Wednesday 14 May 2025
كتاب الرأي

عبد الرفيع حمضي: تقرير التنمية البشرية 2025: من الأرقام إلى الحريات

عبد الرفيع حمضي: تقرير التنمية البشرية 2025: من الأرقام إلى الحريات عبد الرفيع حمضي
أصدر برنامج الأمم المتحدة الإنمائي تقريره العالمي للتنمية البشرية لعام 2025 تحت عنوان “الإنسان والإمكانات في عصر الذكاء الاصطناعي : مسألة اختيار "ويُعد تقرير هذه السنة من أبرز الإصدارات السنوية التي أطلقها البرنامج منذ عام 1990، كأداة تحليلية تقيس مستوى تطور الإنسان داخل المجتمعات، ليس فقط بناءً على المؤشرات الاقتصادية، بل من خلال أبعاد متعددة تهم الصحة والتعليم ومستوى العيش الكريم.

وقد جاء التقرير في أكثر من 270 صفحة، وشمل 193 دولة. وقد ركّز على تحليل الأثر المتزايد للتكنولوجيا، وبشكل خاص الذكاء الاصطناعي، على حريات الأفراد وقدرة البشرية على اتخاذ قرارات ذات معنى في حياتهم الخاصة والعامة.
والتقرير  لا يقتصر على تصنيف الدول وفق مؤشر التنمية البشرية الثلاثي (الصحة، التعليم، الدخل)، بل يُعيد تأكيد الرؤية الأساسية للتنمية بوصفها مشروعًا لتمكين الإنسان، وتوسيع خياراته، وتعزيز قدرته على رسم مسار حياته بحرية وكرامة. فالذكاء الاصطناعي، كما يُظهر التقرير، قد يكون أداة لتعزيز الإمكانات البشرية، لكنه قد يصبح أيضًا أداة للهيمنة والتقليص من الحرية إذا لم يُحكم توجيهه.

وقد تصدرت دول مثل سويسرا، النرويج، وآيسلندا هذا التصنيف، مستفيدة من تراكمات عريقة في العدالة الاجتماعية. ولعل ما يميز هذه الدول ليس فقط ناتجها الداخلي الخام، بل قدرتها على تحويل الثروة إلى رفاه شامل يمكّن كل فرد من أن يعيش في رفاهية.

أما المغرب، وإن بقي في الترتيب العام في الصف 120 ، فإنه حقق هذا العام قفزة نوعية بدخوله ولأول مرة فئة الدول ذات مؤشر التنمية البشرية المرتفعة. ويُعد هذا التقدّم ثمرة مسار طويل انطلق  منذ ربع قرن، شهد خلاله المغرب بعض الإصلاحات  في مجالات التعليم والصحة، مع توسيع  قاعدة التغطية الاجتماعية، إضافة إلى استثمارات في البنية التحتية والخدمات الأساسية، .

ورغم هذا التحسن  لازالت عدد من دول المنطقة كتونس(105)  وليبيا (115)تتقدم عليه . ويُعزى هذا الفارق، في جزء منه، إلى أن هذه الدول شرعت منذ فترات مبكرة، مباشرة بعد الاستقلال، في بناء أنظمة تعليمية وصحية أكثر نضجًا، بينما بدأ المغرب إصلاحاته الأساسية في هذا المجال في وقت لاحق نسبيًا.
 
ومما لاشك فيه ان هذا  التقدم هو مؤشر مشجع، واعتراف دولي بمجهود وطني متراكم، لكنه في ذات الوقت هو دعوة لمواصلة الإصلاح ومواجهة التحديات البنيوية التي ما زالت تعيق تحوّل هذا التقدم الكمي إلى تحول نوعي في حياة المواطن. فالتنمية ليست مجرد صعود في التصنيف، بل تحسين ملموس للمعيش اليومي، وتوسيع للخيارات، ورفع لكرامة الإنسان.
 
 
ومن بين أبرز هذه التحديات  يمكن ذكر تعزيز  مبدأ تكافؤ الفرص لجميع الفئات، خاصة الشباب والنساء و تسريع وتيرة تقليص الفوارق الاجتماعية والمجالية، مع ضرورة الاستثمار أكثر في جودة التعليم وربطه بمهن المستقبل، اضافة إلى تعزيز  الحكامة المؤسساتية سواء على مستوى رفع منسوب  الشفافية او المساءلة ، إلى جانب تعزيز المشاركة المواطِنة، باعتبارها حقًا أساسيًا من حقوق الإنسان ورافعة للإبداع والتماسك المجتمعي.
 
ويؤكد نفس التقرير  أنه في عالم يتسارع فيه التحول الرقمي والتكنولوجي فان الحرية في الاختيار ليست  ترفًا، بل  شرطًا أساسيًا لأي تنمية حقيقية. فبناء مستقبل إنساني في عصر الذكاء الاصطناعي يتطلب سياسة عمومية  دامجة  ومؤسسات قوية، ومجتمعات تشاركية تضع الإنسان في صلب القرار. فالحرية، كما يعبر عنها التقرير، هي قدرة الإنسان على اتخاذ قراراته، والمشاركة في صياغة مستقبله، والمساهمة في الشأن العام. وكما قال الاقتصادي أمارتيا سِن: “التنمية هي توسيع الحريات الحقيقية التي يتمتع بها الناس.”
 
من هذا المنطلق، فإن التقدم الذي حققه المغرب ينبغي أن يُقرأ كثمرة مجهود جماعي، وأيضًا فرصة لتعميق التفكير التشاركي حول سؤال جوهري: كيف نحول هذا التقدم الإحصائي إلى واقع ملموس يعيشه المواطن في المدرسة، في المستشفى، في سوق الشغل، وفي المجال العام؟
 
إن المسار التنموي الحقيقي يبدأ من الإنسان، ويمر عبر الإنسان، وينتهي عند الإنسان.