Saturday 21 June 2025
فن وثقافة

مصطفى عنترة: عبد اللطيف أكنوش.. الأستاذ الذي ربى العقول على السؤال والصرامة

مصطفى عنترة: عبد اللطيف أكنوش.. الأستاذ الذي ربى العقول على السؤال والصرامة مصطفى عنترة وعبد اللطيف أكنوش(يسارا)

في المشهد الجامعي المغربي، تتألق أسماء بعض الأساتذة الذين لا تقتصر مساهماتهم على حدود المدرجات والامتحانات، بل تتجاوزها إلى بناء الفكر، وتشكيل الوعي السياسي، وتكوين نخب معرفية فاعلة في مختلف مناحي الحياة العامة. ومن بين هؤلاء، يحضر اسم الدكتور عبد اللطيف أكنوش، أحد أبرز أساتذة العلوم السياسية والتاريخ السياسي والدراسات الأمنية، الذي طبع التكوين الجامعي في المغرب ببصمته الخاصة، وعُرف بصرامته العلمية وثرائه الفكري.

ـ أكنوش بين قاعة الدرس ومنابر التأثير:

فعلاً، إنه رجل استطاع أن يترك أثرًا لا يُمحى في المشهد الأكاديمي، بفضل مزيج نادر من الصرامة العلمية، والكرم المعرفي، والحضور الوازن في حقول التدريس والبحث والإعلام. هو أستاذ لا يدرس فقط، بل يكون، يربي، ينير... وفي كثير من الأحيان، يلهم.

انطلقت مسيرة الدكتور أكنوش الأكاديمية منذ سبعينيات القرن الماضي حين التحق بكلية الحقوق بالدار البيضاء، ومنذ ذلك الوقت لم يتوقف عن العطاء العلمي والتربوي.

تميز بنفس طويل في العمل الأكاديمي، جمع فيه بين فن التدريس وعمق البحث، حتى أصبح عميدًا فعليًا ـ غير رسمي ـ لعلم السياسة داخل الجامعة المغربية. كثير من طلبته الذين تلقوا تكوينهم على يديه يشغلون اليوم مناصب عليا في مؤسسات استراتيجية في البلاد، وهو ما يعكس التأثير العميق الذي خلفه في تكوين نخبة مغربية واعية ومؤهلة.

من السمات التي ميزت مسيرة الدكتور أكنوش المهنية، تلك الصرامة العلمية التي رافقته طيلة مسيرته، والتي جعلت منه أستاذًا يُحسب له ألف حساب في أوساط الطلبة، ليس خوفًا، بل احترامًا وتقديرًا للمعرفة التي يحملها. لم يكن أستاذًا نمطيًا، بل نموذجًا للأستاذ الجامعي الباحث المجتهد، الذي يدمج بين قوة التأطير الأكاديمي، والقدرة التحليلية الدقيقة، والاطلاع الواسع على الأدبيات السياسية، باللغتين العربية والفرنسية.

من أبرز سماته الصرامة العلمية، التي لم تكن تعني الجفاف أو القسوة، بل كانت انعكاسًا لنزاهة معرفية واحترامًا عميقًا للعلم والجامعة.

عرف عنه عشقه الكبير للقراءة، وهذه حقيقة يعرفها جيدًا المقربون منه، إذ قد ينهي كتابًا كاملاً في يوم واحد، ليعود في اليوم الموالي ليقدم تلخيصًا تحليليًا شاملًا لمحتواه، مشفوعًا برؤيته الأكاديمية الخاصة. وهذه القدرة الاستيعابية المذهلة جعلت منه مرجعًا فكريًا لا غنى عنه في الفضاء الجامعي المغربي.

أثرى الدكتور أكنوش الخزانة الأكاديمية بعدد من المؤلفات باللغتين الفرنسية والعربية، نذكر منها: "واقع المؤسسة والشرعية في النظام السياسي المغربي على مشارف القرن 21"،

"Histoire politique du Maroc : Pouvoir - Légitimités - Institutions"،

"La dialectique institution, légitimité au Maroc à l'heure du changement politique".

لكن أبرزها كتابه المرجعي الذي ارتبط باسمه: "تاريخ المؤسسات السياسية والوقائع الاجتماعية"، الذي صدرت له طبعتان. فالكتاب لا يكتفي بسرد الوقائع التاريخية، بل يقدم تحليلًا معمقًا لمسار تطور المؤسسات السياسية بالمغرب، في ارتباطها بالسياقات الاجتماعية والثقافية. وقد تحول هذا العمل إلى مرجع مركزي للطلبة والباحثين في علم السياسة، نظرًا لشموليته وتماسكه المنهجي.

لم تقتصر تجربة أكنوش على كلية الحقوق بعين الشق بالدار البيضاء، بل درس أيضًا بكلية الحقوق بسطات، كما خاض تجربة التدريس كأستاذ زائر بفرنسا، وتحديدًا بجامعة بيربينيون Perpignan، وأشرف على العديد من الأطروحات العلمية؛ إضافة إلى مجموعة من المعاهد العليا الخاصة التي استفادت من محاضراته وورشاته التكوينية.

درس باللغتين العربية والفرنسية، وهو ما منحه مرونة فكرية وقدرة على إيصال المعرفة إلى جمهور متنوع من الطلبة، داخل المغرب وخارجه. وقد أكسبته هذه التجربة الأكاديمية المتعددة أبعادًا فكرية مقارنة، وجعلت منه أستاذًا منفتحًا على المناهج المتنوعة، دون أن يتخلى عن خلفيته النقدية الصارمة.

يُعد من الباحثين المتمكنين في التاريخ السياسي للمغرب والعالم الإسلامي، حيث راكم تجربة بحثية عميقة في تحليل تطور الدولة المغربية، من المخزن التقليدي إلى الدولة الوطنية الحديثة. له أبحاث ودراسات علمية غير منشورة، يتميز بإلمام واسع بأمهات المصادر التاريخية والفقهية والسياسية التي أرخت لبنية السلطة في بلادنا، كما يمتلك قراءة نقدية معمقة لمجمل الكتابات الأجنبية التي قاربت النظام السياسي المغربي.

وقد وقف في أبحاثه عند إسهامات رواد علم الاجتماع السياسي بالمغرب، خاصة أعمال جون واتربوري (Waterbury)، وريمي لوفو (Rémy Leveau)، دون أن ينزلق في تبني أطروحاتهم بشكل تقريري، بل انخرط في تفكيكها وتقييمها نقديًا، مبرزًا محدوديتها في إدراك التعقيد التركيبي للنسق السياسي المغربي وتفاعلاته مع المجتمع.

ـ من التأطير الجامعي إلى الحقول الاستراتيجية:

خاض الدكتور أكنوش تجربة إعلامية مميزة، بدأت بصحيفة "المستقل" وشقيقتها باللغة الفرنسية L’indépendant، حيث ساهم بقلمه وتحليلاته في إثراء هذه التجربة رفقة ثلة من الوجوه أبرزهم الصحفي المتميز خالد الحامعي.

مر من تجربة مهنية لافتة في مجلة الشرطة التي أعاد هيكلتها في نسختيها العربية والفرنسية، مانحًا إياها بعدًا تحليليًا أكاديميًا غير مسبوق.

وتعززت خبرته كذلك من خلال عمله كمستشار لدى وكالة المغرب العربي للأنباء، حيث قدم توجيهات تحريرية في كل ما يتعلق بالقضايا الأمنية، وهو المجال الذي راكم فيه تجربة معتبرة، جعلته في مقدمة الأسماء التي ساهمت في تأسيس حقل الدراسات الأمنية بالمغرب.

من أبرز الإسهامات المؤسساتية للدكتور أكنوش تأسيسه لماستر الدراسات الأمنية بكلية الحقوق بسطات، واضعًا بذلك حجر الأساس لتكوين أكاديمي مغربي رصين في هذا المجال الحيوي. كما اشتغل خبيرًا في وزارة الداخلية والمديرية العامة للأمن الوطني، حيث قدم استشارات مبنية على دراية معرفية وتجربة طويلة في متابعة وتحليل الظواهر الأمنية والسياسية المعاصرة.

إلى جانب صرامته الأكاديمية، عرف الأستاذ عبد اللطيف أكنوش بسخائه المعرفي وتواضعه في التأطير. لم يكن يحتكر المعرفة، بل كان حريصًا على توجيه طلبته ومساعدتهم على بلورة مشاريعهم البحثية، خصوصًا في مجال القضايا الأمنية والتحولات السياسية. لا يبخل عليهم بالمعلومة ولا بالتوجيه، حتى أن طلبته كثيرًا ما وصفوه بـ"الأستاذ المعطاء".

كانت محاضرات الدكتور أكنوش تشكل حدثًا معرفيًا داخل كلية الحقوق المعروفة بـ"طريق الجديدة"، حيث كان يقصدها طلبة من تخصصات مختلفة فقط للاستفادة من طريقته التحليلية وموسوعيته الفكرية.

كان يتقن "فن التدريس" بمعناه الحقيقي، لا يكتفي بتقديم المعارف، بل يزرع الشغف، ويحفز العقل، ويفتح آفاق التفكير الحر. وبحكم تواضعه وكرمه العلمي، لم يكن يتردد في تقديم النصح والتوجيه، والإشراف الفردي على بحوث طلبته في أدق تفاصيلها.

فهو لم يكن إذن مجرد محاضر، بل صانعًا للحوار الأكاديمي، ومؤطرًا للفكر السياسي بمعناه الرفيع.

استطاع الدكتور أكنوش أن يؤسس لنمط خاص في التفكير والتحليل بات يعرف بين الأوساط الجامعية بـ"المدرسة الأكنوشية". وهي مدرسة فكرية تعتمد على الجرأة في الطرح دون تفريط في العلمية؛ وعمق التحليل مع الالتزام بالمنهج؛ وفهم متوازن للسياقات المحلية والدولية؛ واعتماد مقاربات متعددة التخصصات في تحليل القضايا المعاصرة.

هذه المدرسة لا تقدم الأجوبة الجاهزة، بل تدرب الطلبة على طرح الأسئلة الصحيحة، وبذلك تنتج نخبة أكاديمية نقدية ومواطنة.

لم يكن الدكتور عبد اللطيف أكنوش أستاذًا جامعيًا فقط، بل ذاكرة أكاديمية حية، وأحد رجالات الفكر السياسي المعاصر في المغرب.

امتزجت في مسيرته الأكاديمية خصال الباحث، والمحلل، والخبير، والمربي. لقد ترك أثرًا في الجامعة كما في الإعلام، في حقل الأمن كما في مجال السياسة، وظل دائمًا وفيًا لما اعتبره رسالته الأولى: بناء الإنسان بالعقل والمعرفة.

وليس من المبالغة القول إن الرجل نحت اسمه بحروف من ذهب في ذاكرة الجامعة المغربية، بل وفي الذاكرة المؤسسية للبلاد. اسمه اليوم مرادف للجدية، للعلم، وللمعرفة المؤطرة بروح وطنية عالية. هو أستاذ بمعنى القدوة، وباحث بمعنى الرسالة، ومفكر بما تعنيه الكلمة من وعي تاريخي والتزام أخلاقي.

 

د. مصطفى عنترة، كاتب صحفي.