Thursday 15 May 2025
كتاب الرأي

خالد أخازي: صدمة.. الأنابيك تعلن عرض عمل بأجر هزيل بكلميم يشترط شهادات عليا وأربع لغات وخبرة

خالد أخازي: صدمة.. الأنابيك تعلن عرض عمل بأجر هزيل بكلميم يشترط شهادات عليا وأربع لغات وخبرة خالد أخازي
في زمن البطالة بامتياز والذي لا ينفك يتسع كأنه غول يبتلع كل الآمال...
في زمن سياسي حكومي حيث يقف آلاف الشباب عند مفترق طرق قاتم بين اليأس والانتظار...
في هذا الزمن حيث المديح من المنابر يخفي واقعا مرا...
تأتي مؤسسة الأنابيك المكلفة بالإدماج في سوق الشغل لتقدّم عرض عمل غريب، وكأنها تسخر من واقع البلاد وتضحك على آمال الباحثين عن عمل. 
هذا العرض الغريب... الذي عمّمته الأنابيك لصالح شركة خاصة في كلميم، يُجسّد بامتياز الهوة الشاسعة بين الخطاب الرسمي الذي تتباهى به الحكومة وبين واقع التشغيل المهترئ الذي يعيشه المغاربة يوميًا.
تذكروا التصريح القادم من المغرب الموازي، للحسن السعدي،  وهو يدغدغ مشاعر رئيس الحكومة، ذاك الدور الذي طبع معه كل من رام منصبا :إن "حكومة أخنوش تهتم بالمواطن من المهد إلى اللحد". استحضروا التصريح وأنتم  تفككون شفرات عرض عمل من كلميم ترعاه الأنابيك التي يبدو أنها  وكالة التشغيل  للمنظمات الدولية...
رائع للتصريح، يفتح آفاقًا واسعة من التفاؤل والارتياح، لكنه سرعان ما يتحول إلى مهزلة عندما يقابله واقع يعاني من التناقضات والفجوات الكبيرة... وعرض العمل هذا... وأد للطموح في مقتبل العمر.
 
 
الأنابيك، التي من المفترض أن تكون جسراً بين الباحثين عن العمل وسوق الشغل، عمّمت عرض عمل يبدو كما لو أنه صادر عن منظمة دولية رفيعة المستوى، لا عن سوق محلي يعاني من الإحباط والفقر.  الوظيفة تبدو ظاهريًا عادية "مساعدة إدارة"، لكن الشروط المتطلبة لهذا المنصب تحكي قصة مختلفة تمامًا... هل يسخرون منا...؟
فعرض العمل السريالي يشترط في المتقدمة إتقان أربع لغات: العربية، الفرنسية، الإنجليزية، والإسبانية. أليس هذا طلبًا مبالغًا فيه بالنسبة لوظيفة مساعدة إدارية في شركة محلية؟ هل نحن أمام مؤسسة مغربية تستعد لاستضافة قمة دولية أم أن المترشحة يجب أن تكون بمثابة سفيرة دبلوماسية قادرة على التحدث إلى العالم بأربع لغات؟
ثم تأتي المؤهلات الأكاديمية، حيث يُطلب شهادة إجازة أو ماستر في إدارة الأعمال، مع خبرة لا تقل عن سنتين في المحاسبة أو التسويق أو الموارد البشرية. هذه الشروط تصنع صورة موظف خارق، يمتلك معرفة متخصصة ومهارات متعددة، رغم أن الوظيفة تصنف ضمن الدرجة الثالثة أو الرابعة إدارية حسب سوق الشغل المغربي.
أما الصدمة الأكبر فهي الراتب: 5000 درهم فقط! مبلغ زهيد لا يكفي لسد أدنى متطلبات الحياة في مدن المغرب، ناهيك عن تحمل أعباء التنقل، السكن، المعيشة، والاحتياجات الأساسية. كيف يمكن لهذا الراتب أن يعكس قيمة الإطار الذي يتقن أربع لغات والذي يُتوقع منه أن يكون متعدد المهارات، ويملك شهادة جامعية مع خبرة مهنية؟ هل يكفي "الدوباج اللغوي "  الذي تقدمه الحكومة لإخفاء مأساة سوق الشغل في المغرب، منذ برنامج أوراش الذي أدى وظيفته زمن الإحصاء الوطني...؟
هذا التعارض بين الشروط الغريبة والمتطلبات المستحيلة والأجر الهزيل يكشف بجلاء مدى الانفصال بين تصريحات الحكومة على المنابر وبين الواقع الاجتماعي المعيش. فبينما تتحدث حكومة أخنوش عن منجزات كبيرة واهتمام غير مسبوق بالمواطن، تبقى الأفعال على الأرض غير متناسبة مع تلك الخطابات.
في سياق متصل، تشتهر حكومة أخنوش بإعلاناتها المتكررة عن مشاريع ضخمة وبرامج إصلاح اقتصادي واجتماعي، لكن هذه الإنجازات غالبًا ما تظل حبرًا على ورق، لا تصل إلى الفئات الأكثر هشاشة. تصريحات مثل تلك التي أطلقها حسن السعدي تعطي صورة وردية لحكومة "تهتم بالمواطن من المهد إلى اللحد"، لكن واقع عروض العمل مثل هذا العرض الذي عمّمته الأنابيك يؤكد العكس تمامًا.
فعلى أرض الواقع، يظل أغلب الشباب المغربي محاصرًا في سوق عمل هش، حيث تُفرض شروط تعجيزية مقابل أجور لا تضمن الكفاف، فيما يتم التغاضي عن ضرورة خلق مناصب شغل حقيقية ومستدامة. المؤسسات العمومية مثل الأنابيك، التي يفترض أن تكون مظلة الحماية والدعم، تتحول في بعض الأحيان إلى أدوات لتعميم عروض عمل أشبه بمحاولات استعراضية، تفتقر إلى الواقعية والحس الاجتماعي.
الأمر لا يقتصر على هذا العرض فقط، بل هو انعكاس لسياسة حكومية عامة تقوم على إظهار منجزات غير ملموسة أمام الشعب، في حين أن الطبقات الفقيرة والمتوسطة تجد نفسها أمام واقع معقد من حيث البطالة، والأجور المنخفضة، والظروف المهنية غير المستقرة.
لا يمكن فصل هذا الواقع عن أزمة التعليم التي تعاني منها البلاد، إذ أن الخريجين يتخرجون بأوراق رسمية لكن بلا مهارات عملية تناسب سوق الشغل. وهنا يأتي الطلب المستحيل على "خبرة لا تقل عن سنتين" وشهادات عليا، في وقت لا تتوفر فيه فرص تكوين وتدريب حقيقي يمكن الشباب من اكتساب تلك الخبرات...
الراتب المخجل لوظيفة  اللغات الأربع حقًا يعكس حالة من الاستهتار والتجاهل لمعاناة المواطن المغربي الباحث عن فرص عمل. خمسة آلاف درهم، وهو مبلغ لا يضمن العيش الكريم، ولا يفتح الباب أمام بناء مستقبل مستقر، في ظل غلاء المعيشة وارتفاع أسعار السكن والنقل.
في هذه الظروف، كيف يمكن للأنابيك أن تعمم مثل هذا العرض وتدعمه؟ هل هو مؤشر على ضعف التنسيق بين السياسات العمومية واحتياجات السوق؟ أم هو انعكاس لضعف القدرة على خلق مناصب عمل حقيقية ومناسبة؟
إن هذا العرض الذي يبدو وكأنه "إعلان وظيفة في الأمم المتحدة"، مقابل راتب لا يتجاوز الحد الأدنى للكرامة، هو صورة رمزية لما يعانيه المغرب اليوم: تناقض بين خطاب رسمي متعالي وآخر واقعي يراوح مكانه، بين وعود كبيرة وأفعال متواضعة.
 ما بين "الاهتمام بالمواطن من المهد إلى اللحد" الذي يعلن عنه المسؤولون، وبين عرض عمل يتطلب معجزات بشروط وأجور هزيلة، يبقى المواطن المغربي هو الضحية الحقيقية، يعاني الصدمة بين الشعارات الجوفاء والواقع المرير لسوق العمل.
هذا هو المغرب الذي نحيا فيه، حيث يتم تسويق صورة نجاحات على الورق، لكن أرض الواقع تفضح هشاشة السياسات وتناقضاتها، ليبقى السؤال مفتوحًا: متى ستتحول هذه الخطابات إلى أفعال تضمن للمواطن حياة كريمة وفرص عمل حقيقية؟ ومتى سنرى مؤسسات مثل الأنابيك تعمل بجدية والتزام لتوفير فرص تتناسب مع طموحات الشباب المغربي؟
حتى ذلك الحين، سيبقى عرض الأنابيك لصالح تلك الشركة الخاصة في كلميم، مثالًا حيًا على سخرية الواقع، ومأساة الطموح المغربي في زمن التحديات الكبرى.
خالد أخازي، روائي وإعلامي