الخميس 25 إبريل 2024
كتاب الرأي

حبيبي: يا صغيري لقد قطعت صلتي بلعبة كرة القدم منذ مونديال مكسيكو !!

حبيبي: يا صغيري لقد قطعت صلتي بلعبة كرة القدم منذ مونديال مكسيكو !! عبد الإلاه حبيبي
لا تهمني الإنشاءات الإعلامية التي تؤدي وظيفة طبيب التخدير والإنعاش... الجرّاح هو الذي يرى الأورام ويعرف كيف يستأصلها... أما طبيب الإنعاش فلا يفعل سوى إعادة المريض المخدر إلى يقظته الأولى...
ما يهمني هو ما قلته لحفيدي منذ انطلاق المونديال الحالي: يا صغيري لقد قطعت صلتي بهذه اللعبة منذ مونديال مكسيكو، وابتعدت كليا عن أخبارها وأبطالها وتظاهراتها، وسعدت كثيرا بهذا الموقف، حيث  لم يستقطبني ناد ولا عصبة ولا ليكا ولا استهوني يوما كل هذا السحر القاتل الذي  يسكن الوجدان ويلوث المزاج ويقضي على القلوب الهشة والأرواح الصادقة... لكنه كان يتودد ويترجاني، حتى أقنعني بضرورة العودة إلى الجلوس أمام الشاشات الرياضية، وأن أرافقه في مرحه وهو يتابع المقابلات ويخرج للساحات ليشارك الناس البسطاء لذة الانتصار على الخصوم المتغولين، هكذا سايرته في رقصة الفرح، ودون كبير حرص من يقظتي العقلية وجدت نفسي مورطا وجدانيا في مصير فريقنا الوطني الذي، حقيقة، أقنعني بأدائه، وبسلوك لاعبيه والقيم التي رسخوها في الميادين، وبعزيمة مدربه صاحب الفضل الكبير، وبمنجزاته الباهرة حتى تملكتني ثمالة اللعب وأحلام الظفر بالكأس ودون شعور بخطورتها صرت مدمنا عليها...
مباراة تلو أخرى كنت أرافق حفيدي إلياس إلى مقهانا المفضل بطريق مرتيل، حيث نجد النادل الصديق قد حجز لنا مائدة وكرسيين، وماهي سوى لحظات حتى نجد أنفسنا في جذبة الجمهور التلفزي الجميل، نغني، ونصرخ، ونسب خلسة التحكيم، ثم سرعان ما نعود إلى رشدنا وننسى الفرص الضائعة لتنتهي المقابلة بفوز مستحق لمنتخبنا الوطني، نمتطي السيارة وننطلق في الطرقات بإطلاق المزامير والتلويح بالراية الحمراء صاحبة النجمة الخضراء، ولا نعود إلى البيت إلا بعدما نكون قد روينا النفس بما لذ من أطباق الفرح ونشوة الفوز.. كان حفيدي يسهر على أن أظل وفيا لهذا الإدمان حتى لا أحرمه من طقوس المشاهدة وما يرافقها من مشاهد التعبير عن الانتشاء بنصر لم يكن أبدا متوقعا... الإدمان على الرقص طربا بعد كل مباراة أصبح غذاء روحيا لكل الذين أعرفهم خاصة  وأن أغلبهم ابتعدوا منذ عقود عن لواعج الكرة وغرائبها...بل أصبحت البلاد برمتها سجينة هذا الحلم الكبير وهذا العرس الطويل الذي زادته الأمطار تكريما غيبيا أفاض علينا نسائم رحمة السماء وتركنا نعانق الخيرات القادمة من الشباك ومن لدن رب رحيم.. 
لقد شربنا نخب الكبرياء واستعدنا قرونا من النسيان والهوان، ورفرفت دموع فرحنا في كل أرجاء العالم، أيقظت أمما وشعوبا، وزادنا ذلك اعتزازا بأنفسنا، واحتراما لذواتنا، وعودة راضية لأنفسنا، ومراجعة نقدية لقيمنا، وأخرجنا كل هذا الفرح من عقدنا التاريخية التي استوى فيها الأجنبي سلطة قاهرة ونموذجا يحتذى...
قلت له البارحة وهو كظيم يداري زحف الهزيمة على أجنحة منتخبا بعد تسجيل فرنسا هدف الغدر والمباغتة، لا تحزن يا ابني هي ذي الكرة التي مافتئت أحذرك من مكرها، ليست وفية لمن يعشقها بصدق، ولن تكون أبدا سيدة بيت حرة ترعى العرض والأصول، هي سليلة المال والمكر والحروب الخفية...
ترجاني أن نكمل المشاهدة، سايرته في رغبته، كان المسكين يتمنى هدف التعادل، لكني كنت أدرك بحدسي الباطني أن النصر سيكون من نصيب فرنسا، تعمدت مغادرة القاعة، تركته وحيدا حول الطاولة يتابع البقية، حينما عدت صدمني مشهد الهدف الثاني، ودون حديث لملم إلياس حفيدي أغراضه دون أن ينسى راية صغيرة كان قد اشتراها من فتاة تبيع منها أعدادا بالطريق المؤدي إلى مرتيل، وفي صمت جنائزي امتطينا السيارة ,امطار الخير تهطل كالطوفان حولنا، سلمته للبيت وودعته بعبارة مقتضبة: لا تحزن يا ابن ابنتي حينما رأيت رئيس دولة يحضر المباراة أخبرني قلبي أن الكرة لم تتغير  طباعها، ولن تتغير أبدا، وعليك أن تكون حذرا حتى لا يستبد بك وهم الانتصار في ماهو عابر وتنسى ماهو أساسي دروسك ومستقبلك".

                حبيبي عبدالإله