الاثنين 17 مارس 2025
كتاب الرأي

لطفي العبيدي: الوصاية السياسية واقتصاد الأوامر الفوقية

لطفي العبيدي: الوصاية السياسية واقتصاد الأوامر الفوقية لطفي العبيدي
الصدمات النفطية والركود الاقتصادي في سبعينيات القرن العشرين، أسهمت جميعها في دفع المسائل الاقتصادية إلى واجهة القضايا الدولية. والمصالح الاقتصادية وأزمات الطاقة هي ذاتها التي تتسبب في اشتداد المنافسة بين الدول، وفي الصدامات الحاصلة في السنوات الأخيرة، التي تفاقمت إثر الجائحة العالمية والحروب في أوروبا والشرق الأوسط.

جميع مناحي السياسة، على الصعيدين المحلي والدولي، تدور ضمن إطار اقتصادي رأسمالي متوحش، وإن كانت الأمور تتم بالغلبة وافتكاك الثروات وإسقاط الأنظمة ومحاصرة الشعوب وتجويعها عبر العقوبات الاقتصادية. وفي ظل مخاوف من تصدع النظام الاقتصادي العالمي، يتواصل تعنّت صناع القرار السياسي في بعض الدول، خاصة تلك التي يتغافل قادتها عن أنّ الاتفاقيات التجارية، وإصلاح منظمة التجارة العالمية، وإيجاد سبل للتعاون والتشاركية، أفضل من الحروب التجارية واقتصاد الأوامر الفوقية.

يبدو جليا كيف صارت الأطر السياسية للنظام الاقتصادي، واتّخاذ أغلب قرارات الاستثمار بأيدي رجال المال والأعمال، ولأجل تحقيق الأهداف، اصطدمت السياسات البديلة لإنتاج واستهلاك النفط مع المصالح السياسية والاقتصادية جيّدة التنظيم، ومع المعتقدات الأيديولوجية الراسخة. وإلى الآن تواصل الولايات المتحدة احتواء القوميات الاقتصادية واتباع «سياسة الحظر» كما يسمّيها ديفيد بانتر، التي احتاجت إلى ترتيبات تضمن وضع اليد على نفط العالم وثرواته، في توافق مع طبقة رجال الأعمال في أمريكا. فكان تأثير الشركات في القرار السياسي واضحا في كثير من الأحيان. ومنطق الهيمنة هذا ما هو إلا تفسير للسياسات الأمريكية في العقود الأخيرة، وهي تماثل في سوئها سوء اعتبار القوة العسكرية وسيلة لتخفيض تكلفة الصفقات في سوق النفط العالمية. وهي من أسوأ الوسائل التي يمكن استخدامها في هندسة تطابق في المصالح مع دولة، أو مع كل الدول المنتجة. دع عنك استخدامها من أجل تغيير الأنظمة، كما حصل في العراق وفي أفغانستان وغيرهما. وكان ذلك تمهيدا لرسم معالم خرائط جيوسياسية جديدة تخدم مصلحة من يقود قاطرة نظام رأس المال الذي يقتل الإنسان من أجل مصالحه. ورأينا كيف تعامل دونالد ترامب مع الدول المنتجة للنفط. وكيف سيعيد فرض منطق الاستعلاء والابتزاز في التعامل مع الحكومات، وفق نرجسية ترامب المهووس بمجد يترنّح، يعتقد أن العالم ما زال بيد أمريكا تفعل ما تشاء، وتحصل على المال الذي تريد وبأي طريقة كانت.
 
هناك إطار جامع بين السياسي والاقتصادي والأيديولوجي، وأكبر دليل على ذلك أنه مع تفرّد الولايات المتحدة بقيادة العالم، أواخر القرن العشرين أصبحت الأيديولوجيا الليبرالية نسقا ثقافيا ملزما في الفضاء العربي وغير العربي، وبدأت تسُود كلّ المجتمعات بشكل مُعولم دون اعتبار الخصوصيات الثقافية المختلفة. في الأثناء، هناك محاولات مستمرة لصنّاع القرار في المجتمع الدولي في أن يغيّروا النظام العالمي والجغرافيا السياسية. ومع مثل هذه الإرادة الدولية، إرادة القوة المهيمنة اتّسعت الفروق بين الأمم والدّول اتّساعا لا مثيل له، على نحو كشف زيف ما بشّرت به مقولات العولمة من أنّ العالم أصبح قرية صغيرة، كونية متشابهة، ينمو ويتلاحق بجميع أجزائه. من الطبيعي حينها أن تتحوّل الأزمات المالية من أزمات نقدية إلى أزمات استقرار اقتصادي وسياسي، تهدّد مستقبل التنمية البشرية من حيث عولمة الآثار السلبية لأية أزمة مالية، وتخطيها لمجالها الوطني والإقليمي. والعقل السياسي الراجح يدرك أنّه كان لتحرير الأسواق المالية والنقدية الذي أقرّته حكومات الدول الصناعية الكبرى، ولذلك الانفتاح المزعوم، توابع عديدة على حساب واقع الدولة المحلّي اقتصاديا واجتماعيا. أقلّها تقليص دور الدولة في الإنفاق على المشاريع الوطنية، والتفريط في المشروعات الكبرى للخواص. وهو ما غيّب بشكل حتميّ العدالة الاجتماعية. فهل الديمقراطية كما يراها الغرب الاستعماري هي النظام السياسي الصحيح؟ في الوقت الذي خلقت فيه مثل هذه الوصفة الغربية للديمقراطية ديكتاتوريين، ومنظومة فاسدة خرّبت أوطانا، ودمّرت بنيتها الاجتماعية، ولم تُبق منها ما يدلّ على وجود دولة.

النسق المحكوم بالرؤية المادية الاختزالية أفضى إلى تدمير المقوّمات الأخلاقية للفعل الإنساني، وانتهت مسارته إلى تفتيت أنساق القيم وإفراغ حياة الإنسان من المعنى. حتى حقوق الإنسان أصبحت خاضعة للازدواجية والكيل بمكيالين. ولنا في ما يحدث في فلسطين خير مثال على نفاق هذا العالم، الذي يدعي القيم الإنسانية والدفاع عن العدل والحرية. يرغبون في أن يجعلوا الوضع المزعج يبدو منطقيا، وهذا النظام المتردّي الذي تعجز فيه الإنسانية عن خلق عدالة اجتماعية وإنسانية يوفّرون له الأوهام الضرورية ليبدو النظام الرأسمالي الليبرالي هادفا إلى الخير العام، ضروريّا ومرغوبا فيه. ورغم مسوّغ الاعتراض فإنّ الناظم الأيديولوجي للمناخ الفكري والسياسي كان النهج الليبرالي الذي هيمن على أوروبا وتم تصديره للعالم، باعتباره المشروع المجتمعي القابل للتجسيد في الواقع دون الأنساق الفكرية والاقتصادية والثقافية الأخرى، التي لم تبلور ذاتها بديلا له، فظلّت قابعة بوصفها حاشية نقدية على المتن الليبرالي. مثل هذا النظام يبرر القمع والقتل والمجازر التي ترتكب في فلسطين دون رادع دولي، لأنّ القانون الدولي وضعه هؤلاء مرتكبو الجريمة، فكيف يكون العقاب؟

في المحصلة، ما زالت منطقة الشرق الأوسط عامة، والمنطقة العربية على وجه الخصوص، تشكّل نقطة استقطاب استراتيجية للعديد من الدول ومساحة صراع عسكري واقتصادي وأيديولوجي. ويبقى سبيل واشنطن الوحيد لتهدئة الصراع في المنطقة، والتقليص من حجم الكراهية المتنامية ضدّها، خاصة بعد الحرب المدمرة التي شنّتها إسرائيل على غزة، سوى أن تتوقف عن رفضها الانضمام للإجماع الدولي المنادي بحق كل الدول في المنطقة بأن تعيش في أمن وسلام، بما فيها دولة فلسطينية على أرضها المحتلة. وإذا كانت أمريكا تريد نظاما دوليا قائما على قواعد، فلتطبّقه على نفسها أوّلا وعلى حلفائها، وأوّلهم الكيان الصهيوني الذي يعربد كما يشاء برعاية أمريكية غربية.
 
 
لطفي العبيدي، كاتب تونسي
 
عن: القدس العربي