Thursday 22 May 2025
مجتمع

كلميم.. عبد الخالق حسين يرثي الكولونيل سفيان السحراني

كلميم.. عبد الخالق حسين يرثي الكولونيل سفيان السحراني رثاء الكولونيل سفيان السحراني.. دركي متفرد في الأخلاق والإنسانية
انتقل إلى عفو الله ورحمته الكولونيل سفيان السحراني، نائب القائد الجهوي للدرك الملكي بجهة كلميم واد نون، وقد كان للراحل صيت طيب وسط زملائه، كما خلف رحيله صدمة وسط معارفه.. 
وبهذه المناسبة الأليمة توصلت جريدة
"أنفاس بريس" برثاء في حق الراحل من قبل عبد الخالق حسين، رئيس المجلس العلمي لطانطان: 

1- أعرف الراحل الكولونيل سفيان السحراني، من رجالات الدرك الكثيرين؛ الفضلاء، المتواضعين وفوق ذلك المنضبطين في عملهم والمحبين لأداء الواجب..
عندما أتذكر أسماءهم خصوصا الذين كان لي احتكاك اجتماعي بهم أعجز عن حصر قائمة ألقابهم:

هذا خدوم يحب قضاء حوائج الناس؛ اشتغل زمنا بمدينة كلميم؛ ثم انتقل الى الرباط؛ بيته إلى اليوم مفتوح لكل ضيف قصده لقضاء غرض إداري أو غيره؛ خبرته فرأيته يترك اهتماماته العائلية ويصرف همه لقضاء حاجة ضيفه..

وهذا دركي آخر محب لكشف كربات المكروبين والتخفيف عن المساكين، كلما التقيته يسألني: "هل من مكروب أو مهموم نساهم في كشف كربه ورفع همه."

وهذا دركي؛ ذو اهتمام بالعلم والثقافة الروحية؛ يسأل عن آخر إصدار في المجال الديني وعن قضايا التصوف والأولياء وعجائب عالم الغيب، ومقامات التربية الروحية.. 

2- لكن صديقي الكولونيل سفيان السحراني أمة وحده؛ كان فريدا متفردا في سيرته واهتماماته..

كان أول عهد تعارفي معه ؛ في الساحة الشرقية لمسجد عبد الله بن ياسين بحي القدس بمدينة كلميم والذي أتشرف بخطبة الجمعة من على منبره.. 

فمباشرة بعد صلاة الجمعة، وكعادتي دائما؛ بعد الفراغ من الصلاة وتوديع والي جهة كلميم وادنون الناجم بهاي؛ أمكث زمنا غير قصير؛ استقبل الأطفال المصلين؛ وأشجعهم على المحافظة على الصلاة؛ وأرفع هممهم قصد الاجتهاد في حفظ القرآن..

فأطفال الحي لهم تعلق بالمسجد خصوصا في رمضان، حتى أنهم لكانوا يملأون الصف الثاني والثالث في صلاة التراويح خلف الوالي؛ رافعين أصواتهم بدعاء الختم "سبحان الملك القدوس رب الملائكة والروح .." ؛ وكان الوالي في لفتة تربوية ألمعية؛ يجمعهم ويمازحهم ويعطي كل واحد منهم "مبلغا ماليا" كهدية رمضانية؛ وقد سمعته مرات يقول لهم: (اجتهدوا في حفظ القرآن؛ وادعوا مع سيدنا)..

قلت كان يؤخرني في المسجد بعد صلاة الجمعة هؤلاء الأطفال وبعض المصلين الذين يستفسرون في أمور دينهم أو يطلبون مني دعاء لأحد الوالدين أو الأبناء الطريح الفراش بسبب المرض؛ كنت ألبي طلبهم لا لأني مستجاب الدعاء - معاذ الله- ولكن جبرا لخواطرهم وحسن ظنهم بالله.. 

3- وفي  أحد أيام الجمعة؛ وبعد الصلاة؛ جاء من يخبرني أن مسؤولا ينتظرني ويطلب مقابلتي عند باب المسجد الذي يدخل منه الإمام.. دلفت إلى مقصورة الإمام حيث خلعت سلهامي وعمامتي.. وخرجت من المسجد لمقابلة المسؤول؛ وجدت سيارة فخمة عند مقود السيارة شاب وسيم؛ وبجانبه رجل بشوش ببذلته الوظيفية؛ بذلة الدرك الملكي..

لما رآني قاصدا سيارته؛ ترجل منها على عجل؛ ووقف تلك الوقفة الجميلة ؛ التي تجمع بين استقامة الجسد؛ وتباث القدمين؛ وتركيز النظر على نقطة أمامية واحدة مع بروز الصدر إلى الأمام؛ والتصاق الكفين على جانبي الفخدين تماما كما يقف الجندي لتحية العلم.. وهي هيأة تدل على الانضباط واليقظة وكثير من الأدب والذوق؛ مع تعبير عن رشاقة الجسد.. وبرؤية تقييمة أوسع وأدق: هي إشارة لجلال وفخامة المؤسسة الدركية.. 

4-  تقدم نحوي الكولونيل السحراني؛ كنت أسمع به ولا أعرف ملامحه؛  لازلت أذكر كلماته التي تقطر رقة وجمالا؛ وتنم عن كاريزما متصالحة مع الذات ؛ وعن شخصية صادقة في التعبير عن مشاعرها..

خاطبني رحمه الله: (تحياتي أستاذي الفاضل؛ جئت لأعبر لك عن شكري وإعجابي بشخصكم وبخطبكم للجمعة؛ فأنا أصلي هنا دائما.. وإنني أحبكم في الله؛ وأرجو أن تدعو معي)..
لقد شعرت بالخجل مطروزا بالكثير من الحرج ؛ ربما أخطأ سيدي سفيان في تقييمه لشخصي الفقير الى الله؛ فأنا لا أستحق هذا الثناء!!

بيد أن الذي ألهمت ساعتها؛ وحدثني به باطني: "كم هي عظيمة أخلاق هؤلاء المسؤولين الدركيين!! ؛ تواضع في علو مقام وظيفي؛ وصراحة في محل واجب تحفظ.. وصدق مشاعر في سياق يفرض الاجتهاد في إخفاء العاطفة.. 

وفوق هذا كله، أن يقصدك المسؤول، لا أن تقصده !!..

وأن يأتيك راجلا قبل أن تأتيه! 

5- والأجمل من كل هذا ؛ والأروع والمؤثر والكاشف لحقيقة سيدي سفيان السحراني؛ وهو مسك ختام الوقفة القصيرة المترعة بالأدب والأخلاق واللياقة والشهامة والتقوى والإنسانية؛ إخراجه مبلغا ماليا قيمته "سومة كراء بيت متوسط" في مدينة كلميم؛ ليصدمني بكلماته الحديثة عهد بالسماء: (أستاذي الفاضل، هذا المبلغ أريد أن تسلمه لفقيه حافظ للقرآن؛ أطلب منه أن يدعو معي؛ وإني أحضر لتنظيم سلكة قرآنية في بيتي قريبا؛ سوف أخبرك بموعدها)..

كان مشهدا مهيبا من رجل مسقي بالهيبة والتواضع والأصالة و"تمغربيت".. 

6 - الغريب في قصة الكولونيل السحراني رحمه الله أن خبر وفاته؛ قد أعلمني به صديقي التاجر تقي الله عبد الغني، يوم الأربعاء ليلا على الساعة 10:45 ؛ كنا قبل نصف ساعة فقط؛ قد حملنا بالسيارة (قطة/هرة) حديثة عهد بالولادة ؛ وجدها عبد الغني قد ولدت خلسة في محله التجاري!!

وقد استشارني في أمرها ؛ فاقترحت عليه أن نطعمها ثم نأخذها مع صغارها إلى مكان آمن من خطر الكلاب؛ وكان ذلك المكان غير بعيد من فيلا الكولونيل السحراني؛ سبحان الله!!..

أسأل الله الرحمان الرحيم ان يسكنك الفردوس الأعلى أخي سفيان "بأجر هذه "الهرة و أبنائها"؛ فقد أطعمناها وأبلغناها مأمنها لوجه الله في اللحظة التي كنت تقابل فيها ملك الموت وتنازع فيها سكراته؛ في المستشفى بمدينة الرباط..

تعازي الحارة لأهلك و لإدارة الدرك الملكي وهنيئا لمملكتنا الشريفة بمثلك.. 

والسلام عليك كولونيل سفيان السحراني "يوم ولدت ويوم تموت ويوم تبعث حيا"..