تابعت جريدة "أنفاس بريس" الحوار الشيق مع ضيفي الصحفي سعيد كوبريت في برنامجه الثقافي "بصيغة أخرى" الذي يبث من إذاعة طنجة، حيث استضاف كلا من الباحث الكاتب والمسرحي عبد الرحيم شراد، إلى جانب الإعلامي الزميل أحمد فردوس المهتم بالموروث الثقافي الشعبي، وتراث التّْبَوْرِيدَةْ، من أجل تسليط الضوء على تراث فن ورياضة الفروسية التقليدية كرافد حضاري مغربي أصيل ومكون هوياتي ثقافي، وتعبير تراثي بطقوسه الفنية والحماسية والمجتمعية والاحتفالية.
في هذا السياق أوضح معد ومقدم برنامج "بصيغة أخرى" الذي بثته إذاعة طنجة ليلة 4 الأربعاء يونيو 2025، من خلال ورقته التقديمية، بأن ثقافة وفن ورياضة التبوريدة، تعد منبع إلهام لمواضيع فنية متنوعة، حيث استقى من هذا التراث المبدع والفنان المغربي أشعار أغانيه الجميلة. وأضاف موضحا بقوله: أن التّْبَوْرِيدَةْ تحاكي الهجمات العسكرية في سالف الوقت، وتختلف صيغتها وأساليبها، بتعدد طرقها ومدارسها وبمختلف روافدها وخصوصيتها من مجال جغرافي لآخر.
وشددّ الزميل سعيد كوبريت على أن التّْبَوْرِيدَةْ، قد أضحت نوعا رياضيا، من خلال التباري والمنافسات التي تقام لهذا التراث اللامادي الأصيل بحضور الفارس والفرس، مؤكدا على أن من علامات تميز تراث الفروسية التقليدية، يتجلى توصيف صفات الخيل وأنواعها وسلالتها من أجل الإعتناء بذاكرتها الجماعية. حيث يرى نفس المتحدث بأن التبوريدة لم تعد فقط فن لِـ الّلعب، والإنتشاء بعد أن أحدثت لها بطولة وكأس وطنية، فضلا عن تعدد مهرجاناتها الخاصة والقائمة الذات، إلى جانب تعدّد محطات المواسم الصيفية، في إشارة إلى مؤسسة الْمَوْسِمْ ذات الصلة بعالمنا القروي بحمولته الأنثروبولوجية/ الأسطورية الشعبية.
وأورد صاحب برنامج "بصيغة أخرى" بأن السنوات الأخيرة عرفت فيها التبوريدة إنتعاشة قوية وارتقت سواء بالفارس أو الفرس من أجل دخول غمار منافسات كبيرة، والدليل في ذلك ما عاشته وتعيشه بلادنا مؤخرا، من بطولة وطنية بدار السلام ثم الإستعداد لمحطة معرض الفرس للجديدة، بعد إقصائيات إقليمية وجهوية وبين الجهات بين مختلف سربات الخيل على الصعيد الوطني، إلى جانب انطلاق العديد من مهرجانات التبوريدة في فصل الصيف.
إن النبش في روافد هويتنا الثقافية الحضارية على مستوى ملمح "التّْبَوْرِيدَةْ" بمناسبات تنظيم الملتقيات الوطنية، والمهرجانات والمواسم، بعد استضافت واحد من أبرز المهتمين والباحثين في هذا المجال الزميل أحمد فردوس، والذي قدم الكثير من المعطيات على اعتبار أن هذا الطقس يتمثل في تاريخ عروض الخيول والفرسان، باللباس والزي التقليدي الأصيل، وهو احتفاء وتعبير أيضا على جغرافيا معينة.
في هذا السياق نقدم للقراء حوار الصحفي سعيد كوبريت في برنامجه الثقافي، مع الباحث والكاتب المسرحي عبد الرحيم شراد، من أجل التعرف على تفاصيل أخرى، بمناطق وجغرافيات الهوية المغربية التي تمتاز بالتنوع والتعدد والاختلاف.
إليكم حوار الصحفي سعيد كوبريت مع الباحث والكاتب عبد الرحيم شراد:
اعتقد أننا اليوم دخلنا لموعد فترة المواسم، من باب موسم الحصاد، والتبوريدة إلى جانب أنها تمثل تحصين القبائل من الضواري من حيوانات، والضواري حتى من الإنس/العدو الذي يحاول الوصول إلى البلاد المحررة...نفس الأمر ينطبق اليوم على جغرافيات معينة لها طقوس معينة، ولها تميزها وهويتها.
أولا يجب التمييز بين الفروسية، وألعاب الفروسية. وهي موغلة في القدم، منذ أن دجّن الإنسان الخيول والأحصنة والجياد، وأخذ يركبها، وهي موجودة في كل بقاع العالم. لكن حينما نتحدث عن "التْبَوْرِيدَةْ" فإننا نتحدث عن استعمال مادة "الْبَارُودْ"، والمعروف أن أول ما ظهرت هذه المادة ظهرت في بلاد الصين، ـ ثم بعد ذلك أخذها العرب عن الصين ـ لكن بالنسبة للمغرب تاريخيا لم يستعمل البارود كمادة في الحروب، سوى في عهد الدولة المرينية، وتحديدا في سنة 1244 ميلادية، ومن هنا بدأ استعمال البارود واستخدامه، في الهجوم بالمدافع.
لكن حينما نتحدث عن "التْبَوْرِيدَةْ"، فإننا نتحدث عن طقوس واستعراضات ومظاهر احتفالية مرتبطة أولا باستعمال مادة "الْبَارُودْ" واستعمال البندقية، ونحن نعرف أن بندقية البارود لم تستعمل/تخترع إلا في القرن الخامس عشر الميلادي. فإذا كنا سنتحدث عن الفروسية التقليدية ونسميها "التبَْوَِْرِيدَةْ" فلا يمكن أن نربطها بظهور البندقية.
البندقية سماها المغاربة بـ "الْمُكَحْلَةْ" وهي استعارة أُخِذَت من اللون الأسود الذي تتسم به مادة البارود، وهذه الاستعارة جاءت من لون الْكُحْلِ الأسود، وبالتالي فإننا كما نزيِّن ونُجَمِّلُ العين بـ "الْكُحْلِ"، فإننا نُجَمِّلُ كذلك عيون الجمهور المتحلق حول جنبات المضمار/الْمَحْرَكْ، وهو يشاهد عروض ألعاب التبوريدة بـ "الْمُكَحْلَةْ" والتي في الحقيقة هي استعارة جميلة.
إن شرط الاحتفال بطقس "التْبَوْرِيدَةْ" هو مرتبط بعدة مناسبات، إما عائلية مثل أعراس الزواج والختان أو بمناسبة العقيقة، أو بمواسم مرتبطة بالفلاحة والزراعة ـ الحصاد ـ أو لها ارتباط بالأولياء والمزارات والأضرحة، أو كذلك بالأعياد الدينية كحالة عيد المولد النبوي أو خلال الأعياد الوطنية، ونمارس طقس "التْبَوْرِيدَةْ" أيضا حينما نريد إظهار الولاء للسّلطان، حيث كانت القبائل دائما تتباهى وتعبِّر عن هذه البهجة وعن هذا الفرح بطقوس عروض التبوريدة.
لماذا؟
لأن طقس "التْبَوْرِيدَةْ" ينتصر للَّعب الجماعي، بمعنى أن فرسان القبيلة يتباهون بخيولهم، وببنادقهم "لَمْكَاحَلْ"، ويتباهون بملابسهم التقليدية الزّاهية، بالإضافة إلى التباهي بـ "السُّرُوجْ" وهي ليست تلك التي كانت تستعمل سابقا في الحروب، وإنما هي "سُرُوجٌ" مزركشة ومطرزة بخيوط من ذهب وحرير، وهي التي تستعمل في لحظات التباهي والفرح. علما أن كل قبيلة كانت تمد السلطان بالخيول والفرسان ـ نتحدث هنا عن الْحَرْكَاتْ السّلطانية مع السلطان المولى الحسن الأول وبعد ذلك السلاطين الذين تعاقبوا على الحكم ـ حيث كانت المحلات السلطانية تشارك فيها مجموعة من القبائل، وكل قبيلة تأتي بقائد يسمى "الَمْقَدَّمْ" وبالتالي تشارك ضمن مكونات "لَمْحَلَّةْ السُّلْطَانِيَّةْ" من أجل استتباب الأمن واستقرار البلاد والحكم كذلك.
إن ألعاب التبوريدة في أصلها تعود إلى هذه الفئة من الجنود "الْخِيَّالَةْ" وهم ليس ضمن تشكيلة المشاة، وإنما الفرسان الذين يمتطون صهوة الخيول، لذلك فإن كل الْحَرَكَاتْ وكل الكيفيات، وكل الطرق المستعملة سواء على مستوى حَرَكَاتْ الَّلعب بالبنادق/لَمْكَاحَلْ، أو كيفية الإمساك بالّلجام، وكيفية تهييج الخيول أثناء الرّكض نحو الهدف/ الطلقة الموحدة والجماعية...كل هذه مظاهر تعود إلى ممارسات الجندية.
هي مناسبات للفرجة الموسومة بالشجاعة والنخوة والشعور بالانتماء للقبيلة وللوطن
المغاربة في لحظات التباهي والفرح، كانوا ينخرطون بتلقائية في هذه الطقوس الاحتفالية الجماعية الجميلة التي تترجم روح القوة والوحدة والشجاعة والنخوة والشهامة والشعور بالانتماء للقبيلة وللوطن، وسط الزغاريد والصلاة على النبي، ووسط التهليل والتكبير.
لذلك فإن فرسان الفروسية التقليدية أو فرسان التبوريدة، كانوا دائما يحملون معهم كتاب دلائل الخيرات وشوارق الأنوار للإمام الجزولي، وحينما ينتهون من ألعاب "التبوريدة" يجلسون تحت سقف خيامهم ويشرعون في الصلاة على الرسول "صلعم"، جماعة انطلاقا من هذا الكتاب، وإلى يومنا هذا، مازال فرسان التبوريدة، يتمنطقون بالجراب الجلدي الذي نضع فيه كتاب "دلائل الخيرات وشوارق الأنوار" للإمام الجزولي. لذلك فإن طقس التبوريدة له بعده الصوفي والديني.
إن التبوريدة لا تمارس إلا في المناسبات الاحتفالية، ومن هنا جاءت مفردة "نْسَنْحُو الْعَوْدْ" أو "نْسَنْحُو الْخَيْلْ" ونصف حصان التبوريدة بـ "عَوْدْ السّْنَاحْ". وكلمة "السّْنَاحْ" لا علاقة لها بمفردة "السِّلَاحْ"، على اعتبار أن المغاربة لم يكونون مصابين بالغنة حتى يقلبوا حرف "اللام نونا". بمعنى أننا لا نضع هذا "السَّرْجْ" على صهوة الحصان إلا حينما تكون الفرصة سانحة لذلك. وتكون الفرصة سانحة حينما ترتبط بشرط الاحتفال وهي المناسبات والأعياد والمواسم. وبطبيعة الحال لدينا مجموعة من المدارس، فهناك "الناصرية" و "الشرقاوية" و "الحيانية" و "الخياطية" كلها مدارس...
هل اختلاف وتنوع هذه المدارس بطبيعة الحركات واللباس أو هناك تفاصيل أخرى؟
كل هذه المدارس ترتبط بـ "الْحَرَكَاتْ"، فمثلا طريقة المدرسة النّاصرية، التي انطلقت من منطقة قبيلة أحمر، كما يقول الفقيه العلامة المانوني، حيث كانت تتواجد هناك مدرسة الأمراء العلويين بالشماعية، والتي كان السلاطين العلويون يبعثون إليها بالأمراء حتى يتلقنوا أصول الرماية والفروسية.
إن طريقة مدرسة الناصرية بقبيلة أحمر تعتمد على فنون الرماية، لذلك تتسم حركاتهم بمجموعة من الكيفيات والممارسات والتقنيات المرتبطة أصلا بالقنص، والدفاع عن النفس، في حين أن الطريقة الشرقاوية تختلف عنها، وهي تعود لـ "سيدي بوعبيد الشرقي" مؤسس الزاوية الشرقاوية بأبي الجعد، والذي كان له نجلان واحد يسمى بـ "عبد السلام" والآخر يسمى بـ "الغزواني".
ويقال أن "عبد السلام" هو لـِ "الْقُدُورْ"، أي للكرم والضيافة، أما "الغزواني" فهو "بُوشَاقُورْ" أي بمعنى أنه للشجاعة وللقتال.
تنقسم الطريقة الشرقاوية إلى طريقة "عبد السلام" واشتهرت في "تَارْمَسْتْ" وانطلقت نحو منطقة الشاوية، وهي طريقة لينة، في حين أن طريقة "الْغَزْوَانِي بُوشَاقُورْ" فهي طريقة تمارس بها التبوريدة بطريقة خشنة، وبشكل عنيف نلمس فيها القوة والصرامة.
ندهة "خَلِّي الْخَيْلْ تَكْتَبْ أوَ تَمْحِي"
هناك أيضا الطريقة الشرقاوية والتي تمسى بـ "لَمْخَتْلَةْ"، وقد نجد بعض الفرسان يسمونها بـ "لَمْرَتْلَةْ" لكن يجب التوضيح بأن كلمة الترتيل ترتبط بالقرآن الكريم فقط، وبالتالي فأنا أقول بـ الطريقة "لَمْخَتْلَةْ"، بمعنى أننا نشاهد الفارس ممتطيا صهوة جواده وهو يختال على أرضية الْمَحْرَكْ/المضمار، على اعتبار أن الحوافر الأمامية للفرس تقوم بفعل الكتابة في حين تتكلف الحوافر الخلفية بمحو ما كتب، أي ـ أن قوائم الفرس الأمامية تكتب والخلفية تمحو ما كتبته الأمامية ـ وهذه الطريقة تسمى بـ "الشَّرْقَاوِيَّةْ لَمْخَتْلَةْ" لأن الخيول تختال حينها، وندهة المقدم فيها نوع من الحنين والرّقة وكأنها مناجاة، وعليه نؤكد بأن لكل منطقة طريقتها في ممارسة عروض التبوريدة.
يتبع