في زقاق ضيق من حي شعبي، كان الجدار مشقوقا كفاية ليمر منه الضوء، وكانت طفولتنا أوسع من الأزقة، وأعمق من الجيوب الفارغة. فجأة، يأتي أحد الجيران من الحج، لا يحمل ذهبا ولا ألعابا حديثة، بل شيئا غريبا أحمر اللون، له عدستان وقرص شفاف في الأعلى. لم نكن نسميه. كنا فقط نقول: "المصورة اللي كتوري العالم".
كأن السماء انفتحت أمامنا، وصار بوسعنا أن نرى مدنا لم نكن نعرف أسماءها، وقصصا لا توجد في الكتب المدرسية، وألوانا تشبه الحلم. نجلس صفا واحدا، ننتظر دورنا، ونحدق من ثقبين صغيرين وكأننا نطل من نافذة سرية على مجرة لا نراها إلا بالحظ الطفولي.
كان كل واحد منا يرى ما لم يره الآخر. نعود لنقول: "شفت الجبل اللي فيه الثلج؟"، فيرد آخر: "لا، شفت حصان بجناحين!". وكأن كل قرص يخبئ عالما مخصصا لمن يملك دهشة القلب.
في صباحات المدرسة، كنا نمر من شارع جانبي، وهناك، على زاوية صامتة، رجل يضع آلات مماثلة على طاولة مهترئة، تحيط بها نظرات الأطفال مثل النحل على زهرة نادرة. ندفع قطعة نقدية صفراء، ويمنحنا الرجل دورة واحدة. دورة واحدة فقط. وهو يقف كحارس للزمن، يحصي الدورات، يمنع التكرار، يحرس حدود الحلم: "ممنوع تعاود!".... وكنا نحزن لأننا لا نشبع رغبة التجول البصري... لكننا في العمق كنا نكتشف: أن كل لحظة حلم يجب أن تعاش كما هي، دفعة واحدة، دون إعادة.
وحين كبرنا قليلا، صرنا نرى الجهاز يباع في دكاكين المدينة( تطوان). لكنه هذه المرة فقد سحره، أو ربما فقدنا تلك العين البريئة التي كانت ترى الضوء في الورق، والمجرة في الثقب، والحكاية في صورة ساكنة. صار الجهاز بلا طابور، بلا تناوب، بلا حارس، وبلا رهبة.
نسترجع... يبدو أننا لم نكن نفهم الأشياء من خارجها، بل من كيفية عيشها، ومن طريقة تلقي وعينا لها. والجهاز لم يكن لعبة. كان تجربة وعي: نحن لا نرى الصورة، بل نرى أنفسنا فيها. وكان أيضا درسا في الانتظار، وفي الإصغاء، وفي تقاسم الدهشة... والعدسة لم تكن فقط لتكبير الصورة، بل لتكبير ما في داخلنا من قابلية للدهشة. كأن الجهاز جاء من سفر بعيد، ليعلمنا كيف نرى. فأن تنظر من ثقبين صغيرين، وتحمل فيك كونا شاسعا، فذلك فعل تأملي عظيم.
علبة صغيرة، وقرص، وضوء، وطفل… ذاك هو المسرح. وذاك هو الدرس الأول: أن ترى المألوف كما لو أنك تراه لأول مرة. وأن تدرك أن أجمل الأشياء... كنا نستعيرها بلطف، ونردها بدهشة، وننساها ببطء...
كأن السماء انفتحت أمامنا، وصار بوسعنا أن نرى مدنا لم نكن نعرف أسماءها، وقصصا لا توجد في الكتب المدرسية، وألوانا تشبه الحلم. نجلس صفا واحدا، ننتظر دورنا، ونحدق من ثقبين صغيرين وكأننا نطل من نافذة سرية على مجرة لا نراها إلا بالحظ الطفولي.
كان كل واحد منا يرى ما لم يره الآخر. نعود لنقول: "شفت الجبل اللي فيه الثلج؟"، فيرد آخر: "لا، شفت حصان بجناحين!". وكأن كل قرص يخبئ عالما مخصصا لمن يملك دهشة القلب.
في صباحات المدرسة، كنا نمر من شارع جانبي، وهناك، على زاوية صامتة، رجل يضع آلات مماثلة على طاولة مهترئة، تحيط بها نظرات الأطفال مثل النحل على زهرة نادرة. ندفع قطعة نقدية صفراء، ويمنحنا الرجل دورة واحدة. دورة واحدة فقط. وهو يقف كحارس للزمن، يحصي الدورات، يمنع التكرار، يحرس حدود الحلم: "ممنوع تعاود!".... وكنا نحزن لأننا لا نشبع رغبة التجول البصري... لكننا في العمق كنا نكتشف: أن كل لحظة حلم يجب أن تعاش كما هي، دفعة واحدة، دون إعادة.
وحين كبرنا قليلا، صرنا نرى الجهاز يباع في دكاكين المدينة( تطوان). لكنه هذه المرة فقد سحره، أو ربما فقدنا تلك العين البريئة التي كانت ترى الضوء في الورق، والمجرة في الثقب، والحكاية في صورة ساكنة. صار الجهاز بلا طابور، بلا تناوب، بلا حارس، وبلا رهبة.
نسترجع... يبدو أننا لم نكن نفهم الأشياء من خارجها، بل من كيفية عيشها، ومن طريقة تلقي وعينا لها. والجهاز لم يكن لعبة. كان تجربة وعي: نحن لا نرى الصورة، بل نرى أنفسنا فيها. وكان أيضا درسا في الانتظار، وفي الإصغاء، وفي تقاسم الدهشة... والعدسة لم تكن فقط لتكبير الصورة، بل لتكبير ما في داخلنا من قابلية للدهشة. كأن الجهاز جاء من سفر بعيد، ليعلمنا كيف نرى. فأن تنظر من ثقبين صغيرين، وتحمل فيك كونا شاسعا، فذلك فعل تأملي عظيم.
علبة صغيرة، وقرص، وضوء، وطفل… ذاك هو المسرح. وذاك هو الدرس الأول: أن ترى المألوف كما لو أنك تراه لأول مرة. وأن تدرك أن أجمل الأشياء... كنا نستعيرها بلطف، ونردها بدهشة، وننساها ببطء...