Friday 6 June 2025
فن وثقافة

لحسن العسبي يقرأ "فتنة كليوباترا" لمصطفى فهمي.. لا نولد جميلين، بل نصير كذلك

لحسن العسبي يقرأ "فتنة كليوباترا" لمصطفى فهمي.. لا نولد جميلين، بل نصير كذلك لحسن العسبي ومصطفى فهمي (يسارا)

"لا نولد جميلين.. نصير كذلك"..

تكاد هذه الجملة القفل أن تلخص الكتاب الفلسفي والتأملي والنقدي الممتع الذي صدر منذ أسابيع بمدينة مونتريال بكندا للشاعر والكاتب والباحث الأكاديمي المغربي المرموق مصطفى فهمي، واحد من كبار المتخصصين في أدب شكسبير بالعالم، نائب رئيس جامعة شيكوتومي بإقليم الكيبك بكندا.

كتابه الجديد "فتنة كليوباترا" الصادر باللغة الفرنسية عن دار النشر لابوبلاد، هو ثالث سلسلة كتب أصدرها فهمي خلال السنوات الأخيرة ("دَرْسُ روزاليندا" سنة 2018، "وَعْدُ جولييت" سنة 2021، "فتنة كليوباترا" سنة 2025)، مندرجةٌ جميعها ضمن أفق تأمل فلسفي حول ما يمكن وصفه ب "قلق الكائن" أمام "خواء العالم" انطلاقا مما تمنحه نصوص شكسبير الرائدة، تلك التي تتقاطع مع البنى التأملية لكبار فلاسفة القرن 19 والقرن 20 بأروبا، في مقدمتهم الألمانيان فريديريك نيتشه وكانط.

 

إن المتعة المعرفية التي يهبها كتاب "فتنة كليوباترا" آتية ليس فقط من التأويل الإنزياحي (كما قصيدة شعر) للعلاقة الشهيرة التي جمعت سيدة سيدات مصر القديمة الملكة كليوباترا بالقائد الروماني الأشهر مارك أنطوان، بل بتتبع خيط قلق السؤال حول الشرط الوجودي لكينونة الإنسان من موقع هشاشته أمام الموت وأمام مقصلة النسيان. أي أن الغاية هي إنهاض "المعنى" كقيمة كبرى لوجود الإنسان كإنسان. وأنه من قلب حسابات السياسة ومتاهات العشق والغرام يَتَبَرْعَمُ معنى وجود قليلا ما يُنتبهُ إليه، سِرُّهُ كامنٌ في أن القيمة الأبقى والأعلى هي "قيمة الأثر"..

 

بمعنى آخر:

إغراء وروعة التراجع كأثر تاريخي..

تم كل ذلك من خلال لغة تحليلية منقوعة في محبرة الشعر (السيرة البكر لكاتبنا المغربي مصطفى فهمي بديوانه الشعري البكر "آخر العنادل")، حتى وهي تحرص بصرامة على واجب شرط التحليل العلمي الأكاديمي. مما كانت نتيجته، ليس فقط تيسير متعة قراءة، بل توسيع هوامش ومساحات القراء المحتملين الذين لا تَسْلَسُ لهم بالضرورة متاهات السؤال الفلسفي المتخصص.

 

بالتالي، فإن متعة الكتاب هذا كامنةٌ في لغته بقاموسها الدلالي الصادر عن حِرْصٍ للنبش عن المعاني تماما مثلما يزيل التراب بصبر وتؤدة عالم الإركيولوجيا عن مومياء قديمة طواها أديم الأرض. ها هنا يكمن بعض من المتعة التي يهبها هذا النص التأملي التحليلي الباذخ. الأمر الذي جعل دوما كتب كاتبنا مصطفى فهمي تحقق مبيعات جد محترمة ضمن مجال قراء اللغة الفرنسية عبر العالم، منحته صفا طويلا من الجوائز في كندا وفرنسا وإنجلترا.

 

"إن سقوط كليوباترا ليس هزيمة، بل نصرا من وجهة نظري (يخلص مصطفى فهمي). انتصار الجمال على خراب الزمن، وانتصار حمية العشق على برودة الطموح السياسي. جمالٌ وحَمِيَّةٌ يجعلنا شكسبير نعيشهما على طول زمن مسرحيته، دون أن يهبنا ولو لحظة راحة واحدة لالتقاط الأنفاس. إن الحمية والإمتداد في الزمن قليلا ما يتواءمان، لكن حين يضعان اليد في اليد يأخذاننا إلى حيث قليل من الناس يملكان حظ الإكتشاف. إنهما يأخذاننا إلى قمة النشوة. (...)

 

إن ما يغبطني كلما أعدت قراءة نص شكسبير ليس النهاية التراجيدية لكليوباترا، بل الأسلوب الأسيان جماليا لطريقة عيشها. إلى الحد الذي يجعلني حين أتخيلها ترقص على حافة الهاوية أو تترنح بلامبالاة بين الممكنات التراجيدية والممكنات الإيمانية للعشق، لا تكون لي من رغبة جامحة كقارئ سوى أن أكون في مكان مارك أنطوان.

ليس بالضرورة لأرافقها في رقصتها تلك بل لفقد العالم من أجلها وأن أسعد بذلك إلى الأبد.

لأنه إذا كانت هناك من خلاصة يمكننا الفوز بها من هذه القصة، أن الأكثر تعاسة في العالم ليس بالضرورة أولئك الذين لا يملكون شيئا، بل أولئك الذين ليس لهم ما يهبون من جميل ولو حتى ابتسامة يتيمة. بل ليس حتى أولئك الذين يستشعرون أنهم غير محبوبين بل أولئك الذين لم يحبوا قط".

 

تأسيسا على هذا البناء المركب المزلزل، يأخذنا الكاتب مصطفى فهمي إلى واجب الإنتباه إلى أن عميق الحكمة في القصة كلها ليست في مأساة الحب الذي جمع كليوباترا ومارك أنطوان بل في قيمة ذلك أمام صلافة برودة حسابات خصمهما الإمبراطور أوكتاف.

 

أوكتاف الصلف الذي قد يكون انتصر في المعركة العسكرية لكنه خسر في "المعنى" وخسر في "الرضى على الذات" وخسر في أن يشرب من نخب الفوز على الزمن. أي ذلك الشئ الذي يسميه الفيلسوف الألماني نيتشه "المثال الزاهد" الذي يهبك أن تعيش المسافة الواجبة عن ملذات الحياة اليومية العابرة، التي يقصد بها هنا صاحب "جينيالوجيا الأخلاق" كل ذلك الشغف الصغير والوضيع للسلطة.

 

يقدم لنا مصطفى فهمي معنى دالا عن ذلك في الصفحة 148 من كتابه في فصل بعنوان "الشئ الوحيد المفقود" من خلال سرده لقصة نكتة شيوعية قديمة تقول إن عاملا شابا هنغاريا تلقى عقد عمل بالإتحاد السوفياتي، ما جعل أصدقاءه يخشون عليه من السفر. حاولوا تنيه عن ذلك ليس فقط بسبب الظروف الصعبة للعمل هناك بل بسبب تداعيات الغربة التي فيها ألم البعاد والوحدة وعذابات الحنين. لكن الشاب ذاك طمأنهم أن الأمر لن يتجاوز بضع سنوات لجمع قليل من المال والعودة وأنه يعدهم بالكتابة المتواصلة إليهم حتى لا يستشعر الوحدة. لكنهم نبهوه أنه لن يستطيع الكتابة بحرية إليهم لأن رؤساءه هناك سيقرأون ما يكتبه قبل إرساله. طمأنهم أن ذلك لا يقلقه في شيء مقترحا عليهم شيفرة للتحايل على الرقيب، قائلا لهم إذا وصلتكم مني رسالة بحبر أزرق فإن مضمونها حقيقي وصادق، أما إذا كانت بحبر أحمر فإن كل ما أقوله لكم كاذب غير حقيقي.

 

تلقى الأصدقاء بعد شهر أول الرسائل فانتبهوا أن حبرها أزرق اللون مما يعني أن مضمونها صحيح، ففوجئوا أن صديقهم يصف لهم حالا غير ما ظلوا يسمعونه عن البلد وعن كل ما تقوله وسائل الإعلام الغربية بخصوص نظام السوفيات، فظروف العمل جيدة والأجور ممتازة وأماكن الإقامة مريحة ودافئة والرؤساء طيبون والفتيات متحررات مغامرات. لكن الشئ الوحيد الذي لا يوجد هنا (يقول صديقهم في آخر رسالته) هو الحبر الأحمر.

 

إن مارك أنطوان، مثله مثل الشاب الهنغاري في القصة أعلاه، يمتلك كل شيء: الكاريزما، القوة، الشجاعة، النبالة. لكن الشئ الوحيد الذي ينقصه هو الحبر الأحمر. فمارك أنطوان حاول أن يجعل من حياته قصيدة شعر ملحمية. لكنه عكس كليوباترا التي وهبت لكينونتها أن تظل متوائمة مع تقلبات الزمن، قد سجن نفسه في حياض شكل شاعري مغلق فاقد لأية منظومة قيم ومثل.

 

نعم قصيدة حياته جميلة ومغرية لكنها أُنْشِدَتْ لآذان أخرى.

ذلك أنه إذا كان غريمه وخصمه أوكتاف (حاكم روما الجديد بعد قتل الإمبراطور سيزار غيلة وحسدا من قبل رفاقه) يتقاتل من أجل الحكم، فإن مارك أنطوان كان يقاوم من أجل إسماع سمفونية حياته عبر القرون.

"إنني وسيفي (يقول مارك أنطوان) نستحق مكانتنا ضمن رزنامة الأزمنة".

 

إن الحكمة التي يأخذنا إليها هنا في كتابه مصطفى فهمي أن الحب الإستثنائي يصل نشوته حين يدفع الناس أن لا يهتموا فقط بمشاريعهم، بل بالشخوص التي تحول دونهم وإياها. لأنه أحيانا اللذة كامنة ليس في بلوغ الهدف بل في التدمير الكلي للحواجز دونه.

 

بهذا المعنى، فإن النص الشكسبيري يعلمنا مرة أخرى أن "المعنى" كامن في الطريق وليس في النهايات.

أن "الحكمة" في البحر لا في الموانئ والشطآن.

بصيغة أخرى إن الألق كامن في الخطر لا في دعة الأمان.

أن القيمة الكبرى هي في "المقاومة" لاستحقاق الوجود.

الوجود الذي لنا اليقين جميعا أنه إلى زوال (وجود الذات ووجود الفرد أمام يقين الغياب والموت).

أن المتعة هي في شكل ممارسة الحياة لقطع الطريق الآخذة بنا نحو النهايات الحتمية.

ذلك هو ما يسمى ب "الشرف".