يبدو الاختيار الأول، ذاك الذي يستميلنا بنعومة المقاهي المكيفة وصحبة الأصدقاء، مغريًا حد التخدير. إنه اختيار الاسترخاء في ظل سقفٍ فكريٍّ مريح، حيث تتحول الشكوى إلى ضرب من الترفيه الذهني، وتوجيه أصابع الاتهام نحو الآخرين إلى رياضةٍ لا تكلفنا عناء الفعل. غلاء المعيشة، جمود الأجور، تغول النيوليبرالية، عجز النقابات، ترهل الأحزاب، تقصير المناضلين...
كلها مواضيع دسمة لتأثيث جلساتنا، وتبرير تقاعسنا، وتضميد جراح إحساسنا بالعجز. في هذا الاختيار، نتقن دور المتفرج النقدي، الذي يملك وحده الحقيقة المطلقة، وينظر باستعلاء إلى أولئك الذين يحاولون عبثًا تغيير مسار العالم.
إنه طريق سهل، نعم، لأنه يعفينا من عبء المسؤولية، ويمنحنا وهم السيطرة عبر التحليل السطحي للأحداث.
لكن في أعماق النفس، تتوهج شعلة أخرى، شعلةٌ لا ترضى بهذا الاستسلام الهادئ. إنها مزيجٌ معقد من الغضب المقدس تجاه الحقوق المهضومة، والإيمان الراسخ بضرورة التنظيم الجاد كحصنٍ يحمي الدولة والاقتصاد من فوضى الاحتجاجات العشوائية. هذه الشعلة هي الوقود الذي يدفعنا كل يوم لتجديد العهد مع الفعل، للانخراط في معركةٍ قد تبدو غير متكافئة، ولكنها ضرورية للحفاظ على جوهر المجتمع.
هنا يبرز الاختيار الثاني، اختيار الانخراط والمقاومة. إنه اختيارٌ واعٍ بالتحديات، مدركٌ لتعقيدات الواقع، ولكنه يرفض الاستسلام لجاذبية السلبية. إنه اختيارٌ ينطلق من قناعةٍ بأن التغيير ليس مجرد شعارٍ يُرفع في المقاهي، بل هو عملٌ دؤوب، وتضحياتٌ مستمرة، وإيمانٌ عميقٌ بقوة التنظيم.
إن الاتحاد الوطني للشغل بالمغرب، كما يتجلى من هذا المنطلق، يمثل تجسيدًا لهذا الاختيار الثاني. إنه إصرارٌ على مقاومة ما يُرى مجحفًا بحق العاملين في القطاعات المختلفة، انطلاقًا من أملٍ مشروع في تجويد القوانين لتضمن شرعية النضال وتوفير فضاءات للحوار المؤسسي.
هذا الأمل يستمد قوته من رؤيةٍ تسعى نحو تحقيق دولة مغربية اجتماعية، تحفظ كرامة العامل، وتعيد للعمل قيمته الروحية والوطنية، بدلًا من ترسيخ أنظمة الاستغلال المقنعة.
صحيح أن التجربة المغربية لم ترسخ بعد إجماعًا حول الدور الإيجابي للنقابات والهيئات الوسيطة. ربما يعود ذلك إلى تراكمات تاريخية، أو إلى ممارساتٍ شابها النقص. لكن في المقابل، لا يمكن لأحد أن ينكر الخشية من السيناريو البديل، ذاك الذي تجسد في غضب الشارع العفوي وغير المؤطر، كما رأينا في حراك "السترات الصفر".
لقد كان ذلك الغضب انفجارًا لفئاتٍ جماهيريةٍ وشعبيةٍ وفئويةٍ نشأت في فجوةٍ عميقة بين المطالب الملحة والواقع السياسي البطيء. غضبٌ لا يعرف لغة التفاوض، ولا يملك صبر الانتظار، وبدون سقفٍ محدد، يتشكل من تنسيقياتٍ متعددة، بلا ممثلين رسميين، وغير متجانس الميولات. مجرد تظاهرات سلمية تختلط أحيانًا بغضبٍ عارم، وتباعدٌ شاسعٌ بين بؤر الأحداث الساخنة وبين استيعاب المؤسسات السياسية.
في هذا السياق، يصبح وجود تنظيمٍ نقابيٍّ مسؤولٍ ومؤثرٍ ضرورةً حتمية. إنه صمام الأمان الذي يحول دون تحول الغضب المشروع إلى فوضى عارمة، ويوفر قنواتٍ للتعبير المنظم والمفاوضات البناءة.
إن إصرار الاتحاد الوطني للشغل بالمغرب على البقاء جزءًا فاعلًا في النسيج النقابي الوطني، وتجديد أعضاء مجلسه الوطني لتعهدهم بهذه الروح، هو تأكيدٌ على الإيمان بقيمة التعاون لما فيه خير الجميع: الشغيلة، المقاولة، والمرفق العمومي.
إن شعار "الواجبات بالأمانة والحقوق بالعدالة" ليس مجرد عبارةٍ طنانة، بل هو جوهر الرؤية التي يؤمن بها هذا التنظيم. إنها رؤيةٌ تتجاوز منطق الاصطفافات الحادة بين الموالاة والمعارضة، وتسعى إلى بناء جسورٍ من الثقة والتعاون لتحقيق مصلحة الوطن والمواطنين. إنها دعوةٌ إلى تحمل المسؤولية بأمانةٍ في أداء الواجبات، والمطالبة بالحقوق بعدالةٍ وإنصاف.
في نهاية المطاف، يظل الاختيار بين جاذبية القول وضرورة الفعل هو المحك الحقيقي لإنسانيتنا.
هل سنستسلم لإغراء الراحة النظرية، ونكتفي بتوجيه اللوم للآخرين من مقاعد المتفرجين؟ أم أننا سنستجيب لنداء تلك الشعلة المتقدة في قلوبنا، وننخرط بجديةٍ ومسؤولية في بناء مستقبلٍ أفضل؟
إن التاريخ لا يكتبه المتفرجون، بل يصنعه أولئك الذين يختارون تحمل عبء المسؤولية، ويؤمنون بأن الفعل المنظم هو السبيل الوحيد لتحقيق التغيير المنشود.
كلها مواضيع دسمة لتأثيث جلساتنا، وتبرير تقاعسنا، وتضميد جراح إحساسنا بالعجز. في هذا الاختيار، نتقن دور المتفرج النقدي، الذي يملك وحده الحقيقة المطلقة، وينظر باستعلاء إلى أولئك الذين يحاولون عبثًا تغيير مسار العالم.
إنه طريق سهل، نعم، لأنه يعفينا من عبء المسؤولية، ويمنحنا وهم السيطرة عبر التحليل السطحي للأحداث.
لكن في أعماق النفس، تتوهج شعلة أخرى، شعلةٌ لا ترضى بهذا الاستسلام الهادئ. إنها مزيجٌ معقد من الغضب المقدس تجاه الحقوق المهضومة، والإيمان الراسخ بضرورة التنظيم الجاد كحصنٍ يحمي الدولة والاقتصاد من فوضى الاحتجاجات العشوائية. هذه الشعلة هي الوقود الذي يدفعنا كل يوم لتجديد العهد مع الفعل، للانخراط في معركةٍ قد تبدو غير متكافئة، ولكنها ضرورية للحفاظ على جوهر المجتمع.
هنا يبرز الاختيار الثاني، اختيار الانخراط والمقاومة. إنه اختيارٌ واعٍ بالتحديات، مدركٌ لتعقيدات الواقع، ولكنه يرفض الاستسلام لجاذبية السلبية. إنه اختيارٌ ينطلق من قناعةٍ بأن التغيير ليس مجرد شعارٍ يُرفع في المقاهي، بل هو عملٌ دؤوب، وتضحياتٌ مستمرة، وإيمانٌ عميقٌ بقوة التنظيم.
إن الاتحاد الوطني للشغل بالمغرب، كما يتجلى من هذا المنطلق، يمثل تجسيدًا لهذا الاختيار الثاني. إنه إصرارٌ على مقاومة ما يُرى مجحفًا بحق العاملين في القطاعات المختلفة، انطلاقًا من أملٍ مشروع في تجويد القوانين لتضمن شرعية النضال وتوفير فضاءات للحوار المؤسسي.
هذا الأمل يستمد قوته من رؤيةٍ تسعى نحو تحقيق دولة مغربية اجتماعية، تحفظ كرامة العامل، وتعيد للعمل قيمته الروحية والوطنية، بدلًا من ترسيخ أنظمة الاستغلال المقنعة.
صحيح أن التجربة المغربية لم ترسخ بعد إجماعًا حول الدور الإيجابي للنقابات والهيئات الوسيطة. ربما يعود ذلك إلى تراكمات تاريخية، أو إلى ممارساتٍ شابها النقص. لكن في المقابل، لا يمكن لأحد أن ينكر الخشية من السيناريو البديل، ذاك الذي تجسد في غضب الشارع العفوي وغير المؤطر، كما رأينا في حراك "السترات الصفر".
لقد كان ذلك الغضب انفجارًا لفئاتٍ جماهيريةٍ وشعبيةٍ وفئويةٍ نشأت في فجوةٍ عميقة بين المطالب الملحة والواقع السياسي البطيء. غضبٌ لا يعرف لغة التفاوض، ولا يملك صبر الانتظار، وبدون سقفٍ محدد، يتشكل من تنسيقياتٍ متعددة، بلا ممثلين رسميين، وغير متجانس الميولات. مجرد تظاهرات سلمية تختلط أحيانًا بغضبٍ عارم، وتباعدٌ شاسعٌ بين بؤر الأحداث الساخنة وبين استيعاب المؤسسات السياسية.
في هذا السياق، يصبح وجود تنظيمٍ نقابيٍّ مسؤولٍ ومؤثرٍ ضرورةً حتمية. إنه صمام الأمان الذي يحول دون تحول الغضب المشروع إلى فوضى عارمة، ويوفر قنواتٍ للتعبير المنظم والمفاوضات البناءة.
إن إصرار الاتحاد الوطني للشغل بالمغرب على البقاء جزءًا فاعلًا في النسيج النقابي الوطني، وتجديد أعضاء مجلسه الوطني لتعهدهم بهذه الروح، هو تأكيدٌ على الإيمان بقيمة التعاون لما فيه خير الجميع: الشغيلة، المقاولة، والمرفق العمومي.
إن شعار "الواجبات بالأمانة والحقوق بالعدالة" ليس مجرد عبارةٍ طنانة، بل هو جوهر الرؤية التي يؤمن بها هذا التنظيم. إنها رؤيةٌ تتجاوز منطق الاصطفافات الحادة بين الموالاة والمعارضة، وتسعى إلى بناء جسورٍ من الثقة والتعاون لتحقيق مصلحة الوطن والمواطنين. إنها دعوةٌ إلى تحمل المسؤولية بأمانةٍ في أداء الواجبات، والمطالبة بالحقوق بعدالةٍ وإنصاف.
في نهاية المطاف، يظل الاختيار بين جاذبية القول وضرورة الفعل هو المحك الحقيقي لإنسانيتنا.
هل سنستسلم لإغراء الراحة النظرية، ونكتفي بتوجيه اللوم للآخرين من مقاعد المتفرجين؟ أم أننا سنستجيب لنداء تلك الشعلة المتقدة في قلوبنا، وننخرط بجديةٍ ومسؤولية في بناء مستقبلٍ أفضل؟
إن التاريخ لا يكتبه المتفرجون، بل يصنعه أولئك الذين يختارون تحمل عبء المسؤولية، ويؤمنون بأن الفعل المنظم هو السبيل الوحيد لتحقيق التغيير المنشود.
أنس الدحموني، مقرر الاتحاد الوطني للشغل بالمغرب