالحُمرة... ذلك الجميل النبيل.
أتُرانا في حاجةٍ إلى عبث إحداث "حركة قومية للسود" لرد الاعتبار لأحفاد الإثيوبيين على غرار "الحركة القومية الأمازيغية" التي قامت بدعوى رد الاعتبار لأحفاد الليبيين، فتستمر عمليات التفكيك والتفتيت إلى ما لا نهاية!..
خلاصة القول: أننا جميعًا في عصر جديد نريد أن نتجاوز فيه بقايا الجاهلية في شتى صورها..، ومن ذلك أن نقبر كل المفاهيم التي تجرنا إليها، ونكفّ عن محاولة بعث الحياة في جثثها المتحللة المتعفنة. وإنه إذا كان جليًا الأذى والألم الذي يتسبب فيه تداول كلمات من قبيل "حرطاني"، و"أسوقوي"، و"إسْمَخ" لارتباط ذكرها باستحضار وضع اجتماعي متدنٍ وتاريخ من الظلم الذي تعرض له أحفاد الإثيوبيين في بلاد المغرب على مر التاريخ..، فإن كلمة "أمازيغ" تنحدر من نفس المعجم، وهي نفسها تتسبب في نفس الأذى والألم، لأن ذكرها يستحضر مباشرة وضعًا اجتماعيًا مستعليًا مزهوًا بخِلْقته وتاريخًا خلوًا من أي نبل تجاه خِلْقة الله الأخرى.
كما يجب الكفُّ عن نسب كل شيء لـ"الأمازيغ أحفاد الليبيين"، من قبيل: "الرسومات والنقوش الأمازيغية"، و"الشعب الأمازيغي"، و"بلاد تمازغا"، و"اللغة الأمازيغية"، و"التقويم الأمازيغي"، والعلم الأمازيغي"..، والكفُّ بذلك عن محاولات إسباغ "البياض" على كامل أرجاء هذه البلاد، وكأنه لم يستوطنها قطّ أي عنصر آخر غير العنصر الأبيض (الأمازيغ).
... لهذا، فإن كلمة "أمزيغ"، مثلها مثل كلمات "حرطاني" و"أسوقوي" و"إسمخ"، ليست هي كلمة "السر" التي من شأنها أن تستجمع وجدان جميع المغاربة على قلب رجل واحد للنهوض بأوضاع هذا البلد نحو غد أفضل. ويكفينا القول أننا جميعًا بنو آدم، سودنا وبيضنا..؛ وأنه لا فضل لأمغر (أحمر) على أسود...
وفي انتظار أن نهتدي جميعًا إلى كلمة "السر" الجامعة التي تهنا عنها..، فلا أقل ولا أكثر أننا جميعًا في هذا الوطن مجرد "مغاربة".
"مغاربة"، والسلام.