الجمعة 19 إبريل 2024
كتاب الرأي

جـلال الطاهـر: غرف الجنايات وضعية غير عادية

جـلال الطاهـر: غرف الجنايات وضعية غير عادية جـلال الطاهــر
تعيش غرف الجنايات بالدار البيضاء على الأقل والأكيد أن جل الغرف الجنائية بمختلف محاكم الاستئناف بالمدن الكبرى، تشهد أوضاعاً تمس في الواقع والقانون حقوق الإنسان وحق المواطن المغربي في المحاكمة العادلة.
 
إن كل الظروف الموضوعية والذاتية التي تجرى فيها المحاكمة أمام غرف الجنايات، تفتقد إلى كثير من المقومات التي تضمن للمتهمين حقوقهم في المحاكمة العادلة، كما هي متعارف عليها دولياً ومنذ زمن بعيد ، وللقضاة الأجواء الملائمة، في البت في تهم كبرى، قد تهدد البعض في فقد حرياتهم لسنوات طويلة وقد يصل الأمر إلى الإعدام...، وللمحامين الظروف السليمة في الوفاء بجوهر القسم الذي يطوق أعناقهم بالالتزام بمضامينه، بحيث أصبحوا يعانون الكثير من العنث والمشقة البدنية والنفسية، في سعيهم للقيام بواجبهم الأخلاقي والمهني والإنساني.
 
ومن مظاهر هذه النقائص الحقوقية والإنسانية، ما يمثله العدد الهائل من القضايا التي تعرض على هيئة واحدة في محكمة الجنايات، في حدود ما يقارب المائتي ملف على الهيئة الواحدة، ثم استمرار العمل بمسطرة المحاكمة عن بعد، التي فرضتها ظروف استثنائية لم تعد قائمة، بالإضافة إلى بداية البت في القضايا صبيحة اليوم، وامتدادها لساعات متأخرة من الليل، لتواصل هيئة المحكمة جلسات المداولات في القضايا التي نوقشت خلال اليوم.
 
هذا العدد يفرض على الهيئة القضائية من أجل التصدي للبت في كل هذه القضايا بحكم الواقع والضرورة، أن تحد من الحقوق المخولة للمتهمين، والضحايا ومحاميهم، كما يبرز في الحد من التحقق من الظروف التي جرت فيها الجريمة موضوع التهمة، كل ذلك تحت ضغط عامل الزمن.
 
إن الوضعية التي عليها محاكم الجنايات بالمدن الكبرى، وفي مقدمتها استئنافية الدار البيضاء، وضعية غير عادية، إن لم تكن استثنائية، وتخالف في كثير من مظاهرها شروط المحاكمة العادلة، وأول مظهر من هذه المظاهر الواقعية المخلة، هو عدد القضايا التي تطرح يومياً على غرف الجنايات بمحاكم الاستئناف.
 
فهل يمكن تصور البت في هذا الكم الهائل من الجنايات، وكل ملف يضم عدداً من المتهمين قد يتجاوز العشرة، أن تكون هناك إمكانية لتطبيق الضمانات الممنوحة للأطراف في القضية، متهم – متهمون – دفوع مسطرية – شهود- مرافعات: ( نيابة عامة، مطالب بالحق المدني، دفاع متهمين...).
 
كيف يمكن أن تتاح لكل هؤلاء الفترة الزمنية الكافية لعرض دفوعهم ودفاعهم ومطالبهم... خلال فترة محدودة ؟ الذي يقول بإمكانية ذلك، يغمض عينيه عن الحقيقة، أو إنه من مدرسة (( العام زين )).
 
إن الذي عايش المحاكمات الجنائية في الزمن الماضي - الزمن الجميل كما يسمونه - الذي كانت تعرض قضايا الجنايات جاهزة، بعدد لا يتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة، في أقصى الحالات، سيشعر بالدوار، عندما يلج لقاعات الجنايات اليوم، ويجد المنصة أمام الهيئة، يغطيها ركام هائل من الملفات، خاصة إذا كان من قيادمة المحامين الذين عاشوا وعايشوا، الشروط الشكلية والموضوعية، التي تجرى فيها المحاكمة، في (( الدورة الجنائية )) في ذلك الزمن، وليس كما هو اليوم، عبارة عن جلسات تلبسية، قد تقبل تجاوزاً، البت فيها، في مثل هذه الظروف نظراً لبساطتها، كما يعتقد البعض، وإن كان كل مواطن متهم بفعل جرمي يشكل في نظره خطراً مادام يهدد حريته.
 
الإجهاد والتحمل الذي تتحمله الهيأة، يمكن أن يكون له أثر سلبي على نسبة المردودية، وعلى مستوى العمل المنجز من حيث الإتقان، هذا على المستوى المادي الذي ينفذ بالقوة الجسدية العضلية، لكن الأمر يزداد سوءاً عندما يتعلق الأمر، بإنجاز عمل فكري يخضع تنفيذه للقدرات الفكرية والنفسية والعصبية، والقدرة على التركيز من طرف من يقوم بهذه المهمة، فالطبيب الذي يجري عملية معقدة لمريض، يجب أن يكون في كامل قواه البدنية أولاً، والذهنية بصفة أساسية، ونفس الوضعية يعيشها القاضي وهو يبت في قضية جنائية، توجه فيها أفعال جرمية للمتهم أو المتهمين، أو ملف متعلق بعصابة إجرامية فيها مجموعة متهمين من ذوي السوابق في تنفيذ جرائمهم بطرق ووسائل احترافية.
 
هذه الحالات، توجب أن توفر للهيئة القضائية - زيادة في الكفاءات القانونية- الظروف والشروط، والمحيط الذي يمكنها من القدرة على اكتشاف الحقائق وخبايا الوقائع، واستظهار الإجرام في هذه القضايا من عدمه، لا سيما أن هؤلاء المتهمين، ليسوا إلا مجرد أشخاص مازالوا يستظلون برداء البراءة، كيف ما كانت خطورة التهم.
 
إن هذه الوضعية التي تعيشها غرف الجنايات، وخاصة استئنافيات المدن الكبرى، وفي مقدمتها استئنافية الدار البيضاء، لا يمكن السكوت عليها، تحت دريعة – هذا واقع – والغريب أن الوضعية المذكورة، ليست حالة طارئة، يمكن تحملها لصفتها العابرة، بل إن كل المؤشرات تؤكد أن واقع تراكم قضايا الجنايات، مرشح للارتفاع، إلا أن ما يجب التأكيد عليه هو أن المسؤولية، تتجاوز الإمكانيات المحلية، والمخاطب فيها ليس المسؤولون في السلطة القضائية، لا محلياً ولا وطنياً، بل إن الموضوع مطروح بحدة على وزارة العدل خاصة، والحكومة بصفة عامة، على اعتبار.
 
أن إقامة العدل في البلاد مسألة أساسها حقوقي ومرجعيتها دستورية ومواثيق دولية، ولها مساس ولها انعكاس على المصالح العليا للوطن، في كل أبعادها الحقوقية والاقتصادية، بما فيها مجال الاستثمار.
 
وللاعتبارت المذكورة، وغيرها فإن هذا الواقع وغيره، يدعو جميع الفعاليات في الدولة والمجتمع إلى المساهمة كل من موقعه، في وضع تشخيص لكل جوانب الخصاص والخلل في مجال العدالة المغربية، بتوفير العنصر البشري المؤهل أخلاقياً وعلمياً، لأنه من غير المعقول أن يكون عدد قضاة تونس أكثر من عددهم في المغرب، مع أنها لا تمثل إلى ربع عدد سكان المغرب، كما يجب توفير البنيات والهياكل لاستقبال الكم الهائل من القضايا المطروحة على القضاء.
 
ومادامت المناسبة شرط، فإن الشيء بالشيء يذكر، ذلك أن أحد وزراء العدل وبمشاركة الجميع سابقاً، قد طاف المغرب طولاً وعرضاً، سعياً لوضع معالم ومخططات وبرامج، بغاية ((الإصلاح العميق والشامل لمنظومة العدالة))، وانتهى هذا المجهود بعد تشخيص الواقع ومعرفة الخلل والخصاص، إلى وضع مخطط واضح إجرائياً وتشريعياً، بغاية تحقيق منظومة قضائية في مستوى القرن الواحد والعشرين، هذا الإنجاز حظي بتزكية ملكية، فهل واقعنا اليوم هو انعكاس، للإصلاح المذكور، ذلك هو السؤال ؟ .