الجمعة 29 مارس 2024
سياسة

اليوسفي والشتوكي.. لقاء طنجاويين

اليوسفي والشتوكي.. لقاء طنجاويين الراحل عبد الرحمان اليوسفي يتوسط المقاوم محمد بن عبد القادر الشتوكي (يمينا) ولحسن العسبي
إنه لقاء طنجاويين لم يلتقيا قبل هذه الصورة منذ سنوات، سي عبد الرحمان اليوسفي رحمه الله والمقاوم الشتوكي (الذي لا علاقة له بالشتوكي الشهير في قضية الشهيد المهدي بنبركة). كنت أقدم للسي عبد الرحمان صديقه القديم بمقر إقامته بشارع الأميرات بالرباط بصفته وزيرا أول لحكومة التناوب شتاء سنة 2000، من باب التذكير بسيرته النضالية في المقاومة، فابتسم رحمه الله وقال له: "زمان سي بنعبد القادر" (الإسم الكامل للشتوكي هو محمد بن عبد القادر الشتوكي)، وضحكا معا ضحكة أسيانة.
قصة الشتوكي تليق مادة لفيلم سينمائي مضمون النجاح، وهي مدونة في كتاب صدر ضمن منشورات مؤسسة محمد الزرقطوني للثقافة والأبحاث، التي أتشرف أنني كنت واحدا من مؤسسيها سنة 2000.
الشتوكي كان رجل الثقة بين رجال المقاومة في الشمال ومجموعة الدارالبيضاء المركزية بقيادة الشهيد محمد الزرقطوني. عبره كانت تصل الأسلحة وتصل حبات السم "السيانور" وأيضا العديد من المناشير والرسائل. كانت التقنية التواصلية بينه وبين الشهيد الزرقطوني جد معقدة، وأهم أدواتها برنامج إذاعي لإهداء الأغاني في طنجة، فكلما سمع الواحد أو الآخر أغنية يكون الإتفاق حولها مسبقا يبدأ الشتوكي التنفيذ. كانت للرجل سيارة أجرة تربط بين طنجة والدارالبيضاء، وكانت تمر من نقط تفتيش متعددة ولا مرة واحدة تمكنت لا السلطات الإستعمارية الإسبانية في الشمال ولا السلطات الإستعمارية الفرنسية بعد نقطة عرباوة بسهل الغرب، من اكتشاف ما يحمله الرجل معه. كيف ذلك؟. تلك قصة أخرى.
كان الشتوكي لا يحمل معه غير السواح الأجانب أو اليهود، وكان يحرص من باب التمويه أن يضع السجائر أمامه بل كان يدس حتى قنينات خمر من النوع الرفيع في جوار مقعده، حتى يفهم عسكر وشرطة الإحتلال أنه ضد مقاطعة السلع والسجائر الفرنسية والإسبانية التي كانت تطالب الحركة الوطنية والمقاومة بمقاطعتها وكانت الإستجابة كبيرة من قبل المغاربة حينها (يذكرني هذا أيضا، بما حكاه لي المرحوم الفقيه البصري عن الشهيد حمان الفطواكي، الذي كانت له علاقة مع الباشا التهامي لكلاوي، وكان يلتقيه تقريبا كل يوم. كان الشهيد الفطواكي ينفذ عمليات نوعية طالت قيادات استعمارية كبيرة في هرم الإستعمار الفرنسي. وفي المساء كان يلتقي التهامي لكلاوي ويشرع معه في سب ولعن هؤلاء الفاسقين من القتلة من رجال الفداء.. ههه. كان هو صاحبها لكنه أمام الكلاوي يدعي شيئا آخر).
لكن القصة الأكبر في سيارة الشتوكي (نوع دوسوطو) أنها مرت من بين يدي الفنان الميكانيكي، المقاوم الشهير، المرحوم الهاشمي المتوكل (الشهير بالتهامي لكحل). وكان الرجل رحمه الله، حين التقيته وهو في الثمانين من عمره، فارع الطول وله نظرة عين موغلة في الذكاء وله ذاكرة منضوضة صافية. والهاشمي المتوكل كان أمين سر الزرقطوني وأيضا الشهيد ابراهيم الروداني، ليس فقط لأنه ثقة، بل لأنه الوحيد الذي نجح في تجنيد رجال شرطة مغاربة من داخل جهاز الأمن الإستعماري بالدارالبيضاء، وكان عددهم خمسة، أشهرهم وأهمهم المرحوم كبور. كانت كل الأخبار تصل يسيرة إلى الهاشمي ومنها إلى الزرقطوني والروداني والفقيه البصري. ثم إن الرجل بحكم مهنته كان يتكفل بسيارات المقاومة، حيث كان يزيل لها أسفلها ويعيد ترتيب الأمور من خلال وضع ما يشبه نفق حديدي طويل يمتد من أسفل المحرك حتى آخر السيارة، يتم تغليفه من الداخل بالحلفاء ومن الخارج بمادة عازلة لا تسمح بأي دبيب لأثر مادة حديدية أو سلاح. ومهما مررت السلطات الأمنية آلات الكشف عن السلاح لن تسجل أي شئ. وذلك ما فعله مع سيارة الشتوكي. وهذه التفاصيل شرحها لي بدقة المقاوم المرحوم الهاشمي المتوكل نفسه في بيته بحي كاليفورنيا بالدارالبيضاء.
بعد استشهاد الزرقطوني بحبة السم التي حملها إليه الشتوكي وسلمها له بشاطئ عين الذئاب بالدارالبيضاء، سيقع شهورا بعد ذلك في الأسر بالشمال. ونقلته السلطات الإستعمارية الإسبانية إلى سجن تطوان ومنه إلى سجن موحش بإحدى حزر الشمال المغربي وهناك بقي وحيدا، لأكثر من أربع سنوات، يعيش مع القطط. أفهمت زوجته أنه قتل، فتزوجت ورعت صغارها، فيما الرجل كان يقتات مما تقتات منه تلك القطط وكان أشبه بحي بن يقظان في غابة منسية. (هذه تفاصيل جد صادمة متضمنة في كتابه).
هو اليوم لا يزال بذات صلابة الموقف والرجولة وبعزة نفس نادرة، يقيم بين المغرب وبلجيكا حيث انتقل أغلب أبنائه. لا يزال الشتوكي وهو يتجاوز التسعين من عمره، يصر أن يسوق سيارته وحده في طرق المغرب من الشمال إلى الجنوب.