الخميس 25 إبريل 2024
فن وثقافة

الحنوشي: "أوراق من دفاتر حقوقي" للأستاذ الصديقي.. إمتاع ومؤانسة

الحنوشي: "أوراق من دفاتر حقوقي"  للأستاذ الصديقي.. إمتاع ومؤانسة محمد‭ ‬الصديقي (يمينا) وعبد الرزاق الحنوشي
يعتبر‭ ‬د‭. ‬محمد‭ ‬المحيفيظ‭ ‬أستاذ‭ ‬الفلسفة‭ ‬السياسية‭ ‬بجامعة‭ ‬ابن‭ ‬طفيل،‭ ‬أن‭ ‬معايير‭ ‬تقييم‭ ‬الكتب‭ ‬وقياس‭ ‬جدواها‭ ‬تنبني‭ ‬-حسب‭ ‬رأيه-‭ ‬على‭ ‬ثلاث‭ ‬عناصر‭ ‬أساسية:
‮أولها؛‭ ‬المعطيات‭ ‬والمعارف‭ ‬التي‭ ‬توفرها‭ ‬هذه‭ ‬الكتب‭ ‬للقارئ‭ ‬وثانيها؛‭  ‬المسارات‭ ‬والدروب‭ ‬التي‭ ‬قد‭ ‬تثيرها‭ ‬كمشاريع‭ ‬للبحث‭ ‬مستقبلا،‭ ‬وثالثها؛‭ ‬الأسئلة‭ ‬التي‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تولدها‭ ‬في‭ ‬ذهن‭ ‬القارئ‭ ‬وليس‭ ‬فقط‭ ‬الإجابات‭ ‬التي‭ ‬يقدمها‭ ‬الكاتب‭.‬
‮وهكذا‭ ‬فإن‭ ‬قراءة‭ ‬كتاب‭ ‬أذ‭.‬‮ ‬‭ ‬محمد‭ ‬الصديقي:‭ ‬"أوراق‭ ‬من‭ ‬دفاتر‭ ‬حقوقي"‮ ‬‭ ‬تستجيب‭ ‬كليا‭ ‬لهذه‭ ‬المعايير،‭ ‬بل‭ ‬وتتجاوزها‭ ‬في‭ ‬نظري‭ ‬المتواضع‭ ‬بتحقيق‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬المتعة‭ ‬والانجذاب‭ ‬عند‭ ‬قراءة‭ ‬الكتاب‭ ‬ولا‭ ‬سيما‭ ‬منها‭ ‬المرافعات،‭ ‬فضلا‭ ‬عن‭ ‬منافع‭ ‬أخرى‭ ‬في‭ ‬الكتاب،‭ ‬وهي‭ ‬ما‭ ‬سنحاول‭ ‬أن‭ ‬نقف‭ ‬عند‭ ‬البعض‭ ‬منها‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الورقة‭.‬
‮من‭ ‬الأسئلة‭ ‬التي‭ ‬تقفز‭ ‬إلى‭ ‬الذهن‭ ‬عند‭ ‬قراءة‭ ‬كتاب‭ ‬الأستاذ‭ ‬الصديقي‭ ‬تتمثل‭ ‬في‭ ‬ماهية‭ ‬الكتاب؟،‭ ‬أي‭ ‬في‭ ‬أي‭ ‬جنس‭ ‬من‭ ‬الكتابة‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬نصنفه‭. ‬إذ‭ ‬يلاحظ‭ ‬أن‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬القراءات‭  ‬ذهبت‭ ‬إلى‭ ‬اعتباره‭ ‬"سيرة‭ ‬ذاتية"‭ ‬أو‭ ‬ضمن‭ ‬صنف‭ ‬"المذكرات"،‮ ‬‭ ‬لكن‭ ‬الذين‭ ‬يعرفون‭ ‬الرجل‭ ‬وغنى‭ ‬مساراته‭ ‬المهنية‭ ‬والفكرية‭ ‬والنظرية‭ ..‬إلخ‭  ‬يعرفون‭ ‬أيضا‭ ‬أن‭ ‬ما‭ ‬تضمنه‭ ‬الكتاب‭ ‬لا‭ ‬يغطي‭ ‬كل‭ ‬جوانب‭ ‬مسيرة‭ ‬الرجل‭ ‬وعطاءاته،‭ ‬بل‭ ‬إنه‭ ‬نفسه‭ ‬كان‭ ‬على‭ ‬بينة‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬الأمر-‮ ‬‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬يبدو-‭ ‬واختار‭ ‬لكتابه‭ ‬عنوانا‭ ‬"محايدا"‭ ‬لا‭ ‬يحيل‭ ‬بالضرورة‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬الأمر‭ ‬يتعلق‭ ‬بمذكرات‭ ‬أو‭ ‬سيرة‭ ‬ذاتية،‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يعني‭ ‬ذلك‭ ‬إمكانيات‭ ‬التأويل‭ ‬والفهم‭ ‬المغاير‭ ‬لهذا‭ ‬العنوان‭ ‬الموسوم‭ ‬بـ‭ ‬"بأوراق‭ ‬من‭ ‬دفاتر‭ ‬حقوقي"‭.‬
 
مقدمة لمشروع أوسع
 
بتأمل‭ ‬هذا‭ ‬العنوان‭ ‬قبل‭ ‬قراءة‭ ‬الكتاب،‭ ‬وبعد‭ ‬قراءته‭ ‬تتولد‭ ‬انطباعات‭ ‬وتساؤلات متباينة‭ ‬لعل‭ ‬أهمها‭ ‬بالنسبة‭ ‬لي:‭ ‬ألا‭ ‬يشكل‭ ‬هذا‭ ‬الكتاب‭ ‬مجرد‭ ‬مقدمة/‭ ‬تمهيد‭ ‬لمشروع‭ ‬أوسع،‭ ‬وأننا‭ ‬قد‭ ‬نترقب‭ ‬أن‭ ‬يكشف‭ ‬ذ‭ ‬محمد‭ ‬الصديقي‭ ‬عن‭ ‬باقي‭ ‬"أوراقه"‭ ‬أو‭ ‬بالأحرى‭ ‬"دفاتره"؟
‮ ‬الذين‭ ‬يعرفون‭ ‬أذ‭. ‬الصديقي‭ ‬وطبيعة‭ ‬شخصيته،‭ ‬يعرفون‭ ‬بالتأكيد‭ ‬أنه‭ ‬رجل‭ ‬يفضل‭ ‬الظل،‭ ‬ولذلك‭ ‬فحتى‭ ‬مبادرة‭ ‬إصدار‭ ‬هذا‭ ‬الكتاب‭ ‬وأسباب‭ ‬نزوله‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬لها‭ ‬أن‭ ‬تتم‭ ‬لولا‭ ‬توفر‭ ‬بعض‭ ‬الشروط‭ ‬التي‭ ‬دفعت‭ ‬(وأشدد‭ ‬على‭ ‬هذه‭ ‬الكلمة)‭  ‬المؤلف‭ ‬إلى‭ ‬إصدار‭ ‬هذا‭ ‬الكتاب‭ ‬ضمن‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬الوفاء‭ ‬بالالتزام‭ ‬بالدرجة‭ ‬الأولى،‭ ‬لذلك‭ ‬نجده‭ ‬يصرح: "إني‮ ‬‭ ‬لست‭ ‬من‭ ‬الأشخاص‭ ‬الذين‭ ‬يجدون‭ ‬لذة‭ ‬أو‭ ‬متعة‭ ‬للحديث‭ ‬عن‭ ‬أنفسهم،‮ ‬‭ ‬لم‭ ‬أكن‭ ‬أتحدث‭ ‬عن‭ ‬نفسي‭ ‬إطلاقا‭ ‬وبصفة‭ ‬عامة،‮ ‬‭ ‬لم‭ ‬أكن‭ ‬أقول‭ ‬أني‭ ‬أنجزت‭ ‬كذا‭ ‬وحققت‭ ‬كذا‭ ‬أو‭ ‬فعلت‭ ‬كذا‭ ‬وكذا…‭ ‬لكن‭ ‬اليوم،‮ ‬‭ ‬أظن‭ ‬أن‭ ‬الظروف‭ ‬تفرض‭ ‬علي‭ ‬الحديث‭ ‬عن‭ ‬ذلك‭ ‬الجانب،‭ ‬والبوح‭ ‬ولو‭ ‬بالقليل‭ ‬مما‭ ‬تيسر‭ ‬منه" (ص‭ ‬13)‭.‬
‮ ‬فكرة‭ ‬الكتاب‭ ‬إذا‭ ‬مرتبطة‭ ‬بحدثين‭ ‬متزامنين‭ ‬انتهاء‭ ‬مهام‭ ‬ذ‭. ‬الصديقي‭ ‬بالمجلس‭ ‬الدستوري‭ ‬في‭ ‬سنة‭ ‬2017‭ ‬ورجوعه‭ ‬إلى‭ ‬مكتبه‭ ‬(مكتب‭ ‬المحاماة)،‭ ‬وشروعه‭ ‬في‭ ‬النبش‭ ‬في‭ ‬أوراقه‭ ‬القديمة‭ ‬واسترجاع‭ ‬بعض‭ ‬الصور‭ ‬من‭ ‬الماضي‭ ‬على‭ ‬حد‭ ‬تعبيره‭ ‬في‭ ‬مقدمة‭ ‬الكتاب،‭ ‬وتزامن‭ ‬ذلك‭ ‬مع‭ ‬دعوة‭ ‬النقيب‭ ‬ذ‭. ‬محمد‭ ‬بريكو‭ ‬نقيب‭ ‬هيئة‭ ‬المحامين‭ ‬بالرباط‭ ‬للأستاذ‭ ‬محمد‭ ‬الصديقي‭ ‬للمشاركة‭ ‬في‭ ‬افتتاح‭ ‬الجلسات‭ ‬الحوارية‭ ‬التي‭ ‬ذأبت‭ ‬الهيئة‭ ‬على‭ ‬تنظيمها،‮ ‬‭ ‬وتم‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬ليلة‭ ‬رمضانية‭ ‬امتدت‭ ‬من‭ ‬مساء‭ ‬يوم‭ ‬16‭ ‬ماي‭ ‬2019‭ ‬الى‭ ‬صبيحة‭ ‬اليوم‭ ‬الموالي‭ ‬(الموافق‭ ‬للعاشر‭ ‬من‭ ‬رمضان‭ ‬1440‭ ‬هـ)،‭ ‬والتي‭ ‬أدارها‭ ‬باقتدار‭ ‬وحنكة‭ ‬الأستاذ‭ ‬الراحل‭ ‬الطيب‭ ‬الأزرق‭ ‬المحامي‭ ‬بهيئة‭ ‬الرباط‭.‬
 
كرسي اعتراف
 
‮ ‬كانت‭ ‬هذه‭ ‬الأمسية‭ ‬بمثابة‭ ‬"كرسي‭ ‬اعتراف"‮ ‬‭ ‬أجاب‭ ‬خلالها‭ ‬ذ‭. ‬الصديقي‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬الأسئلة‭ ‬التي‭ ‬وجهت‭ ‬اليه‭ ‬،‭ ‬وكان‭ ‬محتوى‭ ‬هذا‭ ‬اللقاء‭ ‬هو‭ ‬المتن‭ ‬الأساسي‭ ‬للكتاب،‮ ‬‭ ‬ولكن‭ ‬طبيعة‭ ‬وسياق‭ ‬وظرفية‭ ‬هذه‭ ‬التظاهرة،‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬تسعف‭ ‬بأن‭ ‬يتوسع‭ ‬أذ‭. ‬الصديقي‭ ‬في‭ ‬سرد‭ ‬كل‭ ‬عناصر‭ ‬الإجابات‭ ‬الممكنة‭ ‬على‭ ‬مختلف‭ ‬الأسئلة‭ ‬التي‭ ‬طرحت‭ ‬عليه‭ ‬على‭ ‬اختلاف‭ ‬مواضيعها‭ ‬وتشعب‭ ‬بعضها،‮ ‬‭ ‬حيث‭ ‬كان‭ ‬يكتفي‭ ‬بذكر‭ ‬بعض‭ ‬العناصر‭ ‬الأساسية‭.‬
‭ ‬فقد‭ ‬اهتدى‭ ‬أذ‭. ‬الصديقي‭ ‬إلى‭ ‬وضع‭ ‬فهرسة‭ ‬لكتابه‭ ‬تشبه‭ ‬-‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬الشكل-‮ ‬‭ ‬تلك‭ ‬التي‭ ‬تعتمد‭ ‬في‭ ‬المدونات‭ ‬التشريعية،‭ ‬ولعل‭ ‬ذلك‭ ‬يعود‭ ‬لتكوينه‭ ‬كرجل‭ ‬قانون‭ ‬بامتياز،‭ ‬فجاء‭ ‬المؤلف/‭ ‬الإصدار‭ ‬في‭ ‬سبعة‭ ‬كتب‭ ‬بالإضافة‭ ‬إلى‭ ‬مقدمة‭ ‬وهي‭ ‬كالاتي:
 
الكتاب‭ ‬الأول:‮ ‬مسار‭ ‬النقيب‭ ‬وهو‭ ‬بالتحديد‭ ‬محتوى‭ ‬اللقاء‭ ‬الحواري‭ ‬المنظم‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬نقابة‭ ‬المحامين‭ ‬بالرباط‭ ‬الذي‭ ‬سبق‭ ‬أن‭ ‬أشرنا‭ ‬إليه‭.‬
الكتاب‭ ‬الثاني:‮ ‬‭ ‬حمل‭ ‬عنوان‭ ‬"من‭ ‬معارك‭ ‬الدفاع‭ ‬في‭ ‬محاكمات‭ ‬لها‭ ‬تاريخ"‭ ‬وتضمن‭ ‬مرافعات‭ ‬ذ‭. ‬الصديقي‭ ‬في‭ ‬أربع‭ ‬محاكمات‭ ‬تخص‭ ‬محاكمة:‮ ‬‭ ‬أطلس‭ ‬بلحاج‭ ‬ومن‭ ‬معه‭ ‬أمام‭ ‬محكمة‭ ‬الجنايات‭ ‬بالرباط‭ ‬(يناير‭ ‬1969)‭ ‬محاكمة‭ ‬عمر‭ ‬بنجلون‭ ‬ورفاقه‭ ‬(19‭ ‬يوليوز‭ ‬1976)،‭ ‬وعنونها‭ ‬بـ‭ ‬"المسرحية‭ ‬الهزيلة"‭ ‬ثم‭ ‬محاكمة‭ ‬عبد‭ ‬الرحيم‭ ‬بوعبيد‭ ‬ورفاقه‭ ‬(11‭ ‬شتنبر‭ ‬1981)‭ ‬التي‭ ‬عنونها‭ ‬بـ‭ ‬"محاكمة‭ ‬رأي"،‭ ‬ثم‮ ‬‭ ‬محاكمة‭ ‬محمد‭ ‬نوبير‭ ‬الأموي‭ ‬(24‭ ‬مارس‭ ‬1992)‭ ‬التي‭ ‬عنوانها‭ ‬بـ‭ ‬"بمحاكمة‭ ‬حرية‭ ‬التعبير"‭ ‬واكتفى‭ ‬فيها‭ ‬بالتذكير‭ ‬بشكل‭ ‬موجز‭ ‬جدا‭ ‬بالسياق‭ ‬الذي‭ ‬تمت‭ ‬فيه‭ ‬المحاكمة‭ ‬وغياب‭ ‬ضمانات‭ ‬المحاكمة‭ ‬العادلة‭ ‬والاستعجال‭ ‬في‭ ‬إصدار‭ ‬الحكم‭ ‬ابتدائيا‭ ‬واستئنافيا،‭ ‬حيث‭ ‬كان‭ ‬الهدف‭ ‬وفق‭ ‬تفسير‭ ‬ذ‭ ‬الصديقي‭ ‬"عرقلة‭ ‬أي‭ ‬انفراج‭ ‬حقيقي"‭.‬
وضمن‭ ‬نفس‭ ‬الكتاب‭ ‬الثاني‭ ‬تم‭ ‬إدراج‭ ‬النص‭ ‬الكامل‭ ‬للشكاية‭ ‬المباشرة‭ ‬التي‭ ‬تم‭ ‬توجيهها‭ ‬إلى‭ ‬قاضي‭ ‬التحقيق‭ ‬بمحكمة‭ ‬الاستئناف‭ ‬بالرباط‭ ‬في‭ ‬5‭ ‬يوليوز‭ ‬2001،‭ ‬بشأن‭ ‬ملف‭ ‬الشهيد‭ ‬المهدي‭ ‬بن‭ ‬بركة‭ ‬والمطالبة‭ ‬بفتح‭ ‬تحقيق‭ ‬إثر التصريحات‭ ‬التي‭ ‬أدلى‭ ‬بها‭ ‬أحمد‭ ‬البخاري‭ ‬الذي‭ ‬عمل‭ ‬بجهاز‭ ‬الاستخبارات‭. ‬كما‭ ‬تم‭ ‬ادراج‭ ‬ملتمس‭ ‬النيابة‭ ‬العامة‭ ‬الكتابي‭ ‬بشأن‭ ‬هذه‭ ‬الشكاية،‭ ‬وكذا‭ ‬التعقيب‭ ‬عليها‭.‬
الكتاب‭ ‬الثالث‭ ‬عنونه‭ ‬ذ‭. ‬الصديقي‭ ‬بـ‭ ‬"مسائل‭ ‬في‭ ‬شؤون‭ ‬العدالة‭ ‬وشجونها"‭ ‬والذي‭ ‬خصصه‭ ‬لبعض‭ ‬الحوارات‭ ‬الصحفية‭ ‬والعروض‭ ‬والمقالات‭ ‬التي‭ ‬تناول‭ ‬فيها‭ ‬بالتحليل‭ ‬جملة‭ ‬من‭ ‬القضايا‭ ‬الهامة‭ ‬من‭ ‬قبيل،‭ ‬محاربة‭ ‬الرشوة‭ ‬والفساد،‭ ‬إصلاح‭ ‬قانون‭ ‬المحاماة،‭ ‬مراجعة‭ ‬التشريع‭ ‬الجنائي‭ ‬المغربي،‭ ‬حكامة‭ ‬واستقلالية‭ ‬القضاء…الخ‭ .‬
الكتاب‭ ‬الرابع‭ ‬عنونه‭ ‬ذ‭. ‬الصديقي‭ ‬بـ‭ ‬"في‭ ‬معترك‭ ‬الحقوق‭ ‬والحريات"،‭ ‬وخصصه‭ ‬لبعض‭ ‬المحطات‭ ‬الأساسية‭ ‬في‭ ‬تاريخ‭ ‬الحركة‭ ‬الحقوقية‭ ‬سواء‭ ‬في‭ ‬جانبها‭ ‬المدني‭ ‬(الجمعوي)‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬جانبها‭ ‬المؤسساتي‭ ‬،‭ ‬و‭ ‬لاسيما‭ ‬سياق‭ ‬تأسيس‭ ‬المنظمة‭ ‬المغربية‭ ‬لحقوق‭ ‬الإنسان،‭ ‬وخلفيات‭ ‬القبول‭ ‬بالمشاركة‭ ‬في‭ ‬المجلس‭ ‬الاستشاري‭ ‬لحقوق‭ ‬الإنسان‭.‬
كما‭ ‬تضمن‭ ‬هذا‭ ‬الكتاب‭ ‬حوارات‭ ‬صحفية‭ ‬ومقالات‭ ‬وعروض‭ ‬تناولت‭ ‬مواضيع‭ ‬وإشكاليات‭ ‬هامة‭ ‬حول‭ ‬ثقافة‭ ‬حقوق‭ ‬الإنسان‭ ‬وتوطيدها‭ ‬في‭ ‬المجتمع‭ ‬وعلاقة‭ ‬الديمقراطية‭ ‬بحقوق‭ ‬الإنسان‭ ‬وفلسفة‭ ‬الانتقال‭ ‬الديمقراطي‭ ‬والعدالة‭ ‬الانتقالية‭ ‬وإصلاح‭ ‬منظومة‭ ‬العدالة‭ ‬ومهنة‭ ‬المحاماة…إلخ‭.‬
الكتاب‭ ‬الخامس‭ ‬خصصه‭ ‬ذ‭. ‬الصديقي‭ ‬لتقديم‭ ‬شهاداته‭ ‬في‭ ‬حق‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬الشخصيات‭ ‬التي‭ ‬عرفها‭ ‬عن‭ ‬قرب،‭ ‬وعمل‭ ‬الى‭ ‬جانبها‭ ‬(عبد‭ ‬الرحمن‭ ‬اليوسفي،‭ ‬عبد‭ ‬العزيز‭ ‬بناني‮ ‬‭ ‬وعبد‭ ‬الواحد‭ ‬الراضي)‭.‬
الكتاب‭ ‬السادس‭ ‬خصصه‭ ‬ذ‭. ‬الصديقي‭ ‬للكلمات‭ ‬التأبينية‭ ‬التي‭ ‬ألقاها‭ ‬في‭ ‬حق‭ ‬شخصيات‭ ‬حقوقية‭ ‬وسياسية‭ ‬وأكاديمية‭ ‬معروفة‭ ‬(عبد‭ ‬الرحيم‭ ‬بوعبيد،‭ ‬‮ ‬‭ ‬عبد‭ ‬الرحمن‭ ‬القادري،‭ ‬عبدالرحيم‭ ‬المعداني،‭ ‬محمد‭ ‬بوزوبع،‭ ‬احمد‭ ‬الشاوي،‭ ‬لطيفه‭ ‬التازي،‭ ‬ادريس‭ ‬السغروشني)‭.‬
أما‭ ‬الكتاب‭ ‬السابع‭ ‬فقد‭ ‬خصصه‭ ‬ذ‭. ‬الصديقي‭ ‬لنشر‭ ‬صور‭ ‬ووثائق‭ ‬ومستندات‭ ‬منتقاة‭ ‬من‭ ‬أرشيفه‭ ‬الخاص،‭ ‬إذ‭ ‬يلاحظ‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬الانتقاء‭ ‬قد‭ ‬تم‮ ‬‭ ‬بعناية،‭ ‬لكون‭ ‬تلك‭ ‬الدعائم‭ ‬لها‭ ‬صلة‭ ‬مباشرة‭ ‬بأحداث‭ ‬ووقائع‭ ‬ومواقف‭ ‬وردت‭ ‬فيما‭ ‬سبق‭ ‬وتناولها‭ ‬أذ‭. ‬الصديقي‭ ‬في‭ ‬متن‭ ‬الكتب‭ ‬المشكلة‭ ‬لهذا‭ ‬الإصدار،‭ ‬وهي‭ ‬بذلك‭ ‬تزيد‭ ‬من‭ ‬تعزيز‭ ‬مصداقية‮ ‬‭ ‬روايته‭ ‬وشهادته‭ ‬عن‭ ‬الأحداث‭ ‬التي‭ ‬تطرق‭ ‬إليها‭.‬
 
مؤلف لجمهور متعدد
 
فكتاب‭ ‬ذ‭. ‬الصديقي‭ ‬"أوراق‭ ‬من‭ ‬دفتر‭ ‬حقوقي"،‭ ‬يعطي‭ ‬الانطباع‭ ‬بأنه‭ ‬مؤلف‭ ‬موجه‭ ‬لنوع‭ ‬معين‭ ‬من‭ ‬القراء‭ ‬المفترضين‭ ‬(مهنيو‭ ‬القانون،‮ ‬‭ ‬نشطاء‭ ‬حقوق‭ ‬الانسان،‮ ‬‭ ‬النخب‭ ‬الحزبية…)،‮ ‬‭ ‬لكن‭ ‬بمجرد‭ ‬الانتهاء‭ ‬من‭ ‬قراءة‭ ‬الكتاب،‭ ‬يتوارى‭ ‬هذا‭ ‬الانطباع‭ ‬ويتضح‭ ‬أن‭ ‬متن‭ ‬المؤلف‭ ‬أو‭ ‬بالأحرى‭ ‬متونه‭ ‬جديرة‭ ‬بالقراءة‭ ‬ومتاحة‭  ‬لجمهور‭ ‬أوسع‭ ‬ومتعدد،‭ ‬ففيه‭ ‬يجد‭ ‬المؤرخ‭ ‬والصحفي‭ ‬والحقوقي‭ ‬والسياسي‭ ‬والطالب‭ ‬وعموم‭ ‬القراء‭ ‬ضالتهم‭ ‬لمعرفة‭ ‬تفاصيل‭ ‬هامة‭ ‬ودالة‭ ‬من‭ ‬تاريخ‭ ‬المغرب‭ ‬الذي‭ ‬لم‭ ‬يكتب‭ ‬بعد‭ ‬(أقصد‭ ‬التاريخ‭ ‬الراهن‭ ‬الذي‭ ‬يغطي‭ ‬العقود‭ ‬الأربعة‭ ‬التي‭ ‬أعقبت‭ ‬الاستقلال)‭.‬
الى‭ ‬جانب‭ ‬المضامين‭ ‬والأفكار‭ ‬التي‭ ‬يزخر‭ ‬بها‭ ‬كتاب‭ ‬ذ‭. ‬الصديقي،‭ ‬هناك‭ ‬أيضا‭ ‬اللغة‭ ‬التي‭ ‬ميزت‭ ‬كتابة‭ ‬هذا‭ ‬المؤلف،‭ ‬والتي‭ ‬تجعل‭ ‬قراءته‭ ‬تحقق‭ ‬للمتلقين‭ ‬نوعا‭ ‬من‭ ‬المتعة،‭ ‬إذ‭ ‬اعتمد‭ ‬أسلوبا‭ ‬مبسطا‭ ‬وميسرا‭ ‬وسلسا‭ ‬في‭ ‬التعبير‭ ‬عن‭ ‬أفكاره،‭ ‬ويبرز‭ ‬ذلك‭ ‬بشكل‭ ‬جلي‭ ‬أكثر‭ ‬في‭ ‬نصوص‭ ‬المرافعات‭ ‬الكتابية،‭ ‬الى‭ ‬جانب‭ ‬الحرص‭ ‬على‭ ‬تأصيل‭ ‬المفاهيم‭ ‬وتحديد‭ ‬مدلولها،‭ ‬والدقة‭ ‬والتمحيص‭ ‬في‭ ‬عرض‭ ‬الوقائع‭ ‬وإسنادها‭ ‬بالوثائق‭ ‬والمراجع‭ ‬كلما‭ ‬تيسر‭ ‬له‭ ‬ذلك‭.‬
 
 
‭ ‬وقد‭ ‬يعود‭ ‬ذلك‭ ‬للتجربة‭ ‬الصحفية‭ ‬للمؤلف،‭ ‬الذي‭ ‬قادته‭ ‬الظروف‭ ‬ونداء‭ ‬الواجب‭ ‬الى‭ ‬تولي‭ ‬مسؤولية‭ ‬إدارة‭ ‬تحرير‭ ‬الجريدة‭ ‬الناطق‭ ‬باسم‭ ‬الحزب‭ ‬الذي‭ ‬انتمى‭ ‬إليه‮ ‬‭ ‬وتحمل‭ ‬فيه‭ ‬مسؤوليات‭ ‬قيادية‭ ‬(الاتحاد‭ ‬الوطني‭ ‬للقوات‭ ‬الشعبية-‮ ‬‭ ‬الاتحاد‭ ‬الاشتراكي)‭ ‬في‭ ‬مرحلتين؛‭ ‬الأولى‭ ‬عندما‭ ‬نودي‭ ‬عليه‭ ‬لتولي‭ ‬مسؤولية‭ ‬سكرتير‭ ‬تحرير‭ ‬جريدة‭ ‬«التحرير»‭ ‬من‭ ‬يوليوز‭ ‬1961‭ ‬إلى‭ ‬يوليوز‭ ‬1963‭ ‬وهو‭ ‬شاب‭ ‬لم‭ ‬يتجاوز‭ ‬22‭ ‬سنة،‭ ‬وذلك‭ ‬خلفا‭ ‬للراحل‭ ‬محمد‭ ‬عابد‭ ‬الجابري‭ ‬الذي‭ ‬التحق‭ ‬بالتدريس‭. ‬
وعن‭ ‬هذا‭ ‬التكليف‭ ‬يشير‭ ‬ذ‭. ‬الصديقي‭ ‬إلى‭ ‬أنه‭ ‬عندما‭ ‬طلب‭ ‬منه‭ ‬تولي‭ ‬هذه‭ ‬المسؤولية‭ ‬«فانه‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬من‭ ‬السهل‭ ‬علي‭ ‬الاجابة‭ ‬على‭ ‬عجل،‮ ‬‭ ‬ولذلك‭ ‬فإني‭ ‬أخذت‭ ‬بعض‭ ‬الوقت‭ ‬لأفكر‭ ‬في‭ ‬الأمر‭ ‬جيدا،‭ ‬غير‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬التفكير‭ ‬لم‭ ‬يدم‭ ‬طويلا،‭ ‬لأنه‭ ‬لم‭ ‬تمضي‭ ‬الا‭ ‬بضعة‭ ‬أيام‭ ‬حتى‭ ‬اتخذت‭ ‬قراري‭ ‬وأنا‭ ‬أقول‭ ‬في‭ ‬نفسي‭ ‬هذه‭ ‬فرصة‭ ‬ستتاح‭ ‬لي‮ ‬‭ ‬لمواصلة‭ ‬السير‭ ‬في‭ ‬الطريق‭ ‬التي‭ ‬اخترت‭ ‬أن‭ ‬أسلكها‭ ‬عندما‭ ‬التحقت‭ ‬بالحركة‭ ‬الوطنية‭ ‬وأنا‭ ‬ابن‭ ‬الخامسة‭ ‬عشر‭ ‬من‭ ‬عمري»‭.‬
‮ ‬المرحلة‭ ‬الثانية‭ ‬التي‭ ‬تحمل‭ ‬فيها‭ ‬أذ‭. ‬الصديقي‭ ‬مسؤولية‭ ‬إدارة‭ ‬جريدة‭ ‬«الاتحاد‭ ‬الاشتراكي»‭ ‬امتدت‭ ‬من‭ ‬نونبر‭ ‬2003‮ ‬‭ ‬إلى‭ ‬مارس‭ ‬2006،‭ ‬وهي‭ ‬أيضا‭ ‬مرحلة‭ ‬معقدة‭ ‬بالنظر‭ ‬لقرار‭ ‬الراحل‭ ‬ذ‭. ‬عبد‭ ‬الرحمان‭ ‬اليوسفي‭ ‬الاستقالة‭ ‬من‭ ‬قيادة‭ ‬الاتحاد‭ ‬الاشتراكي‭ ‬للقوات‭ ‬الشعبية‭ ‬واعتزال‭ ‬العمل‭ ‬الحزبي‭ ‬بصفة‭ ‬نهائية،‭ ‬وكذا‭ ‬تداعيات‭ ‬هذا‭ ‬القرار،‭ ‬ولا‭ ‬سيما‭ ‬على‭ ‬الحياة‭ ‬الداخلية‭ ‬للحزب‭ ‬وضمنها‭ ‬جريدته‭.‬
 
بصمات في الأحداث التاريخية
 
وكان‭ ‬للأستاذ‭ ‬محمد‭ ‬الصديقي‭ ‬بصمات‭ ‬واضحة،‭ ‬في‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬الأحداث‭ ‬التاريخية،‭ ‬منها‭ ‬حملة‭ ‬مقاطعة‭ ‬دستور‭ ‬1962‭ ‬والوقائع‭ ‬التي‭ ‬أعقبتها‭ ‬والتي‭ ‬توجد‭ ‬بعض‭ ‬تفاصيلها‭ ‬في‭ ‬الكتاب،‮ ‬‭ ‬والتي‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬تداعياتها‭ ‬توقيف‭ ‬صدور‭ ‬الجريدة‭ ‬وإغلاق‭ ‬مقرها‭ ‬والاعتقالات‭ ‬والمحاكمات‭ ‬التي‭ ‬تمت‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الفترة،‭ ‬أما‭ ‬التجربة‭ ‬الثانية‭ ‬ورغم‭ ‬صعوبة‭ ‬الظروف‭ ‬التي‭ ‬تولى‭ ‬فيها‭ ‬أذ‭. ‬الصديقي‭ ‬مسؤولية‭ ‬إدارة‭ ‬الجريدة‭ ‬«الاتحاد‭ ‬الاشتراكي»،‭ ‬فإن‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬الشهادات‭ ‬تجمع‭ ‬على‭ ‬نجاحه‭ ‬في‭ ‬المهمة‭ ‬التي‭ ‬أوكلت‭ ‬إليه،‭ ‬كما‭ ‬أنه‭ ‬أعطى‭ ‬المثال‭ ‬في‭ ‬حسن‭ ‬التدبير‭ ‬والترشيد‭ ‬ونظافة‭ ‬اليد،‭ ‬والزهد‭ ‬لدرجة‭ ‬التنازل‭ ‬عن‭ ‬حقوقه‭ ‬كمدير،‭ ‬بامتناعه‭ ‬عن‭ ‬تلقى‭ ‬أي‭ ‬تعويض‭ ‬أو‭ ‬أجر‭ ‬عن‭ ‬مهمته‭ ‬بما‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬المصاريف‭ ‬الأساسية‭ ‬(التنقل-‭ ‬الإقامة-‭ ‬التغذية)،‭ ‬وهي‭ ‬القناعات‭ ‬نفسها‭ ‬التي‭ ‬طبعت‭ ‬المسيرة‭ ‬المهنية‭ ‬للأستاذ‭ ‬محمد‭ ‬الصديقي،‭ ‬والتي‭ ‬كانت‭ ‬محل‭ ‬إجماع‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬الشهادات‭ ‬التي‭ ‬قدمت‭ ‬خلال‭ ‬تلك‭ ‬الأمسية‭ ‬الرمضانية‭ ‬(16‭ ‬ماي‭ ‬2019)‭ ‬في‭ ‬ضيافة‭ ‬نقابة‭ ‬هيئة‭ ‬المحامين‭ ‬بالرباط،‭ ‬ولعل‭ ‬أكثر‭ ‬الشهادات‭ ‬وضوحا‭  ‬وعمقا‭ ‬كانت‭ ‬تلك‭ ‬التي‭ ‬أدلى‭ ‬بها‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬الأساتذة:‭ ‬حمادي‭ ‬ماني‭ ‬وعبد‭ ‬الوهاب‭ ‬المريني‭ ‬ومحمد‭ ‬أشركي‭.‬
 
التمسك بتقاليد المهنة وارتباط بالمجتمع
 
وهكذا‭ ‬توجه‭ ‬أذ‭. ‬ماني‭ ‬إلى‭ ‬ذ‭. ‬الصديقي‭ ‬بالقول: «لقد‭ ‬فهمت‭ ‬شيئا‭ ‬أساسيا‭ ‬منكم‭ ‬ومن‭ ‬رموز‭ ‬هيئة‭ ‬الرباط،‮ ‬فهمت‭ ‬أن‭ ‬المحامين‭ ‬لا‭ ‬يتوفرون‭ ‬على‭ ‬أسلحة‭ ‬دمار‭ ‬شامل،‭ ‬وأن‭ ‬قوتهم‭ ‬إنما‭ ‬تكمن‭ ‬في‮ ‬أخلاقهم‭ ‬وثقافتهم‭ ‬وعلمهم،‭ ‬وفيما‭ ‬يتمتعون‭ ‬به‭ ‬من‭ ‬مصداقية،‮ ‬وفي‭ ‬تمسكهم‭ ‬بتقاليد‭ ‬المهنة‭ ‬وأعرافها،‭ ‬وفي‭ ‬ارتباطهم‭ ‬بالمجتمع‭ ‬الذين‭ ‬ينتمون‭ ‬إليه‭.‬
‮أني‭ ‬متأكد‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬ما‭ ‬فهمته‭ ‬وتلقيته‭ ‬عنكم‭ ‬عندما قمت‭ ‬بزيارتكم‭ ‬خلال‭ ‬شهر‭ ‬يناير‭ ‬1979‭ ‬في‭ ‬إطار‭ ‬تقاليدنا‭ ‬المهنية‭ ‬وأوضحت‭ ‬لي‭ ‬انه‭ ‬لابد‭ ‬للمحامي‭ ‬أن‭ ‬يتشبع‭ ‬ويتشبث‭ ‬بالأخلاق‭ ‬قبل‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬لأنها‭ ‬سلاحه‭ ‬في‭ ‬تعامله‭ ‬مع‭ ‬الآخرين»‭.‬
‮أما‭ ‬شهادة‭ ‬ذ‭. ‬عبد‭ ‬الوهاب‭  ‬المريني‭ ‬فقد‭ ‬عددت‭ ‬مناقب‭ ‬ذ‭. ‬الصديقي‮ ‬والذي‭ ‬وصفه‭ ‬بالنموذج‭ ‬النادر‭ ‬من‭ ‬الرجال‭ ‬«الذين‭ ‬طبعوا‭ ‬الحياة‭ ‬المهنية‭ ‬بطابع‭ ‬النزاهة،‭ ‬وترسيخ‭ ‬قيم‭ ‬الصدق،والوفاء‭ ‬والاخلاص،‭ ‬والأمانة‭ ‬في‮ ‬ممارسة‭ ‬مهنة‭ ‬المحاماة…‮ ‬‭ ‬مفاوض‭ ‬صبور‭ ‬وحازم‭ ‬ومدافع‭ ‬صلب‭ ‬عن‭ ‬المحاماة…‮ ‬‭ ‬عنيد‭ ‬عن‭ ‬حق‭ ‬في‭ ‬مواقفه،‮ ‬صلب‭ ‬في‭ ‬اختياراته،‭ ‬عادل‭ ‬في‭ ‬قراراته،‭ ‬نزيه‭ ‬في‭ ‬معاملاته،‭ ‬متواضع في‭ ‬سلوكه…‭ ‬لكنه‭ ‬متواضع‭ ‬في‭ ‬حزم،‮ ‬‭ ‬لا‭ ‬يستطيع‭ ‬معه‭ ‬أحد‭ ‬أن‭ ‬يتجرأ‭ ‬عليه‭ ‬أو‭ ‬تخطي‭ ‬حدود‭ ‬الوقار‭ ‬والاحترام‭ ‬في‭ ‬حقه…‭.‬‮ ‬‭ ‬قيادي‭ ‬من‭ ‬الطراز‭ ‬الرفيع‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬المجالات‭ ‬المهنية‭ ‬والسياسية،‭ ‬يعرف‭ ‬متى‭ ‬يتكلم‭ ‬نطقا‭ ‬ومتى‭ ‬يتكلم‭ ‬صمتا»‭.‬
بينما‭ ‬كشف‭ ‬الأستاذ‭ ‬محمد‭ ‬أشركي‭ ‬الرئيس‭ ‬السابق‭ ‬للمجلس‭ ‬الدستوري‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬سنتي‭  ‬2008-2017‭ ‬عن‭ ‬بعض‭ ‬الهواجس‭ ‬والتوجسات‭  ‬التي‭ ‬راودته‭ ‬عندما‭ ‬جرى‭ ‬تنصيب‭ ‬أعضاء‭ ‬المجلس‭ ‬الدستوري‭ ‬ومن‭ ‬ضمنهم‭ ‬كان‭ ‬أذ‭ ‬الصديقي،‭ ‬لكن‭ ‬سرعان‭ ‬ما‭ ‬تبدد‭ ‬كل‭ ‬ذلك‭ ‬،‭ ‬إذ‭ ‬أشار‭ ‬بالقول: «عندما‭ ‬عين‭ ‬محمد‭ ‬الصديقي‭ ‬من‭ ‬طرف‭ ‬جلالة‭ ‬الملك‭ ‬عضوا‭ ‬في‭ ‬المجلس‭ ‬الدستوري‭ ‬في‭ ‬نفس‭ ‬التاريخ‭ ‬الذي‭ ‬عينت‭ ‬فيه‭ ‬أنا‭ ‬كذلك،‭ ‬طرحت‭ ‬على‭ ‬نفسي‭ ‬سؤالا‭ ‬مفاده‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬الرجل‭ ‬له‭ ‬تجربة‭ ‬غنية‭ ‬وواسعة‭ ‬في‭ ‬المحاماة‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬معروفا‭ ‬جدا‭ ‬في‭ ‬ميدانها،‭ ‬وأيضا‭ ‬كان‭ ‬يتوفر‭ ‬على‭ ‬تجربة‭ ‬سياسية‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬عضويته‭ ‬في‭ ‬المكتب‭ ‬السياسي‭ ‬للاتحاد‭ ‬الاشتراكي‭ ‬للقوات‭ ‬الشعبية،‭ ‬وكذلك‭ ‬تجربة‭ ‬إعلامية،‭ ‬حيث‭ ‬كان‭ ‬مدير‭ ‬لصحيفة‭ ‬«الاتحاد‭ ‬الاشتراكي»‭ ‬بعد‭ ‬مروره‭ ‬بجريدة‭ ‬«التحرير»‭. ‬هذا‭ ‬الرجل‭ ‬بهذا‭ ‬الوزن،‭ ‬هل‭ ‬بمقدوره‭  ‬أن‭ ‬يندمج‭ ‬في‭ ‬القضاء‭ ‬الدستوري‭ ‬الذي‭ ‬له‭ ‬خصوصيته‭ ‬التي‭ ‬تتمثل‭ ‬في‭ ‬القدرة‭ ‬على‭ ‬تأويل‭ ‬أحكام‭ ‬الدستور‭ ‬العامة؟‭ ‬وهل‭ ‬تكون‭ ‬له‭ ‬القدرة‭ ‬كذلك‭ ‬على‭ ‬الغوص‭ ‬في‭ ‬ملفات‭ ‬المنازعات‭ ‬الانتخابية‭ ‬بما‭ ‬يتطلب‭ ‬من‭ ‬تحقيقات‭ ‬ومتابعات؟
واليوم‭ ‬أقول‭ ‬أمامه،‭ ‬وأيضا‭ ‬أمامكم،‭ ‬أنني‭ ‬فوجئت‭ ‬مفاجئة‭ ‬سعيدة،‭ ‬عندما‭ ‬تبين‭ ‬لي،‭ ‬أنه‭ ‬تمكن‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬يندمج‭ ‬بسرعة‭ ‬في‭ ‬ممارسة‭ ‬العمل‭ ‬القضائي‭ ‬للمجلس‭ ‬الدستوري،‭ ‬وأن‭ ‬يحمل‭ ‬إليه‭ ‬معه‭ ‬كل‭ ‬خبرته‭ ‬القانونية‭ ‬وقدرته‭ ‬على‭ ‬التفكير‭ ‬القضائي»‭ ‬
 
مدافع شرس ونزيه عن المحاماة
 
أذ‭. ‬محمد‭ ‬الصديقي‭ ‬النقيب‭ ‬والمدافع‭ ‬الشرس‭ ‬عن‭ ‬مهنة‭ ‬المحاماة،‭ ‬وبنزاهة‭ ‬فكرية‭ ‬ودون‭ ‬أي‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬التعصب‭ ‬الأعمى‭ ‬للانتماء‭ ‬المهني،‮ ‬نجده‭ ‬في‭ ‬نفس‭ ‬الآن‭ ‬يقدم‭ ‬رأيه‭ ‬الصريح‭ ‬والنقدي‭ ‬والشفاف‭ ‬في‭ ‬وضعية‭ ‬المهنة‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬الراهن‭ ‬بعبارات‭ ‬واضحة‭ ‬ومباشرة: «بكل‭ ‬صدق‭ ‬لا‭ ‬أخفيك،‭ ‬كمحامي‭ ‬ونقيب‭ ‬سابق،‮ ‬أني‭ ‬لست‭ ‬مرتاحا‭ ‬لما‭ ‬توجد‭ ‬عليه‭ ‬المهنة‭ ‬اليوم،‭ ‬نظاما‭ ‬وممارسة،‮ ‬وكذلك‭ ‬أنى‭ ‬لست‭ ‬وحدي‭ ‬من‭ ‬يحمل‭ ‬هذه‭ ‬النظرة‭ ‬لواقع‭ ‬مهنتنا‭ ‬حاليا‭ ‬وما‭ ‬تعانيه‭ ‬من‭ ‬أزمة‭ ‬خانقه‭ ‬تكاد‭ ‬تعصف‭ ‬بالمهنة‭ ‬إن‭ ‬لم‭ ‬يقع‭ ‬تدارك‭ ‬ما‭ ‬تعيشه‭ ‬من‭ ‬أوضاع‭ ‬مقلقة‭.‬‮ ‬
‭ ‬إن‭ ‬هذا‭ ‬الواقع‭ ‬هو‭ ‬نتاج‭ ‬عدة‭ ‬عوامل‭ ‬مجتمعة،‭ ‬أولها‭ ‬هو‭ ‬التحولات‭ ‬المجتمعية‭ ‬التي‭ ‬عرفتها‭ ‬وتعرفها‭ ‬البلاد‭ ‬منذ‭ ‬سنوات،‭ ‬والمحامون‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يكونوا‭ ‬بمنأى‭ ‬عن‭ ‬هذه‭ ‬التحولات‭ ‬والآثار‭ ‬السلبية‭ ‬منها‭ ‬على‭ ‬وجه‭ ‬الخصوص،‭ ‬والعامل‭ ‬الثاني‭ ‬هو‭ ‬ما‭ ‬اعتبره‭ ‬تخليا‭ ‬من‭ ‬جانب‭ ‬الدولة‭ ‬عن‭ ‬مسؤوليتها‭ ‬في‭ ‬إعادة‭ ‬تنظيم‭ ‬المهنة‭ ‬تنظيما‭ ‬محكما‭ ‬وجيدا‭ ‬لتطويرها‭ ‬بما‭ ‬يلائم‭ ‬متطلبات‭ ‬المرحلة،‭ ‬ولمعالجة‭ ‬جوانب‭ ‬القصور‭ ‬ومكامن‭ ‬الخلل‭ ‬في‭ ‬ممارستها‭ ‬سواء‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬تجلياتها‭ ‬الظاهرة‭ ‬أو‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬أسبابها‭ ‬العميقة‭.‬
«أما‭ ‬العامل‭ ‬الثالث‭ ‬-‭ ‬يضيف‭ ‬أذ‭ ‬الصديقي-‭ ‬فهو‭ ‬عدم‭ ‬تمكين‭ ‬المسؤولين‭ ‬في‭ ‬التنظيمات‭ ‬المهنية‭ ‬للهيئات‭ ‬من‭ ‬التحكم‭ ‬في‭ ‬المسارات‭ ‬التي‭ ‬انزلقت‭ ‬إليها‭ ‬ممارسة‮ ‬‭ ‬مهنة‭ ‬المحاماة‭ ‬في‭ ‬الواقع‭ ‬الملموس‭ ‬يوميا‭. ‬ونتيجة‭ ‬لكل‭ ‬ذلك،‭ ‬فان‭ ‬مهنتنا‭ ‬تعيش‭ ‬اليوم‭ ‬حالة‭ ‬صعبة‭ ‬للغاية‭ ‬من‭ ‬الارتخاء‭ ‬والهزيل،‭ ‬وهي‭ ‬بحاجة‭ ‬أكيدة‭ ‬إلى‭ ‬«رجة‭ ‬قوية‭ ‬تعطيها‭ ‬انبعاثا‭ ‬جديدا‭ ‬يعيد‭ ‬لها‭ ‬وهجها‭ ‬المتوقد»‭.‬
‭ ‬دور‭ ‬مهنة‭ ‬المحاماة‭ ‬في‭ ‬تأسيس‭ ‬الحركة‭ ‬الحقوقية‭ ‬بالمغرب،‭ ‬والنهوض‭ ‬بأعباء‭ ‬الدفاع‭ ‬عن‭ ‬المعتقلين‭ ‬السياسيين‭ ‬ومعتقلي‭ ‬الرأي،‭ ‬بل‭ ‬حتى‭ ‬في‭ ‬الدفاع‭ ‬عن‭ ‬المتابعين‭ ‬في‭ ‬المحاولتين‭ ‬الانقلابيين‭ ‬(يوليوز‭ ‬1971-‭ ‬غشت‭ ‬1972)‭ ‬الذين‭ ‬لا‭ ‬يشاركهم‭ ‬في‭ ‬القناعات‭ ‬ولا‭ ‬التوجهات‭ ‬البلانكية،‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬المواضيع‭ ‬التي‭ ‬عالجها‭ ‬ذ‭. ‬الصديقي‭ ‬في‭ ‬سياقات‭ ‬مختلفة‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬الذي‭ ‬يذكرنا‭ ‬فيه‭ ‬بأن‭ ‬مكتب‭ ‬المحاماة‭ ‬الذي‭ ‬بدأ‭ ‬فيه‭ ‬مسيرته‭ ‬المهنية‭ ‬(مكتب‭ ‬الراحل‭ ‬ذ‭. ‬عبد‭ ‬الرحيم‭ ‬بوعبيد) «كان‭ ‬ملجأ‭ ‬للعديد‭ ‬من‭ ‬المواطنين‭ ‬الذين‭ ‬كانوا‭ ‬يجدون‭ ‬فيه‭ ‬ملاذا‭ ‬لهم‭ ‬مما‭ ‬كانوا‭ ‬يعانون‭ ‬من‭ ‬مظالم‭ ‬وخاصة‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬يتعلق‭ ‬بالاعتقالات‭ ‬التعسفية‭ ‬والانتهاكات‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬تخلو‭ ‬منها‭ ‬أي‭ ‬جهة‭ ‬من‭ ‬الجهات»6،‭ ‬والأكيد‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬الدور‭  ‬الحمائي‭ ‬للحقوق‭ ‬والحريات‭ ‬الذي‭ ‬اضطلع‭ ‬به‭ ‬قطاع‭ ‬المحاماة‭ ‬في‭ ‬الحقبة‭ ‬التي‭ ‬تحدث‭ ‬عنها‭ ‬أذ‭. ‬الصديقي‭ ‬كان‭ ‬ضمن‭ ‬الانشغالات‭ ‬الأساسية‭ ‬للعديد‭ ‬من‭ ‬المحاميات‭ ‬والمحامين‭ ‬الذين‭ ‬كانوا‭ ‬يتطوعون‭ ‬لمؤازرة‭ ‬المستضعفين‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يتوارى‭ ‬هذا‭ ‬الدور‭ ‬تدريجيا‭.‬
 
الارهاصات الأولى لتنظيم العمل الحقوقي:
 
يقف‭ ‬أذ‭. ‬الصديقي‭ ‬أيضا‭ ‬عند‭ ‬أولى‭ ‬محاولات‭ ‬هيكلة‭ ‬وتنظيم‭ ‬العمل‭ ‬الحقوقي،‭ ‬منها،‭ ‬تأسيس‭ ‬«جمعية‭ ‬الحقوقيين‭ ‬المغاربة»‭ ‬سنة‭ ‬1975‭ ‬بمبادرة‭ ‬من‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬المحامين‭ ‬والجامعيين‭ ‬والقضاة،‭ ‬ويتوقف‭ ‬عند‭ ‬الدور‭ ‬الريادي‭ ‬للراحل‭ ‬ذ‭.‬‮ ‬‭ ‬عبد‭ ‬الرحمن‭ ‬القادري‭ ‬في‭ ‬إشعاع‭ ‬هذه‭ ‬الجمعية‭ ‬وتحقيقها‭ ‬للعديد‭ ‬من‭ ‬المكتسبات،‭ ‬لعل‭ ‬أهمها‭ ‬قبول‭ ‬الملك‭ ‬الراحل‭ ‬الحسن‭ ‬الثاني‭ ‬لملتمسها‭ ‬بالعفو‭ ‬عن‭ ‬عشرات‭ ‬المعتقلين‭ ‬السياسيين‭ ‬سنة‭ ‬1977،‭ ‬واهتمامها‭ ‬المبكر‭ ‬بأوضاع‭ ‬السجون‭ ‬والسجناء‭ ‬والمساهمة‭ ‬في‭ ‬نشر‭ ‬الوعي‭ ‬بحقوق‭ ‬الإنسان،‭ ‬والانضمام‭ ‬إلى‭ ‬شبكات‭ ‬جهوية‭ ‬ودولية‭.‬
‮ ‬كما‭ ‬يذكر‭ ‬أذ‭. ‬صديقي‭ ‬بانخراطه‭ ‬في‭ ‬تأسيس‭ ‬الجمعية‭ ‬المغربية‭ ‬لحقوق‭ ‬الإنسان‭ ‬سنة‭ ‬1979،‭ ‬ثم‭ ‬مساهمته‭ ‬الوازنة‭ ‬في‭ ‬تأسيس‭ ‬المنظمة‭ ‬المغربية‭ ‬لحقوق‭ ‬الإنسان‭ ‬سنة‭ ‬1988‭ ‬، ويعرفنا‭ ‬أيضا‭ ‬بالدور‭ ‬الرئيسي‭ ‬الذي‭ ‬لعبه‭ ‬ذ‭. ‬عبد‭ ‬العزيز‭ ‬بناني‭ ‬داخل‭  ‬المنظمة‭  ‬ويشير‭ ‬كذلك‭  ‬للظرفية‭ ‬الصعبة‭ ‬والمعقدة‭ ‬التي‭ ‬تمت‭ ‬فيها‭ ‬عملية‭ ‬التأسيس‭‬،‮ ‬كما‭ ‬يستحضر‭ ‬المحاولات‭ ‬التي‭ ‬تمت‭ ‬لتوحيد‭ ‬الحركة‭ ‬الحقوقية‭ ‬بمحاولة‭ ‬إدماج‭ ‬كل‭ ‬الجمعية‭ ‬المغربية‭ ‬لحقوق‭ ‬الإنسان‭ ‬والعصبة‭ ‬المغربية‭ ‬للدفاع‭ ‬عن‭ ‬حقوق‭ ‬الإنسان‭ ‬في‭ ‬المشروع‭ ‬التأسيسي‭ ‬لمنظمة‭ ‬حقوقية‭ ‬مستقلة‭ ‬عن‭ ‬الدولة‭ ‬وعن‭ ‬الأحزاب‭ ‬السياسية‭ ‬،‭ ‬والمقاومات‭ ‬التي‭ ‬لقيتها‭ ‬هذه‭ ‬المبادرة‭.‬
‮ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬السياق‭ ‬تجدر‭ ‬الاشارة‭ ‬الى‭ ‬إن‭ ‬كتابة‭ ‬تاريخ‭ ‬الحركة‭ ‬الحقوقية‭ ‬بالمغرب،‭ ‬ورغم‭ ‬عدة‭ ‬محاولات،‭ ‬لازال‭ ‬يكتنفه‭ ‬الغموض‭ ‬ولا‭ ‬زالت‭ ‬هناك‭ ‬«بياضات»‭ ‬نذكر‭ ‬منها‭ ‬على‭ ‬سبيل‭ ‬المثال لا‭ ‬الحصر:
 
•‭ ‬نشأة‭ ‬أولى‭ ‬التنظيمات‭ ‬الحقوقية‭ ‬المغربية،‭ ‬حيث‭ ‬دأب‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬الباحثين‭ ‬والصحفيين‭ ‬على‭ ‬التأكيد‭ ‬أن‭ ‬أولى‭ ‬التنظيمات‭ ‬الحقوقية‭ ‬قد‭ ‬تأسست‭ ‬في‭ ‬11‭ ‬ماي‭ ‬1972‭ ‬بمبادرة‭ ‬من‭ ‬حزب‭ ‬الاستقلال،‭ ‬ويتعلق‭ ‬الأمر‭ ‬بالعصبة‭ ‬المغربية‭ ‬للدفاع‭ ‬عن‭ ‬حقوق‭ ‬الإنسان،‭ ‬بينما‭ ‬يعتبر‭ ‬ذ‭ . ‬خالد‭ ‬الناصري‭ ‬في‭ ‬ورقة‭ ‬بحثية‭ ‬حول:‭ ‬«منظمات‭ ‬الدفاع‭ ‬عن‭ ‬حقوق‭ ‬الإنسان‭ ‬المغربية»،‭ ‬صادرة‭ ‬ضمن‭ ‬مؤلف‭ ‬جماعي‭ ‬صدر‭ ‬سنة‭ ‬1994‭ ‬باللغة‭ ‬الفرنسية،‭ ‬أن‭ ‬الأشهر‭ ‬الثلاثة‭ ‬الأولى‭ ‬من‭ ‬سنة‭ ‬1972،‭ ‬قد‭ ‬شهدت‭ ‬تأسيس‭ ‬«اللجنة‭ ‬الوطنية‭ ‬لمناهضة‭ ‬القمع»‭ ‬بمبادرة‭ ‬من‭ ‬شخصيات‭ ‬وطنية‭ ‬وضمت‭ ‬كلا‭ ‬من‭ ‬الاتحاد‭ ‬الوطني‭ ‬لطلبة‭ ‬المغرب‭ ‬،واتحاد‭ ‬كتاب‭ ‬المغرب‭ ‬،والإتحاد‭ ‬الوطني‭ ‬للمهندسين‭ ‬،والنقابة‭ ‬الوطنية‭ ‬للتعليم‭ ‬العالي‭ ‬،واتحاد‭ ‬المحامين‭ ‬الشباب‭.‬
•‭ ‬ولمح‭ ‬ذ‭. ‬الناصري‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬إقدام‭ ‬حزب‭ ‬الاستقلال‭ ‬على‭ ‬تأسيس‭ ‬العصبة‭ ‬المغربية‭ ‬للدفاع‭ ‬عن‭ ‬حقوق‭ ‬الإنسان،‭ ‬كان‭ ‬بالأساس‭ ‬جوابا‭ ‬على‭ ‬«عدم‭ ‬رضاه‭ ‬وتحفظه‭ ‬على‭ ‬بعض‭ ‬مكونات»اللجنة‭ ‬الوطنية‭ ‬لمناهضة‭ ‬القمع»،‭ ‬وتوجهات‭ ‬بعض‭ ‬أعضائها‭ ‬المتياسرة»،‮ ‬‭ ‬هذه‭ ‬المعلومة‭ ‬التي‭ ‬وفرها‭ ‬لنا‭ ‬ذ‭. ‬الناصري‭ ‬باعتباره‭ ‬شاهدا‭ ‬وفاعلا‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬المرحلة،‭ ‬كما‭ ‬هو‭ ‬الشأن‭ ‬بالنسبة‭ ‬للأستاذ‭ ‬محمد‭ ‬الصديقي‭ ‬لا‭ ‬نجدها‭ ‬ضمن‭ ‬«أوراق‭ ‬من‭ ‬دفاتر‭ ‬حقوقي»‭. ‬ولعل‭ ‬ذلك‭ ‬يعود‭ ‬بالأساس‭ ‬لطبيعة‭ ‬المؤلف‭ ‬وخصوصيته‭ ‬التي‭ ‬حاولنا‭ ‬إبرازها‭ ‬سلفا‭.‬
•‮ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬أخرى‭ ‬تكتسى‭ ‬شهادة‭ ‬أذ‭. ‬محمد‭ ‬الصديقي‭ ‬الواردة‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬حول‭ ‬الظروف‭ ‬التي‭ ‬أحاطت‭ ‬بإحداث‭ ‬المجلس‭ ‬الاستشاري‭ ‬لحقوق‭ ‬الإنسان‭ ‬في‭ ‬8‭ ‬ماي‭ ‬1990،‭ ‬أهمية‭ ‬بالغة‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬العمل‭ ‬الجماعي‭ ‬المطلوب‭ ‬في‭ ‬كتابة‭ ‬تاريخ‭ ‬الحركة‭ ‬الحقوقية‭ ‬المغربية،‮ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬تم‭ ‬التطرق‭ ‬إليه‭ ‬في‭ ‬ورقة‭ ‬بحثية‭ ‬نشرت‭ ‬بالعدد‭ ‬الثالث‭ ‬من‭ ‬مجلة‭ ‬«دراسات‭ ‬حقوق‭ ‬الإنسان‭ ‬والديمقراطية»‭ ‬في‭ ‬يونيو‭ ‬2022‭ ‬حيث‭ ‬تم‭ ‬التأكيد‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬تأسيس‭ ‬المجلس‭ ‬الاستشاري‭ ‬لحقوق‭ ‬الانسان‭ ‬قد‭ ‬حكمه‭ ‬سياق‭ ‬خاص،‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬تنامي‭ ‬الاحتجاجات‭ ‬والمطالب‭ ‬الاجتماعية‭ ‬و‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬أخرى‭ ‬تواتر‭ ‬التقارير‭ ‬الدولية‭ ‬المنتقدة‭ ‬لتدهور‭ ‬أوضاع‭ ‬حقوق‭ ‬الإنسان‭ ‬بالمغرب‭ ‬لذلك‭ ‬فإن‭ ‬إحداث‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭  ‬المجالس،‭ ‬وبالنظر‭ ‬للظرفية‭ ‬الاجتماعية‭ ‬السياسية‭ ‬لتلك‭ ‬المرحلة،‭ ‬كان‭ ‬محكوما‭ ‬بهواجس‭ ‬«التهدئة»،‭ ‬بعد‭ ‬تصاعد‭ ‬وثيرة‭ ‬الإضرابات‭ ‬العمالية،‭ ‬وبروز‭ ‬حركة‭ ‬الشباب‭ ‬المعطلين‭ ‬وخروجها‭ ‬للتظاهر‭ ‬في‭ ‬الشارع‭ ‬العام،‭ ‬فضلا‭ ‬عن‭ ‬تفاقم‭ ‬الوضع‭ ‬الحقوقي،‭ ‬وعودة‭ ‬المطالب‭ ‬السياسية‭ ‬بإصلاح‭ ‬منظومة‭ ‬الحكم‭ ‬والمراجعة‭ ‬الدستورية،‭ ‬فكلها‭ ‬عوامل‭ ‬ساهمت‭ ‬بهذا‭ ‬القدر‭ ‬أو‭ ‬ذاك‭ ‬في‭ ‬التسريع‭ ‬بإيجاد‭ ‬صيغ‭ ‬لنوع‭ ‬من‭ ‬الحوار‭ ‬والتداول‭ ‬بشأن‭ ‬الحلول‭ ‬الممكنة‭ ‬لبعض‭ ‬المعضلات‭ ‬التي‭ ‬باتت‭ ‬تهدد‭ ‬استقرار‭ ‬منظومة‭ ‬الحكم،‭ ‬لاسيما‭ ‬بعد‭ ‬المخلفات‭ ‬الكارثية‭ ‬لبرنامج‭ ‬التقويم‭ ‬الهيكلي‭ ‬P.A.S (1983-1993)‭ ‬الذي‭ ‬فرضه‭ ‬صندوق‭ ‬النقد‭ ‬الدولي‭ ‬FMI‭ ‬على‭ ‬المغرب،‭ ‬إثر‭ ‬الاختلالات‭ ‬الهيكلية‭ ‬التي‭ ‬عرفها‭ ‬الوضع‭ ‬الاقتصادي‭ ‬والمالي‭ ‬والنقدي‭ ‬للبلاد‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬المرحلة‭ ‬واستمرت‭ ‬آثاره‭ ‬المدمرة‭  ‬لعدة‭ ‬سنوات‭.‬
•‭ ‬المجلس‭ ‬الاستشاري‭ ‬لحقوق‭ ‬الإنسان:‭ ‬من‭ ‬الوجود‭ ‬بالقوة‭ ‬الى‭ ‬الوجود‭ ‬بالفعل
وعلى‭ ‬المستوى‭ ‬الحقوقي،‭ ‬شكل‭ ‬تأسيس‭ ‬المجلس‭ ‬الاستشاري‭ ‬لحقوق‭ ‬الإنسان‭ ‬سنة‭ ‬1990‭ ‬محطة‭ ‬هامة‭ ‬ضمن‭ ‬التحولات‭ ‬اللاحقة‭ ‬التي‭ ‬شهدتها‭ ‬بلادنا‭ ‬في‭ ‬المراحل‭ ‬اللاحقة‭ ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬السياق‭ ‬الخاص‭ ‬لإنشائه‭ ‬كان‭ ‬هو‭ ‬«غسل‭ ‬وجه‭ ‬المغرب»‭ ‬حسب‭ ‬تعبير‭ ‬الملك‭ ‬الراحل‭ ‬الحسن‭ ‬الثاني‭ ‬في‭  ‬خطاب‭ ‬تنصيب‭ ‬الأعضاء‭ ‬في‭ ‬8‭ ‬ماي‭ ‬1990،‭ ‬فقد‭ ‬ضاق‭ ‬الملك‭ ‬درعا‭ ‬بتقارير‭ ‬المنظمات‭ ‬الدولية‭ ‬غير‭ ‬الحكومية‭ ‬حول‭  ‬تدهور‭ ‬أوضاع‭ ‬حقوق‭ ‬الإنسان‭ ‬بالمغرب‭ ‬ولاسيما‭ ‬أوضاع‭ ‬المعتقلين‭ ‬السياسيين،‭ ‬سواء‭ ‬في‭ ‬السجون‭ ‬النظامية،‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬المعتقلات‭ ‬السرية‭ ‬(تازمامرت،‭ ‬أكدز،‭ ‬قلعة‭ ‬مكونة)‭. ‬
لقد‭ ‬كانت‭ ‬الدولة‭ ‬آنذاك‭ ‬تنازع‭ ‬في‭ ‬وجود‭ ‬معتقلين‭ ‬سياسيين،‭ ‬كما‭ ‬نفت‭ ‬وجود‭ ‬معتقلات‭ ‬سرية،‭ ‬حيث‭ ‬أُرٍيدَ‭ ‬للمجلس‭ ‬الاستشاري‭ ‬لحقوق‭ ‬الإنسان‭ ‬أن‭ ‬يلعب‭ ‬دورا‭ ‬لتفنيد‭ ‬تقارير‭ ‬تلك‭ ‬المنظمات‭ ‬ولاسيما‭ ‬منظمة‭ ‬العفو‭ ‬الدولية‭ ‬التي‭ ‬وردت‭ ‬حصرا‭ ‬في‭ ‬خطاب‭ ‬الملك‭ ‬الراحل‭ ‬السالف‭ ‬الذكر‭.‬
لكن‭ ‬ينبغي‭ ‬الإشارة‭ ‬بالمقابل‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬نفس‭ ‬الخطاب‭ ‬حمل‭ ‬إشارات‭ ‬أخرى‭ ‬لما‭ ‬كان‭ ‬منتظرا‭ ‬من‭ ‬المجلس‭ ‬أن‭ ‬يقوم‭ ‬به‭ ‬من‭ ‬أدوار،‭ ‬ولاسيما‭ ‬منها‭ ‬العمل‭ ‬على‭ ‬استكمال‭ ‬بناء‭ ‬دولة‭ ‬القانون: «التي‭  ‬نريد‭ ‬قبل‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬أن‭ ‬نضع‭ ‬حدا‭ ‬للقيل‭ ‬والقال‭ ‬فيما‭ ‬يخص‭ ‬حقوق‭ ‬الإنسان‭ ‬كي‭ ‬ننهي‭ ‬هذه‭ ‬المسألة،‭ ... ‬ولإعطاء‭ ‬المواطنين‭ ‬الوسيلة‭ ‬القانونية‭ ‬والسريعة‭ ‬والجدية‭ ‬وذات‭ ‬الفعالية‭ ‬للدفاع‭ ‬عن‭  ‬حقوقهم‭ ‬كمواطنين‭ ‬إزاء‭ ‬الإدارة‭ ‬أو‭ ‬السلطة‭ ‬أو‭ ‬الدولة‭ ‬نفسها»،‭ ‬كما‭ ‬جاء‭ ‬في‭ ‬خطاب‭ ‬الملك‭ ‬الراحل‭ ‬الحسن‭ ‬الثاني‭ ‬الذي‭ ‬ناشد‭ ‬أعضاء‭ ‬المجلس‭ ‬بأن‭ ‬يكونوا‭ ‬عونا‭ ‬له‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬«إرجاع‭ ‬الحق‭ ‬لمن‭ ‬اغتصب‭ ‬منه‭... ‬وأن‭ ‬نرفع‭ ‬جميعا‭ ‬هذا‭ ‬البلد‭ ‬إلى‭ ‬مستوى‭ ‬الدول‭ ‬المتحضرة،‭ ‬دولة‭ ‬القانون‭. ‬وأناشدكم‭ ‬أخيرا‭ ‬أن‭ ‬تكونوا‭ ‬حقيقة‭ ‬أنتم‭ ‬المدافعون،‭ ‬إيجابيا‭ ‬أو‭ ‬سلبيا‭. ‬إيجابيا‭ ‬أن‭ ‬تقولوا:‭ ‬نعم‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الملف‭ ‬خرقت‭ ‬حقوق‭ ‬الإنسان،‭ ‬أو‭ ‬سلبيا‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الملف‭ ‬لا‭ ‬خرق‭ ‬لحقوق‭ ‬الإنسان،‭ ‬وإنما‭ ‬هذا‭ ‬كذب‭ ‬وتلفيق‭ ‬وزور»‭.‬
 
آلية للانتصاف
 
فتأسيس‭ ‬المجلس‭ ‬الاستشاري‭ ‬لحقوق‭ ‬الإنسان‭ ‬كرس‭ ‬ما‭ ‬بات‭ ‬يعرف‭ ‬بآلية‭ ‬الانتصاف،‭ ‬شأنه‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬شأن‭ ‬ديوان‭ ‬المظالم‭ ‬الذي‭ ‬أحدث‭ ‬في‭ ‬9‭ ‬دجنبر‭ ‬2001،‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يتحول‭ ‬إلى‭ ‬مؤسسة‭ ‬«وسيط‭ ‬المملكة»‭ ‬بمقتضى‭ ‬الظهير‭ ‬الصادر‭ ‬في‭ ‬17‭ ‬مارس‭ ‬2011‭ ‬وليعوض‭ ‬بالقانون‭ ‬رقم‭ ‬14.16‭ ‬الصادر‭ ‬في‭ ‬فاتح‭ ‬يونيو‭ ‬2019‭. ‬
وبذلك‭ ‬أسندت‭ ‬وظيفة‭ ‬جديدة‭ ‬للهيئات‭ ‬الاستشارية‭ ‬وهي‭ ‬وظيفة‭ ‬حماية‭ ‬الحقوق‭ ‬والحريات،‭ ‬التي‭ ‬ستجد‭ ‬سندا‭ ‬مرجعيا‭ ‬دوليا‭ ‬لها‭ ‬في‭ ‬مبادئ‭ ‬باريس‭ ‬سنة‭ ‬1993،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬كان‭ ‬المؤتمر‭ ‬الدولي‭ ‬حول‭ ‬حقوق‭ ‬الإنسان‭ ‬بالعاصمة‭ ‬النمساوية‭ ‬فيينا‭ ‬في‭ ‬نفس‭ ‬السنة،‭ ‬وتحت‭ ‬إشراف‭ ‬الأمم‭ ‬المتحدة،‭ ‬قد‭ ‬وضع‭ ‬هندسة‭ ‬جديدة‭ ‬لمنظومة‭ ‬حقوق‭ ‬الإنسان‭ ‬وخريطة‭ ‬طريق‭ ‬تحت‭ ‬عنوان: «إعلان‭ ‬وبرنامج‭ ‬عمل‭ ‬فيينا»‭.‬
لقد‭ ‬سلطت‭ ‬شهادة‭ ‬الأستاذ‭ ‬النقيب‭ ‬محمد‭ ‬الصديقي‭ ‬الضوء‭ ‬على‭ ‬الأجواء‭ ‬التي‭ ‬ميزت‭ ‬أشغال‭ ‬أولى‭ ‬دورات‭ ‬المجلس‭ ‬الاستشاري‭ ‬لحقوق‭ ‬الإنسان‭ ‬وسعي‭ ‬بعض‭ ‬الأطراف‭ ‬النافدة‭ ‬إلى‭ ‬حصر‭ ‬دوره‭ ‬في‭ ‬مهمة‭ ‬«الغسل»‭ ‬أو‭ ‬«تبييض»‭ ‬لوجه‭ ‬الدولة‭ ‬في‭ ‬مواجهة‭ ‬الخارج،‭ ‬في‭ ‬المقابل‭ ‬كانت‭ ‬هناك‭ ‬مواقف،‭ ‬حتى‭ ‬وإن‭ ‬كانت‭ ‬تعبر‭ ‬عن‭ ‬رأي‭ ‬أقلية‭ ‬(ويتعلق‭ ‬الأمر‭ ‬بالموقف‭ ‬الذي‭ ‬عبرت‭ ‬عنه‭ ‬المنظمة‭ ‬المغربية‭ ‬لحقوق‭ ‬الإنسان‭ ‬ممثلة‭ ‬بالأستاذ‭ ‬محمد‭ ‬الصديقي)،‭ ‬فإنها‭ ‬استطاعت‭ ‬تغيير‭ ‬مجرى‭ ‬الأمور‭.‬
يُورِد‭ ‬أذ‭. ‬الصديقي‭ ‬في‭ ‬شهاداته‭ ‬هاته‭ ‬أنه:‭ ‬في‭ ‬«اليوم‭ ‬الموالي‭ ‬أي‭ ‬29‭ ‬يونيو‭ ‬1990‭ ‬بادرت‭ ‬رئاسة‭ ‬المجلس‭ ‬إلى‭ ‬تلاوة‭ ‬نص‭ ‬مشروع‭   ‬توصية،‭ ‬اعتبرتها‭ ‬كأنها‭ ‬خلاصة‭ ‬لدراسة‭ ‬النقطة‭ ‬المحددة‭ ‬في‭ ‬جدول‭ ‬الأعمال‭ ‬وعلى‭ ‬أساس‭ ‬أن‭ ‬الموضوع‭ ‬استوفى‭ ‬كل‭ ‬عناصر‭ ‬البحث‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬أن‭ ‬الأمر‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬كذلك‭. ‬وما‭ ‬كان‭ ‬مثيرا‭ ‬للاستغراب‭ ‬أكثر‭ ‬–‭ ‬يقول‭ ‬الأستاذ‭ ‬الصديقي-‭ ‬هو: «أن‭ ‬الفقرة‭ ‬الرئيسية‭ ‬في‭ ‬مشروع‭ ‬التوصية‭ ‬تضمنت‭ ‬إعلانا‭ ‬لموقف‭ ‬حاسم‭ ‬في‭ ‬موضوع‭ ‬الاعتقال‭ ‬السياسي،‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬التأكيد‭ ‬على‭ ‬أنه‭ ‬لا‭ ‬وجود‭ ‬لأي‭ ‬معتقل‭ ‬سياسي‭ ‬في‭ ‬المغرب،‭ ‬وأن‭ ‬سجون‭ ‬البلاد‭ ‬خالية‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬النوع‭ ‬من‭ ‬المعتقلين،‭ ‬والحال‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬الموضوع‭ ‬لم‭ ‬نتناوله‭ ‬بالدراسة،‭ ‬ولم‭ ‬تجرى‭ ‬مناقشته‭ ‬من‭ ‬طرف‭ ‬المجلس‭ ‬طوال‭ ‬اليومين‭ ‬المخصصين‭ ‬للاجتماع»‭.‬ واعتبر‭ ‬أذ‭. ‬الصديقي‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬الأمر‭ ‬كان‭ ‬مجرد‭ ‬«مناورة‭ ‬كادت‭ ‬أن‭ ‬تعصف‭ ‬بالمشروع»،‭ ‬ويقصد‭ ‬بذلك‭ ‬مشروع‭ ‬المرحوم‭ ‬الحسن‭ ‬الثاني‭ ‬بإحداث‭ ‬المجلس‭ ‬الاستشاري‭ ‬لحقوق‭ ‬الإنسان‭ ‬بالوظائف‭ ‬التي‭ ‬حددها‭ ‬له‭ ‬في‭  ‬خطابه،‭ ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬تمرير‭ ‬هذه‭ ‬التوصية‭ ‬كان‭ ‬سيؤدي‭ ‬إلى‭ ‬انسحاب‭ ‬المنظمة‭ ‬المغربية‭ ‬لحقوق‭ ‬الإنسان‭ ‬من‭ ‬المجلس‭ ‬مع‭ ‬ما‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يتبع‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬انسحابات‭ ‬أخرى‭ ‬محتملة‭ ‬وفق‭  ‬شهادة‭ ‬أذ‭. ‬الصديقي،‭ ‬لكن‭ ‬فطنة‭ ‬المستشار‭ ‬الملكي‭ ‬أحمد‭ ‬رضا‭ ‬آكديرة‭ ‬
آنذاك‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬طلب‭ ‬رفع‭ ‬الجلسة‭ ‬وتأجيل‭ ‬الاجتماع‭ ‬أدت‭ ‬عمليا‭ ‬إلى‭ ‬إفشال‭ ‬تلك‭ ‬المناورة،‭ ‬إذ‭ ‬عند‭ ‬استئناف‭ ‬أشغال‭ ‬الدورة‭ ‬من‭ ‬6‭ ‬إلى‭ ‬12‭ ‬يوليوز‭ ‬1990 «لم‭ ‬يتم‭ ‬فقط‭ ‬تجاوز‭ ‬التوصية‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تُنكر‭ ‬وجود‭  ‬المعتقلين‭ ‬السياسيين‭ ‬في‭ ‬البلاد،‭ ‬والاتفاق‭ ‬على‭ ‬تكوين‭ ‬مجموعة‭ ‬عمل‭.. ‬وإنما‭ ‬تحولت‭ ‬كذلك‭ ‬إلى‭ ‬منبر‭ ‬للتداول‭ ‬في‭ ‬ضرورة‭ ‬معالجة‭ ‬قضايا‭ ‬الاعتقال‭ ‬السياسي‭ ‬في‭ ‬مجملها»‭. ‬
 
توجه إصلاحي ومكتسبات
 
إن‭ ‬هذا‭ ‬التوجه‭ ‬الإصلاحي‭ ‬هو‭ ‬الذي‭ ‬مكن‭ ‬من‭ ‬تحقيق‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬المكتسبات‭ ‬من‭ ‬قبيل‭ ‬مجمل‭  ‬الإجراءات‭ ‬والقرارات‭ ‬الهامة‭ ‬اللاحقة‭ ‬والتي‭ ‬شملت‭ ‬بالأساس‭ ‬مراجعة‭ ‬التشريع‭ ‬الجنائي‭ ‬والسجني‭ ‬والشروع‭ ‬في‭ ‬معالجة‭ ‬ملفات‭  ‬المعتقلين‭ ‬السياسيين‭ ‬والمنفيين‭ ‬وضحايا‭ ‬الاختفاء‭ ‬القسري،‭ ‬وصولا‭ ‬إلى‭ ‬عمل‭ ‬هيئة‭ ‬التحكيم‭  ‬المستقلة‭ ‬(غشت‭ ‬1999-‭ ‬نونبر‭ ‬2003)‭  ‬وهيئة‭ ‬الانصاف‭ ‬والمصالحة‭ ‬(يناير‭ ‬2004-‭ ‬دجنبر‭ ‬2005)‭ ‬،‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬ما‭ ‬يستفاد‭ ‬من‭ ‬شهادة‭ ‬الأستاذ‭ ‬الصديقي‭ ‬الذي‭ ‬أضاف‭ ‬أنه‭ ‬بين‭ ‬التوجه‭ ‬الرامي‭ ‬إلى‭ ‬جعل‭ ‬المؤسسات‭ ‬مجرد‭ ‬واجهة»‭ ‬تبيض‭ ‬وجه‭ ‬الدولة»،‭ ‬وبين‭ ‬التوجه‭ ‬الرافض‭ ‬للعمل‭ ‬من‭ ‬داخل‭ ‬المؤسسات،‭ ‬كان‭ ‬هذا‭ ‬التوجه‭ ‬الإصلاحي‭ ‬هو‭ ‬عنصر‭ ‬التوازن‭ ‬الذي‭ ‬حقق‭ ‬للمؤسسة‭ ‬(المجلس‭ ‬الاستشاري‭ ‬لحقوق‭ ‬الانسان)‭ ‬مشروعية‭ ‬الإنجاز‭ .‬
 
معركة الاختفاء القسري
 
إذا‭ ‬شكلت‭ ‬لحظة‭ ‬انعقاد‭ ‬الدورة‭ ‬الأولى‭ ‬للمجلس‭ ‬الاستشاري‭ ‬لحقوق‭ ‬الإنسان،‭ ‬امتحانا‭ ‬حقيقيا‭ ‬للأستاذ‭ ‬محمد‭ ‬الصديقي‭ ‬وطبعت‭ ‬مساره‭ ‬الحقوقي،‭ ‬وجعلت‭ ‬رصيده‭ ‬من‭ ‬المصداقية‭ ‬والنزاهة‭ ‬الفكرية‭ ‬والجدية‭ ‬يتعزز،‭ ‬فإن‭ ‬لحظة‭ ‬أخرى‭ ‬ضمن‭ ‬هذا‭ ‬المسار‭ ‬كانت‭ ‬بغير‭ ‬قليل‭ ‬من‭ ‬الصعوبة‭ ‬والتعقيد،‭ ‬ويتعلق‭ ‬الأمر‭ ‬بدورة‭ ‬أبريل‭ ‬1999‭ ‬للمجلس‭ ‬استشاري‭ ‬لحقوق‭ ‬الإنسان‭ ‬والتي‭ ‬كان‭ ‬ضمن‭ ‬جدول‭ ‬أعمالها،‭ ‬المصادقة‭ ‬على‭ ‬توصية‭ ‬مرفوعة‭ ‬للملك‭ ‬بشأن‭ ‬الاختفاء‭ ‬القسري»‭ ‬وهي‭ ‬كما‭ ‬وضعها‭ ‬أذ‭. ‬الصديقي،‭ ‬تتشكل‭ ‬من‭ ‬محورين:
«المحور‭ ‬الأول،‭ ‬هو‭ ‬الإقرار‭ ‬بوجود‭ ‬هذه‭ ‬الحالات،‭ ‬حالات‭ ‬الاختفاء‭ ‬القسري،‭ ‬المحصورة‭ ‬في‭ ‬112‭ ‬من‭ ‬جهة،‭ ‬والإقرار‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬أخرى‭ ‬بأن‭ ‬هذا‭ ‬الاختفاء‭ ‬القسري‭ ‬تعود‭ ‬المسؤولية‭ ‬فيه‭ ‬إلى‭ ‬الدولة‭ ‬المغربية‭ ‬وإلى‭ ‬أجهزتها‭ ‬وإلى‭ ‬أعوانها؛
المحور‭ ‬الثاني،‭ ‬هو‭ ‬طلب‭ ‬المجلس‭ ‬من‭ ‬الملك‭ ‬المصادقة‭ ‬على‭ ‬إحداث‭ ‬هيئة‭ ‬مستقلة‭ ‬بجانب‭ ‬المجلس،‭ ‬يعهد‭ ‬إليها‭ ‬بمهمة‭ ‬التعويض‭ ‬لضحايا‭ ‬الاختفاء‭ ‬القسري،‭ ‬سواء‭ ‬من‭ ‬كان‭ ‬منهم‭ ‬على‭ ‬قيد‭ ‬الحياة‭ ‬أو‭ ‬لذوي‭ ‬حقوقهم‭ ‬بالنسبة‭ ‬للذين‭ ‬توفوا‭ ‬منهم»‭.‬
لم‭ ‬يكن‭ ‬قرار‭ ‬موافقة‭ ‬المنظمة‭ ‬المغربية‭ ‬لحقوق‭ ‬الإنسان،‭ ‬ممثلة‭ ‬بالأستاذ‭ ‬محمد‭ ‬الصديقي،‭ ‬قرارا‭ ‬سهلا،‭ ‬حيث‭ ‬كان‭ ‬كل‭ ‬أعضاء‭ ‬المجلس‭ ‬الاستشاري‭ ‬لحقوق‭ ‬الإنسان‭ ‬قد‭ ‬حسموا‭ ‬أمرهم‭ ‬بتأييد‭ ‬التوصية،‭ ‬في‭ ‬المقابل‭ ‬كانت‭ ‬الأصوات‭ ‬المناهضة‭ ‬لها‭ ‬تتعالى‭ ‬وتتزايد‭ ‬لاسيما‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬ضحايا‭ ‬الانتهاكات‭ ‬الجسيمة‭ ‬لحقوق‭ ‬الإنسان‭ ‬الذين‭ ‬انتظموا‭ ‬في‭ ‬إطار‭ ‬المنتدى‭ ‬المغربي‭ ‬للحقيقة‭ ‬والإنصاف‭ ‬والذي‭ ‬سطر‭ ‬ضمن‭ ‬أهدافه‭ ‬خلال‭ ‬مؤتمره‭ ‬التأسيسي‭ ‬في‭ ‬نونبر‭ ‬1999،‭ ‬المطالبة‭ ‬بإحداث‭ ‬«هيأة‭ ‬وطنية‭ ‬لإجلاء‭ ‬الحقيقة‭ ‬بشأن‭ ‬كل‭ ‬الانتهاكات‭ ‬الجسيمة‭ ‬لحقوق‭ ‬الإنسان‭ ‬ورفض‭ ‬المقاربة‭ ‬المعتمدة‭ ‬فقط‭ ‬على‭ ‬«التعويض‭ ‬المادي»‭ ‬للضحايا‭ ‬وذوي‭ ‬حقوقهم‭. ‬وبين‭ ‬الموقفين‭ ‬المؤيد‭ ‬والرافض‭ ‬للتوصية‭.‬
وكان‭ ‬أذ‭. ‬الصديقي‭ ‬في‭ ‬وضع‭ ‬حرج‭ ‬وجاء‭ ‬في‭ ‬شهادته: «‭... ‬لا‭ ‬أخفي‭ ‬عنكم‭ ‬أني‭ ‬كنت‭ ‬في‭ ‬وضعية‭ ‬صعبة،‭ ‬جد‭ ‬صعبة،‭ ‬كان‭ ‬الوقت‭ ‬مساءا‭ ‬من‭ ‬يوم‭ ‬ثاني‭ ‬أبريل‭ ‬سنة‭ ‬1999‭ ‬وكنت‭ ‬أقدر‭ ‬جسامة‭ ‬المسؤولية‭ ‬الملقاة‭ ‬على‭ ‬عاتقي،‭ ‬كنت‭ ‬أوازن‭ ‬بين‭ ‬ما‭ ‬أراه‭ ‬أمامي‭ ‬من‭ ‬استعداد‭ ‬جميع‭ ‬أعضاء‭ ‬المجلس‭ ‬للإمضاء‭ ‬وما‭ ‬يخالجني‭ ‬من‭ ‬مساءلة:‭ ‬هل‭ ‬من‭ ‬حقي‭ ‬أن‭ ‬أوقع‭ ‬كذلك‭ ‬على‭ ‬هذه‭ ‬التوصية‭ ‬أم‭ ‬من‭ ‬واجبي‭ ‬ومن‭ ‬مسؤولياتي‭ ‬أن‭ ‬أرفض؟‭ ‬وعشت‭ ‬ساعتين‭ ‬ممزقا‭ ‬بين‭ ‬شطري‭ ‬هذا‭ ‬السؤال‭.‬
ولكن‭ ‬الموازنة‭ ‬التي‭ ‬قمت‭ ‬بها،‭ ‬من‭ ‬جهة،‭ ‬بين‭ ‬شخصي‭ ‬كإنسان‭ ‬في‭ ‬مواجهة‭ ‬بقية‭ ‬الأعضاء‭ ‬المستعدين‭ ‬جميعهم‭ ‬للتوقيع،‭ ‬ثم،‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬أخرى،‭ ‬مع‭ ‬المرحلة‭ ‬التي‭ ‬يعيشها‭ ‬المغرب‭ ‬«ونحن‭ ‬في‭ ‬قلب‭ ‬مرحلة‭ ‬التناوب»‭ ‬وإمكانية‭ ‬أن‭ ‬تخلق‭ ‬هذه‭ ‬التوصية‭ ‬ديناميكية‭ ‬فعالة‭ ‬لمعالجة‭ ‬إشكالية‭ ‬الاختفاء‭ ‬القسري،‭ ‬ومن‭ ‬خلالها‭ ‬معالجة‭ ‬باقي‭ ‬القضايا‭ ‬المتعلقة‭ ‬بالانتهاكات‭... ‬كما‭ ‬تراءت‭ ‬لي‭ ‬النتائج‭ ‬المحتملة‭ ‬التي‭ ‬قد‭ ‬تترتب‭ ‬من‭ ‬رفض‭ ‬التوقيع‭ ‬عليها‭... ‬كنت‭ ‬على‭ ‬يقين‭ ‬تام‭ ‬بأن‭ ‬رفض‭ ‬عضو‭ ‬واحد‭ ‬التوقيع‭ ‬سيؤدي‭ ‬إلى‭ ‬إيقاف‭ ‬العملية‭... ‬عملية‭ ‬معالجة‭ ‬الملف‭ ‬برمته‭ ‬ثم‭ ‬حفظه‭ ‬على‭ ‬الرف‭ ‬بدلا‭ ‬من‭ ‬الدخول‭ ‬إلى‭ ‬مرحلة‭ ‬جديدة‭ ‬تستمر‭ ‬فيها‭ ‬المطالب‭ ‬وتتعزز‭ ‬فيها‭ ‬مكتسبات‭ ‬القوى‭ ‬الحقوقية،‭ ‬وقررت‭ ‬في‭ ‬الساعة‭ ‬الأخيرة‭ ‬من‭ ‬مساء‭ ‬ذلك‭ ‬اليوم‭ ‬أن‭ ‬أوقع‭ ‬على‭ ‬التوصية‭...‬
 
من هيئة التحكيم الى الإنصاف والمصالحة
 
مساهمة‭ ‬أذ‭. ‬الصديقي‭ ‬في‭ ‬تجربة‭ ‬«هيئة‭ ‬التحكيم‭ ‬المستقلة‭ ‬للتعويض»‭ ‬والتي‭ ‬امتد‭ ‬عملها‭ ‬من‭ ‬1999‭ ‬الى‭ ‬2003،‭ ‬عززت‭ ‬قناعته‭ ‬بأهمية‭ ‬وجدوى‭ ‬وصواب‭ ‬قراره‭ ‬بالموافقة‭ ‬على‭ ‬توصية‭ ‬المجلس‭ ‬الاستشاري‭ ‬لحقوق‭ ‬الإنسان‭ ‬(توصيه‭ ‬2‭ ‬أبريل‭ ‬1999)،‮ ‬‭ ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬المجهود‭ ‬الذي‭ ‬بذله‭ ‬المؤلف‭ ‬في‭ ‬توثيق‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬الأحداث‭ ‬والوقائع،‭ ‬لا‭ ‬يشير‭ ‬الى‭ ‬السياق‭ ‬الذي‭ ‬واكب‭ ‬عمل‭ ‬هذه‭ ‬الهيئة‭ ‬ولا‭ ‬سيما‭ ‬بروز‭ ‬«فاعلين‭ ‬جدد»،‭ ‬واخص‭ ‬بالذكر‭ ‬المرحوم‭ ‬إدريس‭ ‬بنزكري‭ ‬والأدوار‭ ‬الطلائعية‭ ‬التي‭ ‬اطلع‭ ‬بها‭ ‬في‭ ‬قيادة‭ ‬المنتدى‭ ‬المغربي‭ ‬للحقيقة‭ ‬والإنصاف،‭ ‬وكذا‭ ‬دوره‭ ‬المحوري‭ ‬في‭ ‬تنظيم‭ ‬المناظرة‭ ‬الوطنية‭ ‬الأولى‭ ‬حول‭ ‬الانتهاكات‭ ‬الجسيمة‭ ‬لحقوق‭ ‬الإنسان‭ ‬بالمغرب‭ ‬في‭ ‬إطار‭ ‬عمل‭ ‬مشترك‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬الجمعية‭ ‬المغربية‭ ‬لحقوق‭ ‬الإنسان‭ ‬والمنظمة‭ ‬المغربية‭ ‬لحقوق‭ ‬الإنسان،‭ ‬والمنتدى‭ ‬المغربي‭ ‬للحقيقة‭ ‬والإنصاف‭ ‬(نونبر‭ ‬2001)،‭ ‬والتي‭ ‬كانت‭ ‬إحدى‭ ‬توصياتها‭ ‬الأساسية‭ ‬«تشكيل‭ ‬هيئة‭ ‬وطنية‭ ‬للحقيقة»‭ ‬يغطى‭ ‬عملها‭ ‬العقود‭ ‬الأربعة‭ ‬التي‭ ‬تلت‭ ‬الاستقلال‭ ‬(1956-1999)‭ ‬وحددت‭ ‬لها‭ ‬أربعة‭ ‬أهداف:
1‭. ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬الوقائع‭ ‬والأحداث‭ ‬وملابسات‭ ‬ارتكاب‭ ‬تلك‭ ‬الانتهاكات‭ ‬الجسيمة،
2‭.‬‮ ‬‭ ‬التحقيق‭ ‬والتثبيت‭ ‬من‭ ‬مصادر‭ ‬هذه‭ ‬الانتهاكات‭ ‬وتحديد‭ ‬المسؤوليات‭ ‬وإصدار‭ ‬التوصيات‭ ‬بشأنها،
3‭. ‬إعداد‭ ‬تقرير‭ ‬بشأن‭ ‬أشغال‭ ‬ونتائج‭ ‬الهيئة‭ ‬ونشره‭.‬
4‭.‬‮ ‬‭ ‬إعداد‭ ‬توصيات‭ ‬بشأن‭ ‬التدابير‭ ‬والإجراءات‭ ‬المتعين‭ ‬اتخاذها‭ ‬لجبر‭ ‬الأضرار‭ ‬ورد‭ ‬الاعتبار‭ ‬للمجتمع‭ ‬وحفظ‭ ‬ذاكرته،‭ ‬وكذا‭ ‬بشأن‭ ‬الإصلاحات‭ ‬المؤسساتية‭ ‬والتشريعية‭ ‬والتربوية‭ ‬والثقافية‭ ‬والإعلامية‭ ‬والحمائية‭ ‬لتفادي‭ ‬تكرار‭ ‬ما‭ ‬حدث‭ ‬في‭ ‬الماضي‭.‬
‮ ‬هذه‭ ‬الأهداف‭ ‬هي‭ ‬التي‭ ‬ستشكل‭ ‬أرضية‭ ‬الحوار‭ ‬الذي‭ ‬تم‭ ‬بين‭ ‬المرحوم‭ ‬بنزكري‭ ‬ورفاقه‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬وممثلي‭ ‬الدولة‭ ‬وسينتهي‭ ‬صدور‭ ‬توصية‭ ‬من‭ ‬المجلس‭ ‬الاستشاري‭ ‬لحقوق‭ ‬الإنسان‭ ‬في‭ ‬14‭ ‬أكتوبر‭ ‬2003‭ ‬بشأن‭ ‬«إحداث‭ ‬هيئة‭ ‬الإنصاف‭ ‬والمصالحة»،‭ ‬وتتضمن‭ ‬تلك‭ ‬التوصية‭ ‬نفس‭ ‬الأهداف‭ ‬الواردة‭ ‬في‭ ‬توصية‭ ‬المناظرة‭ ‬الوطنية‭ ‬السالفة‭ ‬الذكر‭ ‬وبعدها‭ ‬في‭ ‬يناير‭ ‬2004‭ ‬سيعين‭ ‬المرحوم‭ ‬ادريس‭ ‬بن‭ ‬زكري‭ ‬رئيسا‭ ‬لهيئة‭ ‬الإنصاف‭ ‬والمصالحة،‮ ‬التي‭ ‬سينتهي‭ ‬عملها‭ ‬في‭ ‬مطلع‭ ‬2006‭ ‬بتقديم‭ ‬تقريرها‭ ‬النهائي‭ ‬الى‭ ‬الملك‭.‬
بالعودة‭ ‬إلى‭ ‬كتاب‭ ‬أذ‭. ‬الصديقي،‭ ‬وعلى‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬الاختلاف‭ ‬الواضح‭ ‬بين‭ ‬تجربة‭ ‬«هيئة‭ ‬التحكيم‭ ‬المستقلة»‭ ‬وتجربة‭ ‬«هيئة‭ ‬الإنصاف‭ ‬والمصالحة»،‭ ‬والتي‭ ‬أبرزت‭ ‬أحد‭ ‬جوانبها‭ ‬الأساسية‭. ‬نجد‭ ‬أن‭ ‬أذ‭. ‬الصديقي‭ ‬يعتبر‭ ‬أن‭ ‬«هيئة‭ ‬الإنصاف‭ ‬والمصالحة»‭...‬،‭ ‬«إنما‭ ‬هي‭ ‬استمرار‭ ‬لهيئة‭ ‬التحكيم‭ ‬في‭ ‬منطلقها‭ ‬وفي‭ ‬هدفها‭ ‬كذلك‭.‬
المنطلق‭ ‬هو‭ ‬العمل‭ ‬على‭ ‬طي‭ ‬صفحة‭ ‬الماضي‭ ‬ومعالجة‭ ‬ملف‭ ‬الانتهاكات‭ ‬الجسيمة‭ ‬التي‭ ‬عرفها‭ ‬هذا‭ ‬الماضي‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬حقوق‭ ‬الإنسان،‭ ‬والهدف‭ ‬هو‭ ‬الكشف‭ ‬عن‭ ‬الحقيقة‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬جرى‭ ‬بإجراء‭ ‬التحريات‭ ‬وتلقي‭ ‬الإفادات‭ ‬والاطلاع‭ ‬على‭ ‬الأرشيفات الرسمية‭ ‬واستقصاء‭ ‬المعطيات‭ ‬التي‭ ‬توفرها‭ ‬أي‭ ‬جهة…‭ ‬واضافة‭ ‬الى‭ ‬ذلك‭ ‬فإن‭ ‬هيئة‭ ‬الإنصاف‭ ‬والمصالحة،‭ ‬كان‭ ‬مطلوبا‭ ‬منها‭ ‬أن‭ ‬تعد‭ ‬في‭ ‬نهاية‭ ‬أشغالها‭ ‬تقريرا‭ ‬عن‭ ‬أشغالها‭ ‬رسميا‭ ‬يتضمن‭ ‬تحليل‭ ‬الانتهاكات‭ ‬والظروف‭ ‬التي‭ ‬جرت‭ ‬فيها‭ ‬وآثارها‭ ‬بدون‭ ‬أي‭ ‬ذكر‭ ‬أو‭ ‬تعويض‭ ‬للأفراد‭ ‬المسؤولين‭ ‬عنها‭. ‬
وهنا‭ ‬تلتقي‭ ‬التوصية‭ ‬المتعلقة‭ ‬بإحداث‭ ‬«هيئة الإنصاف‭ ‬والمصالحة»‮ ‬مع‭ ‬التوصية‭ ‬الصادرة‭ ‬في‭ ‬2‭ ‬أبريل‭ ‬1999،‭ ‬فلا‭ ‬فرق‭ ‬إذا‭ ‬في‭ ‬العمق‭ ‬بين‭ ‬هذه‭ ‬التوصية‭ ‬ومثيلتها‭ ‬التي‭ ‬على‭ ‬أساسها‭ ‬جرى‭ ‬إنشاء‭ ‬«هيئة‭ ‬الإنصاف‭ ‬والمصالحة»‭ ‬مادام‭ ‬قد‭ ‬تم‭ ‬التنصيص‭ ‬ضمن‭ ‬الاهداف‭ ‬المحددة‭ ‬لهذه‭ ‬الأخيرة‭ ‬كذلك‭ ‬على‭ ‬انه‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬لها‭ ‬مسائلة‭ ‬أو‭ ‬إجراء‭ ‬أي‭ ‬متابعة‭ ‬ضد‭ ‬الأشخاص‭ ‬المسؤولين،‮ ‬هناك‭ ‬فقط‭ ‬مسؤولية‭ ‬الدولة‭ ‬والاكتفاء‭ ‬فقط‭ ‬بالإشارة‭ ‬إلى‭ ‬مسؤولية‭ ‬الدولة‭. ‬
 
 ما بين التراكم والترصيد والقطيعة
 
في‭ ‬مقابل‭ ‬رؤية‭ ‬أذ‭. ‬الصديقي‭ ‬لعمل‭ ‬هيئتي‭ ‬«التحكيم»‭ ‬و»الإنصاف‭ ‬والمصالحة»‭ ‬من‭ ‬زاوية‭ ‬التراكم‭ ‬والترصيد‭ ‬وليس‭ ‬من‭ ‬زاوية‭ ‬القطيعة،‮ ‬يطلعنا‭ ‬أذ‭. ‬الصديقي‭ ‬عن‭ ‬موقفه‭ ‬من‭ ‬أحد‭ ‬أهم‭ ‬انشغالات‭ ‬هيأة‭ ‬الإنصاف‭ ‬والمصالحة‭. ‬والأمر‭ ‬يتعلق‭ ‬باستكشاف‭ ‬الحقيقة‭ ‬وذلك‭ ‬في‭ ‬العرض‭ ‬الذي‭ ‬قدمه‭ ‬أمام‭ ‬ندوة‭ ‬نظمت‭ ‬بطنجة‭ ‬في 17- 18‭ ‬شتنبر‭ ‬2004‭ ‬حول‭ ‬مفهوم‭ ‬الحقيقة‭ ‬والتي‭ ‬يؤكد‮ ‬‭ ‬فيها‭ ‬على‭ ‬فكرتين‭ ‬أساسيتين:
الأولى؛‭ ‬أن‭ ‬حقيقة‭ ‬الانتهاكات‭ ‬الجسيمة‭ ‬لحقوق‭ ‬الإنسان‭ ‬في‭ ‬العقود‭ ‬الأربعة‭ ‬التي‭ ‬تلت‭ ‬الاستقلال‭ ‬ليست‭ ‬من‭ ‬الأمور‭ ‬المجهولة‭ ‬أو‭ ‬غير‭ ‬المعروفة‭ ‬بل‭ ‬الأمر‭ ‬يتعلق‭ ‬بالأساس‭ ‬بالاهتداء‭ ‬إلى‭ ‬الصيغة‭ ‬الملائمة،‭ ‬أو‭ ‬الاكثر‭ ‬ملائمة،‭ ‬إعلان‭ ‬الحقيقة،‭ ‬والجهر‭ ‬بها‭ ‬رسميا،‭ ‬حول‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬جرى‭ ‬وكيف‭ ‬جرى…‭ ‬المهم‭ ‬اليوم‭ ‬بالدرجة‭ ‬الاولى،‭ ‬وبالنسبة‭ ‬للغد‭ ‬والمستقبل‭ ‬كذلك،‭ ‬وبعد‭ ‬معالجته‭ ‬تجاوزات‭ ‬الماضي،‭ ‬هو‭ ‬ضمان‭ ‬عدم‭ ‬تكرار‭ ‬ما‭ ‬جرى»‭.‬
والثانية‭ ‬تأكيده‭ ‬أن‭ ‬نجاح‭ ‬تجربة‭ ‬هيئة‭ ‬الإنصاف‭ ‬والمصالحة‭ ‬باعتبارها‭ ‬صيغة‭ ‬من‭ ‬صيغ‭ ‬العدالة‭ ‬الانتقالية‭ ‬تمت‭ ‬في‭ ‬إطار‭ ‬ما‭ ‬عرف‭ ‬بالتغيير‭ ‬داخل‭ ‬الاستمرارية‭ ‬تستوجب‭ ‬توفر‭ ‬«توافق‭ ‬واضح‭ ‬بين‭ ‬كل‭ ‬القوى‭ ‬المعنية،‭ ‬ولكن‭ ‬ليس‭ ‬أي‭ ‬توافق،‭ ‬بل‭ ‬توافق‭ ‬جدي‭ ‬مبني‭ ‬على‭ ‬أسس‭ ‬صلبة‭ ‬وغير‭ ‬قابلة‭ ‬للانزلاق‭ ‬أو‭ ‬النقد‭ ‬في‭ ‬أي‭ ‬لحظة‭ ‬من‭ ‬اللحظات،‭ ‬خاصة‭ ‬وأن‭ ‬المجتمع‭ ‬مقتنع‭ ‬اليوم‭ ‬بأن‭ ‬ما عاشته‭ ‬بلادنا‭ ‬وما‭ ‬عانت‭ ‬منه‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬القبول‭ ‬بتكراره‭ ‬بأي‭ ‬حال‭ ‬من‭ ‬الأحوال»‭.‬
 
تعاطى استشرافي مع القضايا الحقوقية 
 
هذا‭ ‬البعد‭ ‬الاستشرافي‭ ‬في‭ ‬منهجية‭ ‬تعاطي‭ ‬أذ‭. ‬محمد‭ ‬الصديقي‭ ‬بعض‭ ‬القضايا‭ ‬الحقوقية‭ ‬ذات‭ ‬الأهمية‭ ‬الكبرى‭ ‬نجده‭ ‬حاضرا‭ ‬في‭ ‬المواضيع‭ ‬التي‭ ‬وردت‭ ‬في‭ ‬الكتاب‭ ‬لاسيما‭ ‬في‭ ‬الحوارات‭ ‬الصحفية‭ ‬والمحاضرات‭ ‬والمذكرات‭ ‬الترافعية،‭ ‬كما‭ ‬نقف‭ ‬عند‭ ‬تأصيل‭ ‬نظري‭ ‬عميق‭ ‬لمجموعة‭ ‬من‭ ‬المفاهيم‭ ‬الحقوقية‭ ‬والنبش‭ ‬في‭ ‬حفريات‭ ‬بناء‭ ‬هذه‭ ‬المفاهيم‭ ‬كالقراءة‭ ‬التي‭ ‬قدمتها‭ ‬للمادة‭ ‬11‭ ‬إلى‭ ‬الإعلان‭ ‬العالمي‭ ‬لحقوق‭ ‬الإنسان‭ ‬المتعلقة‭ ‬بمبدأ‭ ‬«البراءة‭ ‬هي‭ ‬الأصل» (ص‭ ‬305-306)،‭ ‬أو‭ ‬كيف‭ ‬أصل‭ ‬لمفاهيم‭ ‬الحريات‭ ‬العامة‭ ‬والحريات‭ ‬الفردية‭ ‬والانتقال‭ ‬الديمقراطي‭ ‬(ص‭ ‬319-329)‭ ... ‬إلخ‭.‬
لكن‭ ‬الملاحظة‭ ‬التي‭ ‬يمكن‭ ‬الوقوف‭ ‬عندها‭ ‬بشأن‭ ‬التطور‭ ‬التاريخي‭ ‬لمؤسسة‭ ‬حماية‭ ‬حقوق‭ ‬الإنسان‭ ‬عبر‭ ‬إحداث‭ ‬ما‭ ‬أصبح‭ ‬يعرف‭ ‬بالمؤسسات‭ ‬الوطنية‭ ‬لحقوق‭ ‬الإنسان‭ ‬والتي‭ ‬أورد‭ ‬ذ‭. ‬الصديقي‭ ‬أهم‭ ‬تفاصيلها‭ ‬في‭ ‬حواره‭ ‬المنشور‭ ‬في‭ ‬الصفحات‮ ‬(207-317)،‭ ‬أغفل‭ ‬حدثين‭ ‬هامين‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المسار‭ ‬الأول‭ ‬يتعلق‭ ‬بأول‭ ‬مؤتمر‭ ‬دولي‭ ‬من‭ ‬نوعه‭ ‬تنظمه‭ ‬الأمم‭ ‬المتحدة‭ ‬حول‭ ‬حقوق‭ ‬الإنسان‭ ‬بالعاصمة‭ ‬النمساوية‭ ‬فيينا‭ ‬سنة‭ ‬1993،‭ ‬الذي‭ ‬تمخضت‭ ‬عنه‭ ‬ما‭ ‬بات‭ ‬يعرف‭ ‬في‭ ‬الأدبيات‭ ‬الحقوقية‭ ‬الدولية‭ ‬بـ‭ ‬«إعلان‭ ‬وبرنامج‭ ‬عمل‭ ‬فيينا»‭ ‬وهو‭ ‬عبارة‭ ‬عن‭ ‬خطة‭ ‬عمل‭ ‬مشتركة‭ ‬لتعزيز‭ ‬العمل‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬حقوق‭ ‬الإنسان‭ ‬في‭ ‬جميع‭ ‬أنحاء‭ ‬العالم‭. ‬وجاء‭ ‬هذا‭ ‬المؤتمر‭ ‬في‭ ‬ظرفية‭ ‬متميزة‭ ‬بتداعيات‭ ‬انهيار‭ ‬جدار‭ ‬برلين،‭ ‬ورسخ‭ ‬المفاهيم‭ ‬الأساسية‭ ‬حول‭ ‬كونية‭ ‬حقوق‭ ‬الانسان‭ ‬وعدم‭ ‬قابليتها‭ ‬للتجزيء‭ ‬وكذا‭ ‬وضع‭ ‬نظام‭ ‬حكامة‭ ‬جديدة‭ ‬لمنظومة‭ ‬تدبير‭ ‬حقوق‭ ‬الإنسان‭ ‬بإحداث‭ ‬آليات‭ ‬جديدة‭ ‬أكثر‭ ‬نجاعة‭ ‬وأكثر‭ ‬فعالية‭ ‬في‭ ‬حماية‭ ‬حقوق‭ ‬الإنسان‭ ‬والنهوض‭ ‬بها‭ ‬دوليا‭ ‬وقطريا،‭ ‬منها‭ ‬آلية‭ ‬الاستعراض‭ ‬الدوري‭ ‬الشامل‭ ‬وخلق‭ ‬مجلس‭ ‬حقوق‭ ‬الانسان‭ .‬
الحدث‭ ‬الثاني‭ ‬هو‭ ‬صدور‭ ‬ما‭ ‬بات‭ ‬يعرف‭ ‬بمبادئ‭ ‬باريس،‭ ‬التي‭ ‬تبلورت‭ ‬سنة‭ ‬1991‭ ‬وتم‭ ‬اعتمادها‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬الجمعية‭ ‬العامة‭ ‬للأمم‭ ‬المتحدة‭ ‬سنة‭ ‬1993‭ ‬وهي‭ ‬الإطار‭ ‬المرجعي‭ ‬الدولي‭ ‬المعتمد‭ ‬لإحداث‭ ‬المؤسسات‭ ‬الوطنية‭ ‬لحقوق‭ ‬الإنسان‭ ‬وتحديد‭ ‬المعايير‭ ‬الواجب‭ ‬توفرها‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬المؤسسات،‮ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬وضعها‭ ‬القانوني‭ ‬وتكوينها‭ ‬وولايتها‭.‬
 
ملائمة التشريع مع المعايير الدولية لحقوق الإنسان
 
‮ ‬أما‭ ‬عن‭ ‬النظرة‭ ‬الاستباقية للأستاذ‭ ‬محمد‭ ‬الصديقي‭ ‬تكفي‭ ‬الإشارة‭  ‬في‭ ‬جانب‭ ‬منها‭ ‬إلى‭ ‬المقترحات‭ ‬العملية‭ ‬التي‭ ‬قدمها‭ ‬في‭ ‬10‭ ‬يونيو‭ ‬1994‭ ‬بشأن‭ ‬ملائمة التشريع‭ ‬الجنائي‭ ‬المغربي‮ ‬مع‭ ‬المعايير‭ ‬الدولية‭ ‬لحقوق‭ ‬الإنسان،‭ ‬وكذا‭ ‬ترافعه‭ ‬عن‭ ‬فكرة‭ ‬إعداد‭ ‬ميثاق‭ ‬وطني‭ ‬حول‭ ‬العدالة‭ ‬يكون‭ ‬نتاج‭ ‬لحوار‭ ‬وطني،‭ ‬وذلك‭ ‬14‭ ‬سنة‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬تجد‭ ‬هذه‭ ‬الفكرة‭ ‬طريقها‭ ‬إلى‭ ‬التنفيذ»،‭ ‬وأيضا‭ ‬ترافعه‭ ‬على‭ ‬مبدأ‭ ‬استقلالية‭ ‬النيابة‭ ‬العامة‭ ‬الذي‭ ‬استغرق‭ ‬تنفيذه‭ ‬16‭ ‬سنة‭  ‬بين‭ ‬المطلب‭ ‬(2001)‭ ‬والإعمال‭ ‬(2017)،‭  ‬وهذا‭ ‬الأمر‭ ‬يحيلنا‭ ‬على‭ ‬مقولة‭ ‬«الفرص‭ ‬الضائعة»،‭ ‬وهي‭ ‬«ظاهرة»‭ ‬لا‭ ‬ترتبط‭ ‬بهذا‭ ‬المجال‭  ‬فقط‭ ‬(العدالة‭ ‬والقضاء‭...‬)‭ ‬بل‭ ‬تشمل‭ ‬مجالات‭ ‬عديدة‭ ‬حيث‭ ‬يتم‭ ‬بلورة‭ ‬المقترحات‭  ‬والأفكار‭ ‬لمعالجة‭ ‬الاختلالات‭ ‬وإصلاح‭ ‬أوضاع‭ ‬بعض‭ ‬المرافق‭ ‬أو‭ ‬المؤسسات،‭ ‬لكن‭ ‬الزمن‭ ‬الفاصل‭ ‬بين‭ ‬تبلور‭ ‬الفكرة‭ ‬وإنضاجها‭ ‬وتبنيها‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬صناع‭ ‬القرار،‭ ‬تم‭ ‬الشروع‭ ‬في‭ ‬تنفيذها،‭ ‬زمن‭ ‬لا‭ ‬يخضع‭ ‬دائما‭ ‬لاعتبارات‭ ‬موضوعية‭ ‬وعقلانية‭.‬
خلاصة‭ ‬القول،‭ ‬كتاب‭ ‬«أوراق‭ ‬من‭ ‬دفاتر‭ ‬حقوقي»‭ ‬للأستاذ‭ ‬محمد‭ ‬الصديقي،‭ ‬وإن‭ ‬كان‭ ‬قد‭ ‬حقق‭ ‬الأهداف‭ ‬المتوخاة‭ ‬من‭ ‬منفعة‭ ‬وإفادة‭ ‬وفتح‭ ‬لأفق‭ ‬استمرار‭ ‬البحث‭ ‬والتأمل‭ ‬في‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬القضايا‭  ‬الحقوقية‭ ‬والقانونية‭ ‬والسياسية‭ ..‬إلخ‭ ‬فإنه‭  ‬مع‭ ‬ذلك‭ ‬يجعل‭ ‬شهية‭ ‬القارئ،‭ ‬منفتحة،‭ ‬لطلب‭ ‬المزيد،‭ ‬لذلك‭ ‬يمكن‭ ‬اعتبار‭ ‬هذا‭ ‬الكتاب‭ ‬مجرد‭ ‬مقدمة‭ ‬لمشروع‭ ‬أوسع‭.  ‬
ولي‭ ‬اليقين‭ ‬التام‭ ‬أن‭ ‬أذ‭. ‬الصديقي‭ ‬له‭ ‬ما‭  ‬يكفي‭ ‬من‭ ‬الزاد‭ ‬العلمي‭ ‬والنزاهة‭ ‬الفكرية‭ ‬والموارد‭ ‬ليضطلع‭ ‬بذلك‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬إعداد‭ ‬مشروع‭ ‬يرصد‭ ‬كل‭ ‬محتويات‭ ‬هذا‭ ‬الكتاب‭ ‬ويتوسع‭ ‬في‭ ‬مناقشة‭ ‬ما‭ ‬لم‭ ‬يستطع‭ ‬إثارته‭ ‬أو‭ ‬ما‭ ‬تناوله‭ ‬باقتضاب‭ ‬فرضته‭ ‬حيثيات‭ ‬وظروف‭ ‬إصداره‭ ‬الأول‭.‬