في ظل التحديات التي يشهدها العالم، تبرز أهمية تعزيز السلام أكثر من أي وقت مضى، ويتعزز مفهوم السلام ضمن المبادئ الجوهرية الهادفة إلى بناء عالم أكثر عدلاً وتسامحاً وأمنا، فمحتوى التعايش بين مختلف الثقافات والأديان والحضارات هو الضامن لاستقرار المجتمعات وتقدمها، كما أن أسس الأمن والسلام هم السبيل الأمثل لتحقيق التفاهم المتبادل والتعاون بين مختلف الأمم سعيا إلى بناء جسور التواصل وإشعاع الحوار بين والأديان والثقافات، وتحقيق أهداف التنمية المستدامة وحل النزاعات والصراعات وفق مقاربة السلام.
في هذا الإطار يتجلى اختيار المغرب للتعدد الثقافي والديني والتعايش المشترك بين مختلف مكونات مجتمعه، كما هو متجذر في المجتمع المغربي منذ القدم ويرتوي من النموذج الديني المغربي السمح المعتدل، القائم على أركان مؤسسة إمارة المؤمنين التي تحفظ الحرية الدينية والعقائدية لجميع الديانات، زيادة على ذلك، يبقى التاريخ المغربي حافل بأمثلة حية على التسامح والتعايش، وقد تمكن المغاربة على مر العصور من بناء مجتمع متعدد ومتنوع، يعيش فيه المسلمون واليهود والمسيحيون جنباً إلى جنب في سلام ووئام. ويظل هذا التراث العريق للتعايش والتسامح مرتبط بالهوية المغربية، بالقدر الذي جعل من المملكة المغربية نموذجاً فريداً على المستوى الدولي.
حيث إن، المغرب يعتبر نموذجا للتعايش الديني، وقد ارتبط تاريخه وثقافته بقيم التسامح والانفتاح التي جمعت بين مختلف الديانات والثقافات على مر العصور. فمنذ تأسيس المملكة، عرف المغرب انسجاما بين المسلمين واليهود والمسيحيين، حيث عاشت هذه المكونات في جو من الاحترام المتبادل، مما جعل البلاد مركزا للتفاعل الحضاري. وقد عمل أمير المؤمنين صاحب الجلالة الملك محمد السادس على الثبات على هذا الاختيار، بالحفاظ على صورة المغرب كأرض للتسامح والتعايش والانفتاح.
فانطلاقا من الرصيد التاريخي العريق للمملكة وهويتها الأصيلة، وبروزها كمثال متفرد لتعايش الحضارات والثقافات والأديان، كرس الدستور المغربي الانسجام بين روافد الهوية الوطنية، والتشبث بالقيم الكونية للانفتاح والاعتدال والتسامح والحوار، والتفاهم المتبادل بين ثقافات وحضارات الإنسانية جمعاء.
كما حافظ دستور المملكة لسنة 2011، على صيغة تربط في الوقت نفسه بين الطابع الإسلامي للمغرب والحرية الدينية، إذ تعتبر هذه الصيغة أن «الإسلام دين الدولة، والدولة تضمن لكل واحد حرية ممارسة شؤونه الدينية». فهي صيغة دستورية دقيقة تسمح بقبول الآخر وبناء البيت المجتمعي المشترك بعيداً عن التشدد والتعصب والإقصاء، ويمكن اعتبار هذه الصيغة الدستورية نموذجا يحتدى في دساتير أخرى.
زيادة على ذلك، تتميز الهوية المغربية بتبوئ الدين الإسلامي مكانة الصدارة فيها، وذلك في ظل تشبث الشعب المغربي بقيم الانفتاح والاعتدال والتسامح والحوار، والتفاهم المتبادل بين الثقافات والحضارات الإنسانية جمعاء.
وهو المعطى الذي عمل أمير المؤمنين صاحب الجلالة الملك محمد السادس على تعزيزه كركن من روح الأخوة والتعايش والتعاون والتلاحم بين المغاربة، مسلمين ومسيحيين ويهود، باعتبار ذلك من الركائز الأساسية للحضارة المغربية. ويزخر النسيج العمراني للمدن المغربية بصور ذات دلالات عظيمة، حيث تنتصب المساجد والكنائس والمعابد قريبة من بعضها البعض. وكل يمارس شعائره الدينية في احترام تام لباقي الشعائر الدينية.
وغني عن البيان، أن صاحب الجلالة الملك محمد السادس نفذ على مدى ربع قرن من الحكم سياسات تعزز الأمن وتدفع بعجلة السلام والتنمية المستدامة، وتتمثل هذه الإنجازات في مجموعة من المبادرات الريادية الكبرى التي قام بها المغرب تحت القيادة الحكيمة لصاحب الجلالة الملك محمد السادس وطنيا ودوليا، والتي كانت دائما في خدمة الأمن والسلام والاستقرار لتحقيق التنمية المستدامة.
وفي هذا الصدد، عمل المغرب تحت قيادة الملك محمد السادس بين سنتي 2014 و 2015 على تسوية أوضاع (50) ألف مهاجر من دول إفريقيا جنوب الصحراء مكنهم من العيش والعمل بشكل قانوني في المغرب. كما يعيش عشرات الآلاف من المهاجرين الآخرين في المغرب دون أن يتعرضوا للملاحقة أو الطرد، ويُعتبر جزء منهم أعضاء في جمعيات قانونية مخصصة للمهاجرين غير الشرعيين. هذه الخطوة كانت غير مسبوقة في المنطقة حيث ساهمت في تقديم نموذج للتعايش السلمي بين الثقافات المختلفة.
وفي الوقت ذاته، لعب المغرب منذ سنة 2015، دورًا نشطًا ومحوريا في تقريب وجهات النظر بين الأطراف المتنازعة في ليبيا، وتأتي هذه الجهود ضمن المبادرات الملكية المستمرة والداعمة لتعزيز السلام والأمن والاستقرار في منطقة شمال افريقيا.
كما قرر المغرب في وقت سابق الانسحاب من التحالف العسكري في اليمن، بعدما تحولت الحرب إلى مجازر، مفضلاً الحفاظ على مواقفه الإنسانية حتى على حساب علاقاته مع بعض دول الخليج.
وعلى الرغم من تفشي وباء إيبولا في غرب أفريقيا سنة 2015، أبقى المغرب على رحلاته الجوية ومساعداته الإنسانية للدول المتضررة، في الوقت الذي أوقفت فيه معظم الدول الأخرى رحلاتها.
بينما في الأزمة الخليجية سنة 2017، سجل المغرب تضامنا ودعما كبيرا لدولة قطر في مواجهة الحصار المفروض عليها، وذلك رغم الغضب الشديد من السعودية والإمارات، مؤكداً على مبدأ التضامن العربي دون الانحياز لطرف على حساب آخر.
أما من ناحية الرعاية الصحية والطبية، نشرت المملكة المغربية مستشفياتها العسكرية الميدانية في عدة مناطق التي تشهد الحروب والنزاعات، بما في ذلك جنوب السودان والأردن ولبنان. بالإضافة إلى ذلك، بادرت المغرب إلى بناء العديد من المستشفيات "الأم والطفل" في عدد من الدول الإفريقية، لتعزيز الرعاية الصحية وتحسين الظروف المعيشية في تلك البلدان. وانخراطا من المغرب في قوات حفظ السلام، عزز المغرب انتشاره ضمن القبعات الزرق المغربية في عدد من الدول الإفريقية مثل الكونغو، جمهورية إفريقيا الوسطى، وساحل العاج، حيث يدفع العديد من الجنود المغاربة ثمناً غالياً تحت راية الأمم المتحدة، بما في ذلك التضحية بأرواحهم أو تعرضهم للإصابات.
وعلى الصعيد الإفريقي، يعتبر المغرب، من خلال رئيس دولته، الرائد الأول في ملف الهجرة. وضمن هذا الإطار، يمثل المغرب القارة في المحافل الدولية، مُحدداً القضايا المتعلقة بالهجرة، ومساهمًا في تنسيق السياسات العامة للدول في هذا المجال، ومنح صوت لأولئك الذين لا صوت لهم.
وفي السياق ذاته، ضمن مبادرات دعم السلام وتعزيز الأمن والاستقرار في الشرق الأوسط، اتخذ الملك محمد السادس سنة 2020، قراراً بإعادة استئناف العلاقات مع إسرائيل، دون أن يؤدي ذلك إلى تباعد مع الدول العربية والفلسطينيين أو قطع العلاقات بهم. هذا التوازن الدقيق يظهر الحكمة السياسية في التعامل مع قضايا معقدة.
وقد اعتمد صاحب الجلالة الملك محمد السادس لغة تصالحية نابعة من مبادئه الكبرى في إشعاع ثقافة التسامح والسلام مع جار مزاجي وسريع الغضب اسمه الجزائر، فعلى الرغم من الاستفزازات وتهديدات الحرب، يظل المغرب يقوم بتعزيز أجهزته وقواته بكل هدوء لمواجهة أي هجوم محتمل، ماضيا في الوقت نفسه في نهج سياسة السلام والتقارب واليد الممدودة. فكما يقال إن الاستعداد للحرب هو أفضل وسيلة لضمان السلام.
ومما لاشك فيه، خلال مرحلة وباء كوفيد-19، وبالرغم من تأثير الوباء الشديد على المغرب، أصدر الملك تعليماته لمشاركة موارده ومعداته مع (15) دولة إفريقية من جميع أنحاء القارة. بينما كانت مناطق أخرى، مثل أوروبا وآسيا، تلتزم بإجراءات الإغلاق، بدأ المغرب في بناء مصنع ضخم للأدوية يهدف إلى تلبية احتياجات القارة الإفريقية. هذا التضامن الإفريقي يعكس روح التعاون والتضامن التي يتبناها المغرب.
وضمن المجال الأمني، يقوم المغرب بمجهودات قصوى في مكافحة الإرهاب والعمل على التعاون الدولي في مكافحته من خلال الأجهزة الأمنية المغربية التي أثبتت فعاليتها وكفاءتها. وقد عزز المغرب سياسة التعاون الدولي في مجال مكافحة الإرهاب من خلال أجهزته الأمنية من بينها المديرية العامة للدراسات والمستندات DGED والمديرية العامة لمراقبة التراب الوطني DGST والمكتب المركزي للأبحاث القضائية BCIJ. ويشيد العالم بكفاءة وفعالية المؤسسات الأمنية في هذا الشأن، بما في ذلك أفريقيا وأوروبا ودول الخليج وحتى الولايات المتحدة الأمريكية.
وبالنظر إلى كفاءة المؤسسات الأمنية وتجاربها الدولية -في دجنبر 2024- نجحت وساطة جلالة الملك محمد السادس في الإفراج وتحرير (04) أربع مسؤولين من الاستخبارات الفرنسية DGSE كانوا محتجزين كرهائن لدى دولة بوركينافاسو.
وبخصوص تدبير الشأن الديني، عمل المغرب على تعزيز ونشر مفهوم الإسلام الوسطي الذي يتسم بالسلام والتسامح والاعتدال، وذلك في ظل الأوقات التي شهد فيها العالم انتشار الإسلام المتطرف والغلو والتشدد الديني العنيف. وقد قام المغرب بتوسيع هذا المفهوم خارج حدوده عبر العديد من المبادرات مثل معهد محمد السادس لتكوين الأئمة المرشدين والمرشدات ومؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة في إطار تحقيق الأمن الروحي المشترك.
وكما هو معلوم، أن المغرب يشجع على تبني سياسة بيئية في أفريقيا عبر مبادرته AAA " المبادرة من أجل تكييف الفلاحة الإفريقية"، كما يعزز التعاون الزراعي بين دول الجنوب (جنوب-جنوب) بشكل خاص، وبين دول أفريقيا بشكل عام. وتجسد هذه الالتزامات جهود المغرب الواسعة بحماية البيئة.
وفي مسار التزام المغرب بتعزيز التعاون الأفريقي الأطلسي وفق الرؤية الملكية السديدة، أطلق صاحب الجلالة الملك محمد السادس سنة 2023 دعائم فكرة تعزيز التعاون بين الدول الأفريقية المطلة على الساحل الأطلسي، ليس فقط من خلال ربطها بالموانئ الأطلسية، بل من خلال تنفيذ سياسة تنمية واسعة ومشتركة ومنسقة تعود بالنفع على جميع البلدان.
أما من ناحية الصراعات والاضطرابات الدولية في الشرق الأوسط، نجح الملك محمد السادس، في الحفاظ على الحوار مع إسرائيل بينما يدين في الوقت نفسه تصرفاتها الإجرامية في غزة. كما استخدم الملك محمد السادس علاقاته لنقل المساعدات إلى غزة بكرامة. دون إغفال، الحكمة التي يتصف بها المغرب في مواقفه تجاه الانقلابات العسكرية في أفريقيا، حيث اتخذ المغرب خلال الفترة بين 2020 و2023، موقفًا حكيمًا تجاه الانقلابات العسكرية في الدول الأفريقية الفرنكوفونية، مؤكدًا على أهمية السيادة الوطنية والاستقرار دون التدخل في شؤونها الداخلية. فالمغرب يدعم الأمن والسلام دون تدخل أو "توصيات" أو تحذيرات أخرى، وهو ما تم ملاحظته في كل من البلدان المعنية.
وفيما يتعلق بتكريس المساواة والعدالة الاجتماعية، قام المغرب بصياغة العديد من المبادرات التي من شأنها تعزيز حقوق المرأة والمساواة والعدالة وتحقيق التمكين الاقتصادي والاجتماعي للنساء والأطفال والشباب بكيفية عادلة ومتوازنة. فعلى الرغم من وجود تحديات كبيرة وما زالت العقليات تتغير ببطء، فإن الإصلاحات على مستوى مدونة الأسرة تُظهر الإرادة والواقع القوي لتمكين المرأة وتعزيز مكانتها داخل المجتمع في المغرب.
ومما ينبغي الإشارة إليه، بأن أمير المؤمنين الملك محمد السادس هو أول زعيم على الصعيد العربي والإسلامي أقرّ بالهولوكوست Holocaust كواقعة تاريخية ثابتة بلغة واضحة لا لبس فيها وذلك خلال العديد من المؤتمرات التي عبّر فيها عن قناعته بأنّها مأساة إنسانية كبرى وإحدى أحلك الصفحات في التاريخ المعاصر، مؤكدًا أن استحضارها هو واجب أخلاقي وإنساني لحماية الإنسانية من السقوط مجددًا في براثن الكراهية والتطرف ومما يبعث على الفخر أن أمير جلالة الملك محمد السادس يُعد أول قائد عربي وإسلامي يضطلع بهذه المسؤولية الأخلاقية الجسيمة داعيًا إلى تضافر الجهود الدولية لمواجهة كل أشكال الفكر المتطرف الذي يؤدي إلى الفتن والمآسي وإلى ترسيخ ثقافة السلم والتسامح والعيش المشترك، وفي انسجام كامل مع هذه الرؤية النبيلة يواصل أمير المؤمنين الملك محمد السادس دعم المؤسسات والمنظمات الدولية الساعية إلى تعزيز الأمن والسلام العالميين مجددًا التأكيد على أن التصدي للتطرف والكراهية والعنف واجب جماعي يستدعي من الأسرة الدولية عملاً مشتركًا دائمًا من أجل بناء مستقبل مشترك تتعزز فيه قيم الكرامة الإنسانية. كما أن جهود الملك محمد السادس في إشعاع السلام تجعل منه الداعم الأول للمبادرات الدينية والثقافية والفنية الوطنية والدولية الهادفة إلى تحقيق السلام ونبذ العنف والتطرف وخطاب الكراهية، ويتجسد ذلك من خلال المؤتمرات الدينية تحتضنها المؤسسات المغربية في مجال حوار الأديان والحضارات، إضافة إلى الأنشطة الثقافية والفنية الوطنية والدولية التي يتم تنظيمها داخل المملكة والتي تسلط الضوء على قضايا السلام والدفاع عن حقوق الإنسان واحترام الآخر.
وتماشيا مع المبادرات والمجهودات الملكية الكبرى لنشر السلام والاستقرار، نذكر هنا، بأن أمير المؤمنين الملك محمد السادس سبق له أن توج بجائزة "جان-جاريس" كرجل للسلام وجاء ذلك بمناسبة اليوم العالمي للسلام سنة 2021.
وارتباطا بكافة هذه المبادرات المختلفة والمتعددة التي قام بها أمير المؤمنين الملك محمد السادس، والتي يصعب الوقوف عندها وتتبعها بشكل مفصل ودقيق. وبالنظر إلى حزمة الأعمال الداعمة لجهود الأمن والسلام على مدى ربع قرن من حكم الملك محمد السادس، يبقى السؤال الجوهري المطروح؛ هل حان الوقت من أجل منح جائزة نوبل للسلام لأمير المؤمنين الملك محمد السادس؟