Friday 2 May 2025
كتاب الرأي

عثمان بنشقرون: عبد الإله بنكيران.. صوت الشعب أم صوت السلطة أم صوت ذات نرجسية؟

عثمان بنشقرون: عبد الإله بنكيران..  صوت الشعب أم صوت السلطة أم صوت ذات نرجسية؟ عثمان بنشقرون
في زمن صعود الشعبويات وتآكل الوسائط التقليدية للخطاب السياسي، يبرز عبد الإله بنكيران كظاهرة مركبة تستدعي التفكيك أكثر من الإدانة أو التمجيد. في هذا البورتريه التحليلي، نحاول مقاربة شخصية الأمين العام لحزب العدالة والتنمية المغربي، لا من خلال مساره السياسي فقط، بل عبر تفكيك البنية الرمزية لخطابه، وتشريح التناقضات التي تشكّل حضوره الفريد في المخيال الجمعي والسياسي المغربي.

عبد الإله بنكيران رجلٌ يُطلّ من على منصة الخطابة كمن يُطلّ من محراب، لا ليرشد الناس إلى الخلاص الروحي، بل ليوهمهم بالخلاص السياسي. عبد الإله بنكيران، الإسلامي الذي تعلّم المشي على الحبل المشدود بين الولاء للمؤسسة والوفاء للشارع، بين روح الدعابة وصرامة التبليغ، بين "ما تسوقوش" و"التحكم". يتقن فنون الحكي في هيئة شيخٍ شعبي، أكثر مما يتقن فنون الحكم، إذ يظهر كاريزما شعبية ممسرحة، يلبس جلبابه كما يلبس عباراته: ببساطة ظاهرية تُخفي هندسةً خطابية شعبوية دقيقة. ليس رجل سياسةٍ تقليديًا، بل راوية زمن سياسي مُلتبس، يحدّث الشعب بلغة أقرب إلى مرويات المقاهي والأسواق، لكنه لا ينفصل عن حسابات غرف القرار الباردة.
 
بنكيران ابن مدرسة دعوية دعمتها الدولة في الثمانينيات لمواجهة اليسار، ثم صارت رأس حربة سياسية في تسعينيات الانفتاح، قبل أن يلقي بها الصندوق الانتخابي عام 2021. لم يُنكر يومًا قربه من "أولي الأمر"، لكنه عرف كيف يُدوّر الزوايا ويغلف القرب بالقول: "جلالة الملك هو رئيسي وأنا خدامو". وفي الوقت نفسه، حين يُهاجَم أو يُستفز، ينقلب إلى شعبويّ غاضب يُهدد بفضح "التماسيح والعفاريت". الرجل الذي قال ذات يوم إنّ "السياسة ماشي هي الدين"، هو نفسه الذي جعل من السياسة منبرًا للوعظ، ومن الدين قميصًا يُلبَس ويُخلع حسب المقام. صوّت على قرارات مؤلمة (رفع الدعم، إصلاح التقاعد تحرير الأسعار التضييق على الحريات النقابية وضرب المكتسبات...)، لكنه ظل يخاطب الشعب كأنه واحد من ضحاياه، يُغازل آلامهم بلهجة الأب الحنون: "أنا فهمتكم". وهنا، تمامًا، يتجلّى التناقض الأكبر: الرجل الذي يُقدّم نفسه ضحية وهو في قلب المنظومة، والذي يشكو من التحكم فيما هو أحد صانعيه.
 
يحب بنكيران أن يُحكى عنه، أن يُقتبس منه، أن يُعارض ويُؤيد. لكنه يكره أن يُنسى. لذلك، حين أُبعد عن رئاسة الحكومة، لم يختفِ كما يفعل رجال الدولة، بل صار نجم "اليوتيوب السياسي"، يعود في خرجات يوزّع فيها "العواطف"، ويراقب حزبه من خلف ستار، قبل أن يعود إليه أمينًا عامًا بعدما أحرقت أوراق خلفه. إنه  شخصية لا يمكن اختزالها في خانة واحدة: لا هو زعيم ثوري، ولا رجل دولة كلاسيكي، ولا واعظ تقليدي. بل هو خليط مدهش من كل ذلك، يتغذّى على التناقضات، ويعيش على حافة الفوضى الخطابية، حيث يُصبح الانفعال رأسمالًا سياسيًا، والمفارقة وسيلة إقناع، والارتباك جزءًا من اللعبة. بنكيران لا يملك مشروعًا متماسكًا، لكنه يملك "حكاية". في زمن ضعف الإيديولوجيا، صار الرجل نفسه هو الرواية، يروّج لنفسه كحكيم الشعب المقهور، حتى لو شارك في قهره. رجل يصلح أن يكون مادةً للتحليل النفسي بقدر ما يصلح للتحليل السياسي.
 
في كل ظهور علني، لا يمكن فصل بنكيران عن هندامه الشعبي: الجلباب، الطربوش، واللحية البيضاء. هذه ليست فقط سمات خارجية، بل علامات دلالية قوية، تُحيل على الهوية الإسلامية "المتواضعة"، وتُضاد سيميائيًا ـ البدلة الرسمية وربطة العنق التي زعم يوم تنصيبه أنه لا يعرف كيف يعقدها والتي تمثل السلطة البيروقراطية والطبقية. إنّه ينزع عن نفسه رمزية النخبة ليقترح نفسه ممثلاً لـلعامة أو "الناس العاديين". هكذا يُصنع التواطؤ اللاواعي مع الجماهير. لكن المفارقة أن هذه الرموز "الشعبية" تتحوّل إلى أدوات هيمنة خفية: فكلما بدا بسيطًا، ازداد تأثيره. وكأنّ التبسيط المفرط للخطاب والهيئة يُخفي عمقًا سلطويًا: ابتسامة خفيفة، ونكتة مرتجلة، تتلوها عبارة تقريرية صارمة ("خاصنا نديرو هادشي، بغيتو ولا كرهتو"). إنه ما يسميه بيير بورديو "العنف الرمزي" المموّه بالوداعة.
 
في خطابه المتكرر، يعود بنكيران إلى فكرة "الحكمة"، "النية"، "التجربة"، "الخوف على البلاد". إنّه يتموقع كـ"أب جماعي"، لا يحمل مشروعًا عقلانيًا متماسكًا، بل يحاول أن يسدّ فراغًا عاطفيًا في الوعي السياسي المغربي، المأزوم بين سلطة قاهرة ونخب ليبرالية مفككة. في لاوعيه الخطابي، يُعيد بنكيران تمثيل صورة "الأب الغائب" الذي عاد ليؤدّب الأبناء بضحكة ونظرة، لا بعقاب صريح. يتحدّث كثيرًا عن "المعقول"، لكنه لا يُفصح عن نموذج سياسي واضح. وكأنه يقول: "لا تحتاجون برنامجًا، تحتاجونني أنا". هذا تثبيت لنرجسيةٍ مغلّفة بدعوى التواضع. وفي خرجاته، ينتقل من الهزل إلى الجدّ بشكل فجائي، من الضحك إلى الغضب، من التهكّم إلى التهديد. هذا التقلّب ليس فقط أسلوبًا، بل صورة ذهنية مأزومة، تُحاكي وعيًا سياسيًا شعبويًا مأزومًا بدوره، يبحث عن الخلاص في شخص لا في مؤسسة.
 
ينتمي عبد الإله بنكيران إلى ما يُعرف بـ"الشعبوية الأخلاقية"، حيث يصوّر الساحة السياسية باعتبارها معركة بين "نحن" (الشعب الطيب، الفقراء) و"هم" (النخب، الفساد، التحكم). ولكن المفارقة تكمن في أنه يمارس هذا الخطاب من داخل السلطة نفسها، مما يخلق تناقضًا لافتًا: وكأن المنظومة تشتكي من نفسها! شعبيته لا تنبع من مشروع سياسي واضح بقدر ما تنبع من "لغته" التي تتوجه مباشرة إلى مشاعر الناس. فهو لا يُقنع بالحجج العقلانية، بل بالـ"إحساس المشترك" الذي يجسد الروح الشعبية. لا يطرح حلولًا ملموسة، بل يصنع سرديات تحرك المشاعر وتثير الهواجس. في عالم مليء بالتقنوقراطية، يُقدّم نفسه كـ"حكواتي سياسي"، يعيد للسياسة طابعها العاطفي والتقليدي. هذا هو جوهر الشعبوية في أعمق صورها. في واقع الأمر، خطابه مزدوج: فهو يعبر عن صوت الشعب والسلطة في آنٍ واحد. في الظاهر، يظهر كمن يعارض السلطة المتحكمة، لكنه في الجوهر بارع في إبراز اختياراتها وإعادة إنتاجها بلبوس شعبي بسيط. وما يُثير الانتباه أكثر هو قدرته الفائقة على الإفلات من المحاسبة، لأنه دائمًا ما يُعيد تقديم نفسه كـ"شاهد" على الأحداث، لا كفاعل سياسي مسؤول.
 
يصعب الإمساك بعبد الإله بنكيران لأنه لا يكتفي بأن يكون شخصية سياسية، بل يتحول إلى "نص حي"؛ نصّ مفتوح على التأويل، مفعم بالرموز، ومركّب من طبقات من الخطاب: خطاب الأب، الفقيه، الثائر، والمستضعف. يبدو أحيانًا وكأنه يمثل على خشبة مسرح سياسي متخيّل، لا لأن كلامه خفيف، بل لأن حضوره نفسه يفترض جمهورًا، واستجابة، و"سينوغرافيا" متكاملة. ليس عبد الإله بنكيران مفكرًا سياسيًا، بل مُخترع لحظة سياسية قائمة على "الاستثناء المغربي" الذي يزاوج بين الملكية والإسلام السياسي. وقد كان في فترة ما، واجهة للتدبير في نظام لا يحكم فيه بالكامل، لكنه مسؤول عنه شعبيًا. هذا التوتر بين "المسؤولية بلا سلطة" و"السلطة بلا مسؤولية" هو ما جعله يتحرك دومًا بين النبرة المتمردة، والخطاب التبريري، وبينهما تلك اللحظة الصوفية الغامضة التي يُلقي فيها كل شيء على "الإرادة الإلهية".