كيف السبيل إلى بناء هوية مواطنة؟ وكيف التحول من الانفصال إلى المواطنة وتصحيح المسار والرؤية لدى قيادة البوليساريو؟
قد تكون هذه الأسئلة سابقة لأوانها، ولكن علينا منذ البداية معرفة طبيعة وخيارات مع من سنخوض غمار مفاوضات مبادرة الحكم الذاتي لجهة الصحراء. وفي اعتقادي المتواضع فإن مسألة الهوية والمواطنة تكتسي أهمية بالغة فمن خلالها تتحدد رهانات ومخرجات تفكيك هذا النزاع.
تنطلق هذه الأسئلة من جملة من الاعتبارات لعل أقربها وأكثرها وضوحا وتفاؤلا، يتمثل في تحديد مدى استعداد "قيادة البوليساريو" على التجاوب مع المبادرة المغربية للحكم الذاتي والقطع مع جزائر الانفصال والعبور إلى مغرب الوحدة والاندماج مغرب الوطن الأم، وهو ما يتطلب موقفا سياسيا حرا شجاعا، وخيارا وطنيا صادقا، وإعادة النظر في كل المفاهيم والأعطاب الفكرية والإيديولوجية التي قادتها الى السقوط في أحضان أعداء الوطن والانخراط في المخططات الأجنبية التي سعت إلى المس بالوحدة الترابية للمغرب.
تَحَوُل من هذا القبيل لا يبدو بهذا التبسيط لكون البوليساريو ذهب بعيدا في ارتباطه بمشروع الأجنبي الانفصالي العدائي ضد وطنه، فتحول من معارضة شبابية ثورية مسيسة ساعية ضمن مكونات الحركة الوطنية للمساهمة في معركة التحرير الترابية، إلى استدراجه لمؤامرة أجنبية خبيثة قادته إلى تمرد وخيانة وانحراف ارتمى إثرها دون أي حس أو وازع وطني في أحضان الجزائر الراعي الرسمي لهذه المشروع التآمري، في حسابات متداخلة بين أطماع جزائرية قاصرة وتطلع وهمي لإحداث "دويلة" لجبهة قائمة على أفكار "ثورية ديماغوجية متهافتة"، لم تلتفت إلى صرح ومقومات التاريخ والجغرافية ومرتكزات الأمة المغربية العتيدة (12 قرنا) بل حتى وثائق وشهادات المُستعْمِر الفرنسي والاسباني، اللذين انتفضا ضد جزائر تجد نفسها اليوم في أكبر مأزق وورطة تاريخية، وبكلفة عالية.
مع من نتفاوض؟:
والمغرب يستعد لعرض مشروعه للحكم الذاتي كمادة وحيدة على مائدة التفاوض، فالموقف يتطلب معرفة الخصم الحقيقي للنزاع؟ ومع من نتقاسم العملية التفاوضية، الحاضِن أو المَحْضون؟ لذا وجب فك هذه الشّفْرة عند المُسْتهَل، باعتبارها خلطة جزائرية بوليسارية منصهرة ستعطل العملية التفاوضية برمتها؛ لاسيما وأن الحاضن/الجزائر يتملص كعادته من أية مسؤولية في النزاع الذي يقف خلفه، والمحضون/البوليساريو سيحاول الانطلاق من أجندة جزائرية/جنائزية محضة، تدفعه إلى التلكؤ والمناورة واستغلال عملية التفاوض المباشر لتأكيد قاعدة مساواة الدولة للدولة والظهور بمظهر المنتصر لتحقيق أجندة ومطالب حاضنه.
بينما العملية برمتها لا تخرج عن نطاق اتخاذ ترتيبات العودة إلى الوطن وتفاصيل تدبير الشأن المحلي الوطني؛ يفترض أن يتحلى خلاها المتفاوض بقدر عال من المسؤولية والروح الوطنية العالية وقطع صلاته مع الأجنبي ووصاياه، والتعبير الجدي عن الاستعداد للانخراط في المشروع المجتمعي التنموي كمواطنين بشكل بناء وتشاركي، والالتفات إلى ما يجمعهم مع المغاربة من مرتكزات ترابية وانتماء قبلي وتاريخي وثقافي وحضاري، كأساس للتعايش والتماسك الاجتماعي والوطني.
دينامية الهوية والمواطنة:
في هذا السياق، يقول الباحث أذ. سعيد بنيس في كتابه، الرائع والعميق الجدير بالقراءة والتمحيص تحت عنوان "تَمَغْرِبيتْ" (ص 33)، عندما يتحدث عن الهوية والتنوع الثــــــقافي وحدود التأثير الفعلي للشخصية المــــغربيــــة: " فالمغربي هو مواطن تتنوع ثقافته وتتعدد لغته لكنه يظل "مغربي أمازيغي"، أو "مغربي عربي" أو "مغربي أندلسي" أو "مغربي يهودي"، أو "مغربي حساني"، أو "مغربي ريفي"، أو "مغربي جبلي"، أو "مغربي عروبي"، أو "مغربي شلح"، أو "مغربي زياني"، ... وداخل كل هوية جهوية أو محلية أو ترابية هناك هويات صغرى......ولفظة الانتماء "مغربي" الذي يحدد أساسا تعلق الفرد والمجموعات بتراب المملكة المغربية، وسيادتها الوطنية وحضارتها وقضاياها ومرجعيتها الرمزية والسياسة والدينية، وتاريخها الذي يمتد إلى أكثر من 33 قرنا".
هذا هو المغرب وهذه هي الهوية الوطنية الراسخة، التي يجب أن يتشبع بها قادة البوليساريو المطالَبين بالتنكر لهذه التسمية السيئة الذكر الملطخة حكاياتها بالوجع والإساءة المعجونة بعار "الشقيقة" الجزائر. البوليساريو مدعوة أيضا إلى اعتناق الصواب والتعافي من تخمة الانفصال والخروج من وضعية الاحتباس الجزائري، والاعتذار للمغاربة عمَّا اقترفت أيديهم من جرائم في حق شهداء الوطن جنودا ومدنيين، وعلى تَحَّوُل الجبهة إلى أداة لتنفيذ الدسائس والمؤامرات ضد البلاد. أما أن يعودوا للوطن محنطين بقذارة ومخططات جزائرية لِلَعِب أدوار الخيانة والفتنة من جديد ونهج سلوكيات التنافر والعنف والكراهية والبغضاء والأحقاد الماضوية وممارسة أشكال المراهقة السياسية الجزائرية، وتحويلهم إلى قنابل موقوتة، فلا مكان لهم في هذا الوطن.
مأزق الهوية والمواطنة عند البوليساريو:
لكن دعونا نطرح سؤالا جوهريا يفرض نفسه ونحن على أبواب الانتقال إلى مرحلة جديدة لتسوية ملف الصحراء. هل لازال لدى قيادة البوليساريو ولو قسط ضئيل من الروح الوطنية للشعور بالندم؟ بعد 50 عاما من الاحتضان والدعم والتسليح والتمويل والرعاية والاحتضان والتعبئة والتجنيد والوعود الجزائرية بالدولة الوهمية، وتحقيق طموحات أقلية متنفذة في البوليساريو التي راكمت مصالح وامتيازات وتسعى لتأمينها والحفاظ عليها عبر الاستمرار في الركوب على موجة الانفصال، التي يؤطرها الدفاع عن المصلحة القطرية للجزائر بالدرجة الأولى، لذلك لا يمكن مواصلة تجاهل الدوافع الحقيقية الكامنة وراء إطالة أمد هذا النزاع، وحجب الرؤية عن فهم حقيقة ما يجري على أرض الواقع. بالطبع لا.
لقد تمكنت الجزائر من إحداث أكبر عملية اختراق لعقلية قيادة البوليساريو وتجريدها من أية هوية وتحويلها إلى حصان طروادة تُقْضَى به الحوائج. فماذا ظل بعد كل هذا الشحن والتخدير؟ ماذا تبقى لدى قيادة البوليساريو من مغربيتهم للعودة إلى البلاد التي تحولت في نظرهم من الوطن الأم إلى "العدو، المحتل، المُستَعمِر ..." وما إلى ذلك من الألقاب والأفكار التي تشبعوا بها في المدرسة الجزائرية، التي حولتهم إلى جماعة ضالة متمردة بهوية جزائرية صِرْفة، يصعب معها استيعابهم أو التفاهم معهم سواء إبان مرحلة التفاوض أو ما بعد العودة.
من المفترض في هذا الشأن، التركيز وبالدرجة الأولى على ترتيبات عودة الرهائن المحتجزين بمخيمات تندوف إلى الديار، بعد التدقيق في هويتهم والتأكد من انتمائهم الفعلي للمغرب وغربلة الخلطة البشرية الجزائرية، في عملية انقاذ إنسانية جديرة بأن تحظى بالأولوية والمعالجة الجدية والسريعة، رغم أنه من المنتظر أن يعرقل قادة الجزائر هذه العملية، باعتبار الساكنة المحتجزة ورقة رابحة للمساومة.
متاهة البوليساريو للتسوية:
لقد كان الدافع الأساسي للبوليساريو في البداية هو الاستفتاء، لكن الجزائر قدفت به إلى أبعد من ذلك فمنحتهم "دولة الورطة" الفاقدة لكل شرعية قانونية أمام أنظار دول العالم أضعفت موقفهم، في خطوة غباء استبقت فيها حتى نتيجة الاستفتاء حول تقرير المصير ب "نعم أو لا"، فكان كسبا آنيا لكنه اليوم استنفذ مراحله، ودخلت "الدويلة" مرحلة التآكل والاستنزاف السياسي والزمني، اختلط فيها الأمر على أصحاب المشروع وأربك حساباتهم، بين مطالب الاستفتاء لتقرير المصير والتحصن بإعلان "الجمهورية"، وبين الحضور القوي للمبادرة المغربية للحكم الذاتي كحل وحيد تحظى بدعم دولي.
لم تتوقف قيادة البوليساريو ولو للحظة من مراحل الصراع لإجراء قراءة متأنية لمآلات الصراع أو نقد ذاتي حول ممارساتها واختياراتها الغير المجدية، بل حتى بعدما استنفذت قضية الصحراء كل مراحلها ورهاناتها، ومحاولة معرفة بواطن طبيعة وشكل الدولة الموعودة، والتي لن تفرز سوى جمهورية ثانية للجزائر، التي انفقت بسخاء ليس من أجل البوليساريو/كبش الفداء بل من أجل أطماعها التوسعية في الصحراء ومصالحها الإقليمية وعدائها الثابت للمغرب ليس إلا. لذلك على البوليساريو أن تدرك أنها ستظل عالقة في النزاع طالما لم يحقق نظام الجزائر أهدافه.
من أجل تصحيح الرؤية:
كان يفترض وفي غضون 50 عاما أن تعيد قيادة البوليساريو قراءة صفحات الامبراطورية الشريفة قراءة عقلانية سليمة لماضيها ورصيدها التاريخي الجيوستراتيجي والاطلاع على خرائطها وحدودها وجغرافيتها والعودة إلى الرصيد الهائل من الوثائق والمستندات الشاهدة حقيقة على هذه الدولة، وطبيعة هذا النظام السياسي العريق المتين المتماسك في علاقة راسخة بين السلاطين والملوك والشعب، لاستبيان الحقائق والوقائع وتحديد المصير في اتجاهه السليم.
انفراط عقد البوليساريو ليس ببعيد، وتعنتهم سيخلق المزيد من المتاعب ولراعيتهم الجزائر، ومن المنتظر أن يأتيهم الحل قَهْرٍيا، فهناك العديد من المؤشرات التي تعزز هذا التوجه نحو النهاية الحتمية للبوليساريو وللمخطط التآمري الجزائري، كارتفاع أصوات أمريكية وأوربية تدعو إلى تصنيف البوليساريو كمنظمة إرهابية تُقْحَم معها الجزائر كدولة راعية للإرهاب، الْتحاق عشرات القيادات الصحراوية بالمغرب، بما فيها زعامات مؤسِّسة للبوليساريو، مع تنامي الاتجاه الداعم لخيار الحل الذاتي حتى في الأوساط الصحراوية من داخل الجزائر، بروز انشقاقات داخل صفوف قيادة البوليساريو بين الخط الراديكالي ضد تيار الحوار والحل التوافقي، لاسيما بعدما ظهرت الجبهة عاجزة عن تحقيق مكاسب عسكرية حقيقية على الأرض وتعرضها لانتكاسات متعددة على أيدي القوات المسلحة الملكية، كما خلفت واقعة الكركرات التأديبية لميلشيات الجبهة على أيدي القوات المغربية تصدعا داخل البوليساريو بسبب مغامرتها غير المحسوبة العواقب، يضاف إلى ذلك تراجُع الوزن السياسي "للجمهورية الصحراوية" التي كانت تَعترف بها 80 دولة في العالم، وقد سحبت معظم هذه الدول اعترافها، ولم تعد تعترف بها إلا أقل من 25 دولة معظمها من إفريقيا وأمريكا اللاتينية وهو عدد يمضي في التناقص. وقد أضعف هذا الوضع جلياً هامش المناورة المتاح للجبهة الانفصالية وداعمها الجزائري.
البوليساريو في مواجهة المتغيرات، الفرص والتحديات:
قدم حزب العمال الكردستاني التركي نموذجا مثاليا مشرفا لمَّا أقدم طواعية على حل نفسه وسلم سلاحه، كحركة انفصالية تنهج خيار النضال المسلح من أجل استقلال إقليم كردستان عن تركيا، معلنا صراحة الانخراط في الدولة التركية دون مفاوضات أو شروط أو إملاءات. كان قرارهم خيارا وطنيا من أجل الاندماج وطي صفحة الماضي. فهل البوليساريو لديها من القوة والشجاعة لتحذو حذو حزب العمال الكردستاني التركي؟ هناك فارق كبير بين الطرفين فالحزب الكردي يتمتع باستقلالية وسعى لتحقيق أهدافه بإمكانياته الذاتية، بينما البوليساريو تظل رهينة قرار الجزائر صاحبة الرعاية والتمويل والتوجيه وغيره.
اليوم أمام خيارين لا ثالث لهما، إما الخيار الانتحاري أو الخيار الوطني، فالتحولات الجيوسياسية إقليميا ودوليا تدفع بل تحتم على البوليساريو الإسراع في التعامل مع المبادرة المغربية الوطنية وعدم التردد، أو الاستمرار في السقوط بالمستنقع الجزائري، غير أن زمن الجزائر انتهى.
محمد بنمبارك، ديبلوماسي سابق