خلال جلسة الأسئلة الشفوية الأخيرة بمجلس النواب كان الرأي العام ينتظر من وزير الشباب والثقافة والتواصل أجوبة واضحة وصريحة حول مستقبل مراكز الاستقبال المخصصة للطفولة والشباب، لا سيما بعد الجدل الذي أثير بشأن نية الوزارة تفويتها أو إعادة تدبيرها بصيغ غير معهودة. غير أن ما تم تقديمه لم يكن سوى استعراض تقرير إنشائي مألوف، يعيد تكرار ما سبق قوله في أكثر من مناسبة، دون أن يلامس جوهر الإشكالات أو يقدم ما يشفي الغليل.
فالوزير، وهو يستعرض "جهود التحضير للعرض الوطني للتخييم"، بدا وكأنه يراجع درسا في الحساب أكثر مما يقدم رؤية سياسية وتربوية واضحة، إذ غاب الحديث عن الأرقام الدقيقة، كعدد المراكز التي أعيد فتحها، وعدد الأسرة التي تمت إضافتها، ومصير الميزانيات التي رصدت للإصلاح، وما الجديد الذي تحقق في مجال المطعمة، أو طبيعة الموارد الإضافية التي تم تعبئتها من خلال شراكات وطنية أو دولية.
لكن اللحظة الأكثر توترا كانت حين طرح الفريق الاشتراكي – المعارضة الاتحادية، سؤالا مباشرا حول نية الوزارة تفويت تدبير مراكز الاستقبال، خصوصا في ظل الاستمرار غير المفهوم في إغلاق عدد منها لأزيد من سنتين، رغم مرور زمن الجائحة، وإعلان انتهاء الأشغال بها نهاية سنة 2023 سؤال دقيق كان ينتظر جوابا مسؤولا و واضحا.
غير أن الوزير آثر القفز فوق السؤال، واعتبر ما يتداول حول "تفويت المخيمات" مجرد "أخبار زائفة"، دون أن يقدم أي توضيح بخصوص وضعية مراكز الاستقبال المغلقة، ولا عن أسباب تأخر فتحها، ولا عن طبيعة الجهات التي يمكن أن تتولى تدبيرها مستقبلا. بل زاد الأمر غموضا حين تحدث عن إمكانيات جديدة للشراكة مع فاعلين لم يسمهم، لمساعدته على تغطية العجز المالي، مما يعيد طرح السؤال بصيغة أكثر قلقا: هل نحن أمام تفويت معلن، أم خصخصة مقنعة لمرفق عمومي؟
الأخبار الرائجة والمعطيات المتوفرة، والزيارات الميدانية التي قامت بها عدة لجن، إضافة إلى رفض بعض الجهات التدبير المفوض لما يعرف بـ "مخيمات الجيل الجديد" ليست أخبار زائفة، حيث لا دخان من غير نار ...فكلها تؤكد أن واقع الحال لا يطابق خطاب الوزارة. بل إن استبعاد الجمعيات الوطنية النشيطة، التي راكمت تجربة مهنية وتربوية مشهودة، يبعث برسائل مقلقة حول مستقبل الفضاءات التربوية العمومية، إن لم نقل حول فلسفة الدولة في تعاطيها مع قضايا التنشئة.
فالخطورة لا تكمن فقط في غموض الجواب، بل في إنكار الواقع والخلط المتعمد بين "الإكراهات الإدارية" و"التوجهات السياسية". وعندما تقصى الجمعيات التي حملت على عاتقها هم الطفولة لعقود، وتعقد الوزارة العزم على فتح الباب لتدبير فضاءات عمومية من طرف جهات ذات طابع تجاري أو حزبي، فإننا نكون فعلا أمام تفويت غير معلن، يضعف الثقة في الشراكة، ويقوض مبدأ تكافؤ الفرص. وهنا ينبغي التذكير، أن مراكز الاستقبال لم تكن يوما بنايات مهجورة أو فضاءات فارغة للكراء الموسمي. بل كانت ولا تزال ورشا حيويا لصيانة الحق في التربية، والعدالة المجالية، والإدماج الثقافي والاجتماعي، خصوصا لفائدة الفئات الهشة والمهمشة.
فهل من المقبول أن نخضع هذه المؤسسات لمنطق العرض والطلب، بدل أن نظل أوفياء لرسالتها العمومية الأصيلة؟
وكثيرا ما يتم تبرير التفويت أو التدبير المفوض بخطاب تكنوقراطي يبشر بتحسين الخدمات وتخفيف الأعباء عن كاهل الدولة. غير أن التجارب المماثلة في قطاعات أخرى علمتنا أن مثل هذه الوعود سرعان ما تنهار أمام الواقع: تتراجع الجودة وتقصى الفآت الهشة والفقيرة، وتغيب الرقابة، ويصبح الفضاء العمومي سلعة لمن استطاع إليه سبيلا.
السؤال الحقيقي الذي لم يجب عنه الوزير هو: ما مصير هذه المراكز؟ ولماذا تظل مغلقة بعد إصلاحات كلفت أموالا عمومية طائلة من جيوب الشعب؟ وما الجدوى من الاستثمار في بنايات إن لم تفتح أبوابها للأطفال والشباب في مختلف ربوع الوطن؟
إن ما تطالب به الجمعيات الوطنية ليس أكثر من احترام المعايير التي طالما نادت بها الدولة نفسها: الإنصاف، الشفافية، الإشراك الفعلي للفاعلين التربويين الحقيقيين. كما تطالب بإعادة فتح هذه المؤسسات فورا، وتوظيفها لصالح الطفولة المغربية، بدل تركها عرضة للتآكل الإداري أو للمشاريع الظرفية الخالية من الروح.
إن الدول التي وضعت الاستثمار في الإنسان في قلب سياساتها العمومية أثبتت أن كل درهم يُصرف في فضاء تربوي آمن، يوفر أضعافه على الدولة في مجالات الأمن، الصحة، والسلم الاجتماعي. فهل نريد أن نبعث لأبنائنا رسالة مفادها أن التنشئة لم تعد أولوية؟ أم نعيد الاعتبار لمؤسسات قوية، دامجة، عمومية، تكرس ثقة المواطنين في الدولة وتحصن أجيال المستقبل؟
لا نريد خطابات، بل نريد أبوابا تفتح، وفضاءات تفعل، ووضوحا في التوجه، وجرأة في الإصلاح.
وللسيد الوزير نقول بكل احترام: إن الشمس لا تغطى بالغربال.
وللسيد الوزير نقول بكل احترام: إن الشمس لا تغطى بالغربال.