الخميس 28 مارس 2024
كتاب الرأي

وحيد مبارك: " كأسك يا منتخب ..."

وحيد مبارك: " كأسك يا منتخب ..." وحيد مبارك

في المسرحية الشهيرة "كأسك يا وطن" من بطولة الفنان الكبير دريد لحام، الكثير من القضايا التي تم تناولها لا تزال حاضرة إلى اليوم، وضمنها مسألة الوحدة العربية والقضية الفلسطينية وغيرها... قضايا شغلت العديد من الأجيال، وشكّلت مواضيع نقاشات، سياسيا أدبيا اقتصاديا وحتى رياضيا، وها نحن في الزمن الأخير من سنة 2022، وعلى بعد أيام قليلة من معرفة من سيتوّج بكأس العالم في كرة القدم، نتذكّر في عزّ النقاش المونديالي "كأس الوطن"، المسرحية السورية السياسية والاجتماعية والكوميدية التي تم عرضها لأول مرة سنة 1979، التي تحيلنا، بشكل أو بآخر، مع الكثير من الاختلافات في تفاصيل أخرى، على كأس "أسود الأطلس" التي حضر فيها بعض من هذا النقاش المستمر عبر التاريخ إلى غاية اليوم.

كأس المنتخب، لم تكن هي الكأس العالمية التي جاءت المنتخبات الكبرى لقطر من أجل التنافس عليها، التي يضع الكثيرين أعينهم عليها، ويمنّون النفس بتقبيلها ومعانقتها ورفعها عاليا، فأسود الأطلس توقفت مسيرتهم المشرّفة في مونديال قطر عند مباراة نصف النهاية، محققين إنجازا غير مسبوق، شرّفنا جميعا، ولم يتبق أمامهم سوى مقابلة كروية أخيرة من أجل معرفة من سيحتل المركز الثالث في هذه التظاهرة العالمية، لكنهم بالمقابل تمكنوا من أن يحملوا بكل شموخ كأسا أكثر قيمة على المستوى الرمزي والدلالي من كأس العالم.

كأس أسود الأطلس، ارتشف منها العرب جرعات العروبة التي تحولت بسبب ذاتية وفردانية البعض إلى قطرات متناثرة هنا وهناك، لا تسقي أرضا، لا تنبت زرعا، ولا تروي ظمأ. كأس جعلت الأفارقة يفتخرون بالانتماء لقارة عانت من الاحتلال والاستغلال ومن الصراعات والتفرقة، ومن الأمراض والأوبئة، وجعل منها البعض عنوانا على الفقر والقهر، والحال أنها غنية بأبنائها وبناتها، بقيمها وخيراتها، وتستحق وضعا أفضل لتحقق النصر. كأس تذّوق حلاوتها الصغير والكبير، الفقير والغني، في إفريقيا وآسيا وأوروبا وأمريكا وفي كل بقاع العالم، وجعلت الجميع يصلي ويردد الأدعية في مكة المكرمة وأندونيسيا، في البرّ والبحر، لينتصر المغرب المقابلة بعد الأخرى.

كأس المنتخب، جعلت الجميع يعون مكانة فلسطين في قلوبنا ووجداننا، وما تشكّله وتعنيه لنا، ويتأكدون من أنها قضية ستظل حاضرة فينا، لا يمكن أبدا لأي أمر ينسينا فيها أو عنها قد يلهينا. كأس أنعشت الروح في قيم أدخلوها إلى غرف الإنعاش، وقالوا أنها في حالة موت إكلينيكي، وتحتاج إلى تخليصها من الآلام والمعاناة بتمكينها من موت "رحيم"، فجاءت الرحمة الحقيقية في ابتسامة الأمهات، وفي دموع الفخر في أعين الآباء، وفي عناق وقبلات ورقص على إيقاعات الحياة، ضدا عن التفكك والانسلاخ وتشيئ الذوات. فأي كأس هي أغلى من هذه الكأس التي سقتنا جميعا حبا وفخرا وروت ظمأنا وتعطّشنا للوحدة والتماسك والتآزر، فنشّطت مكوّناتها دورتنا الدموية وأعادت تنظيم نبضات قلوبنا وضخّت أوكسجين الوطنية في صدورنا، وجعلتنا نتنفس مرّة أخرى القوة والشجاعة والأنفة، وأعادت لبصرنا حدّته، فصرنا لا نرى إلا الفوز أمامنا، ونؤمن بأنه لا مستحيل يجب أن يحول بيننا وبين تحقيق الطموحات والوصول إلى الإنجازات.

كأس أسود الأطلس جاءت لتسقينا جميعا، لتلهمنا، لتحيي الأمل فينا، ولتقول لنا أن مونديال قطر كان مجرد محطة، وبأن هناك مباريات كبرى أكثر أهمية تنتظرنا، تستحق منا استبسالا كبيرا في الدفاع، وقوة عظيمة في الهجوم، وقدرة لا متناهية من أجل التصدي، لكل ثقافة انهزامية، لكل تفرقة، وللوقوف في وجه الفساد والإحباط والريع، ولحماية عريننا من كل مظاهر التهديم والتيئيس والتبخيس. كأس ملأها أبناء هذا الوطن الأبي بحبهم العفوي "الطفولي"، وبنكران ذاتهم والتصاقهم بالوطن القوي "الرجولي"، وسقونا منها جميعا، هنا وهناك، بهذا "الإكسير" المخلّد لتمغرابيت في قلوبنا ودمائنا، أينما كنا وتواجدنا، ليظل معها الوطن الهاجس الذي يسكننا، ويكون هو الوحيد الذي يسقي قلوبنا حبا وشغفا ويزرع فيها الأمل تلو الأمل.