الخميس 2 مايو 2024
سياسة

حسن رشيق وأهمية فصل الدين عن السياسة عبر مؤسسة أمير المؤمنين بالمغرب

حسن رشيق وأهمية فصل الدين عن السياسة عبر مؤسسة أمير المؤمنين بالمغرب حسن رشيق
يطرح تطور بعض النقاشات اليوم حول تعديل مدونة الأسرة بالمغرب، التي أفرزت تقاطبات (بعضها عنيف لفظيا)، أهمية استعادة بعض النقاشات التي صاحبت مرحلة ما عرف ب "الربيع العربي" سنة 2011، بما أفضت إليه عندنا بالمغرب من دستور جديد (وليس تعديل دستوري) فصل لأول مرة بين دور الملك كرئيس للدولة وبين دوره كأمير للمؤمنين (الفصلان 40 و 41 من الدستور) وتجاوز ما كان مدونا في الدساتير المغربية القديمة من تداخل بين الدورين (الفصل 19 في دستور 1996 كمثال).
 
من بين تلك النقاشات التي مفيد استعادتها اليوم، العرض الهام الذي كان قد قدمه الباحث الأنثروبولوجي المغربي حسن رشيق، يوم 11 شتنبر 2011 بمقر مؤسسة عبد الرحيم بوعبيد للدراسات والأبحاث بمدينة سلا، المتمحور حول سؤال القداسة والعلمانية في المشهد السياسي بالمغرب، من خلال شكل ممارسة السلطة ببلادنا.
 
انطلق حينها الأستاذ حسن رشيق في الورقة التي حررها وقدم ملخصا عنها في عرضه القيم، من التساؤل عن أشكال القطيعة أو القطائع التي سجلتها الممارسة السياسية للدولة بالمغرب في الإنتقال من المقدس إلى الديمقراطي. حيث اعتبر في قراءته أن هناك ثلاث قطائع كبرى عاشتها الممارسة السياسية عندنا منذ القرن 19 حتى دستور 2011. تتمثل في الدور الذي لعبته الحماية الفرنسية والإسبانية في تغيير تقنيات الحكم والتدبير، ثم مرحلة الإستقلال خاصة على عهد الملك الراحل الحسن الثاني التي أعيد فيها تنظيم دور إمارة المؤمنين، ثم مرحلة دستور 2011 التي فيها تم فيها الفصل بين دور الملك كرئيس للدولة ودوره الديني كأمير للمؤمنين.
 
كان الواقع السياسي لممارسة الحكم بالمغرب، يقول حسن رشيق، قبل الحماية أي على امتداد القرن 19، يتأسس على رسوخ فكرة المقدس كما يرمز إليها شخص السلطان، الذي هناك إلزامية لحجبه عن العالم الخارجي (وليس عبثا أنه تم خلق منصب الحاجب السلطاني)، تأسيسا على مفاهيم البركة والقدسية وخليفة الله في أرضه. في ما معناه تأويليا من قبلنا لملاحظة الباحث المغربي رشيق أن المسافة مطلوبة وغائية بين شخص السلطان (المقدس) وبين العامة والعالم الخارجي. مقدما دليلا محوريا هو أن السلطان كان ممنوعا عليه السفر إلى خارج البلاد حتى لا تسقط بركته وتضيع، مثلما أنه كان ممنوعا أن تمسه يد معالج غير مسلم لأن جسده جزء من قداسته. وأن كل القاموس السياسي والفقهي الذي كان قائما لتبرير ذلك الدور السلطاني هو قاموس بمرجعية دينية يفسر أدواره السياسية والتدبيرية على رأس الدولة، مختلف عن القاموس العلماني الحديث الذي فيه فصل بين السلط والأدوار السياسية في ممارسة الحكم. وأن أول سلطان حاول باحتشام تجاوز ذلك من خلال انفتاحه على طقوس حديثة هو السلطان عبد العزيز بكل ما جره عليه ذلك من انتقادات عنيفة من قبل الفقهاء. 
 
بل طيلة القرن التاسع عشر (كمثال فقط عن ما سبقه من قرون)، كان الطبيعي في الأمور هو أن تكون هناك مسافة بين السلطان والعامة لقدسية شخصه ودوره، وأن تحركه العمومي لا يكون سوى لتنفيذ حركات تأديبية عقابية أو محلات للوقوف مباشرة على أحوال المجالات الجغرافية سياسيا للبلد (كدولة). 
وأن الدور الديني هو الأساس المركزي للسلطان وأن دوره السياسي التدبيري فرع عن دوره المركزي ذاك.
 
الحماية وإحداث القطيعة في التحول الأول
أول قطيعة ستسجل على هذا البناء التدبيري ستحدثه الحماية حين فقد السلطان حق احتكار العنف المشروع، الذي أصبح في يد المستعمر. حيث أعاد المقيم العام الفرنسي الأول الماريشال ليوطي بنينة شكل ممارسة الحكم بالمغرب بالمزاوجة بين القوانين التنظيمية التدبيرية الحديثة لدولة المؤسسات وبين البناء التقليدي المغربي القديم، الذي من نتائجه تعزيز فكرة "البركة" والمقدس، التي فيها ترسيخ متجدد لعزل السلطان عن العامة، لكن هذه المرة بحسابات مختلفة تخدم مصلحة مالك قوة العنف المشروع تدبيريا الذي هو سلطات الحماية. الذي كان من نتائجه تغيير في دور السلطان الذي سجل لأول مرة مغادرة سلطان مغربي إلى الخارج سنة 1926 حين سافر السلطان مولاي يوسف إلى باريس لتدشين المسجد الكبير بها (أي استمرار دوره الديني).
 
تجاوز هذه القطيعة الأولى سيتم من داخل سياقاتها التاريخية في الثلاثينات من القرن الماضي، حين ستلعب نخبة مغربية جديدة هي نخبة الحركة الوطنية، دورا في انتزاع السلطان من الدور الذي عملت الحماية على سجنه فيه، من خلال تجسير العلاقة بين السلطان الجديد محمد بن يوسف (الملك محمد الخامس) والشعب المغربي، الذي كان من مداخله إقرار عيد العرش من قبل الحركة الوطنية، حيث ولدت مفاهيم سياسية جديدة (الوطن، الوطنية، الشعب)، رمز إليها ميلاد عبارة "شعبي العزيز" في خطب السلطان. لقد ترجم ذلك قطيعة مع الأسلوب التدبيري القديم لحجب السلطان (المقدس، صاحب البركة) عن العامة. 
 
فتغيرت الشرعيات، حيث أصبح دور السلطان تقليديا وحديثا في الآن نفسه، بحيث أصبح يلتقي بالناس خارج أسوار القصر وفي الآن نفسه تواصلت قدسية وبركة شخصه (رؤيته في القمر كمثال). 
بل إن الملك محمد الخامس بعد الإستقلال واستعادته لامتلاك ممارسة العنف بالقوة المشروعة (إنفاذ القانون)، سيبادر إلى حضور مباراة لكرة القدم بالملعب الشرفي بالدار البيضاء بين الجمهور. وكان ذلك حدثا رمزيا غير مسبوق في القطع مع معنى "القداسة" القديم الذي يتأسس على حجب شخص السلطان عن العامة.

مرحلة الحسن الثاني والتحول الثاني
التحول الثاني الكبير سيقع على عهد الملك الحسن الثاني في الستينات بالخصوص، حيث عمل على إعادة هيكلة دوره كملك لممارسة الحكم فيه مزاوجة بين دوره الديني كأمير للمؤمنين وبين دوره السياسي كرئيس للدولة.
 
 صحيح أنه في أول دستور للمغرب المستقل، يقول حسن رشيق، لم يتم التنصيص سوى على دور إمارة المؤمنين بدون القاموس القديم المصاحب (كما كان في مشروع دستور 1908) المتمثل في عبارات "البركة" وغيرها. لكن عمليا أعطى الملك الحسن الثاني دورا سياسيا لإمارة المؤمنين بخلفية القداسة وليس فقط دورا دينيا، حين كان يلتجئ إليه في قرارات سياسية (مثلا إعلان حالة الإستثناء سنة 1965، أو في مواجهة قرار برلمانيي حزب المعارضة الإتحاد الإشتراكي للقوات الشعبية الانسحاب من البرلمان سنة 1982). قبل أن يتم الشروع في إعادة هيكلة الحقل الديني (تأسيس المجلس الأعلى للعلماء بالمغرب في الثمانينات) لمواجهة بروز تيار سياسي جديد يبني مشروعه السياسي على مرجعية دينية.
 
دستور 2011 والتحول الثالث
التحول الثالث سيقع مع دستور 2011، الذي لا يزال ساريا إلى اليوم، من خلال الفصل بين دور الملك كرئيس للدولة وبين دور الملك كأمير للمؤمنين. في ما معناه أن دوره كرئيس للدولة هو فوق السلطات وأنه حكم بين الفرقاء السياسيين، بينما دوره كأمير المؤمنين غايته منع الفوضى في الفتوى الدينية حيث يضع لها إطارا مؤسساتيا موحدا ورسميا. أي أن الشأن الديني هو المؤتمن عليه بحسابات الدين وليس بحسابات السياسة، في ما يشبه فصلا للدين عن السياسة. 
هذا شكل من أشكال العلمانية مغربية خالصة يقول في تأويله الباحث حسن رشيق.
 
استنادا إذن على خلاصات وتحليل هذا العرض القيم للأستاذ حسن رشيق (رغم أنه يعود إلى مرحلة النقاش الحي لما بعد دستور 2011)، فإن من الدروس الهامة التي من المفيد التوقف عندها أمام بعض التطرف في مواجهة تعديلات مدونة الأسرة اليوم من قبل عائلة سياسية بعينها، إدراك واستيعاب التطور الذي شهدته بلادنا في تدبير أمورها السياسية والدينية، وأن هناك اليوم مكتسبا هاما لإعادة هيكلة الشأن الديني ببلادنا من خلال تحديد أكثر دقة وفعالية لإمارة المؤمنين بصفتها إطارا حاميا لوحدة الأمة وللفصل بين ما هو سياسي وما هو ديني مخصوص. وأن الإجتهاد في الأمور الشرعية مغربيا يتم من داخل الشرعية الدينية للجالس على العرش كممثل أسمى للأمة بما تقتضيه ضرورات تطوير المجتمع ضمن تفاعله مع شروط العصر وما يفرضه ناموس تحقيق التنمية والأمن.