في قراءته المتأنية بالدراسة والتحليل والتمحيص، لألبوم "الأندلس الآن..موسيقى عمرها أكثر من 1000 سنة..رؤية جديدة للفنان نعمان الحلو"، والذي قام بتوزيعه الموسيقي الفنان كريم السلاوي، اعتبر أستاذ التربية الموسيقية أنس الملحوني أن الفنان الحلو هو أحد فرسان ومناصري الرأي "المؤمن بضرورة الحفاظ على موسيقى المؤسسين الماهدين، وإبداعاتهم المتنوعة"، إلا أن نعمان الحلو "لا يمنحها قداسة مطلقة"، على اعتبار أن التراث الموسيقي "القديم لا يموت قطعا، والجديد لا يولد من العدم".
جريدة "أنفاس بريس" تتقاسم مع المهتمين بالتراث الفني والموسيقي ورقة الحلقة الأولى من قراءة ألبوم "الأندلس الآن.." التي قام بها الأستاذ أنس الملحوني.
لا أحد يجادل بأن التراث الموسيقي المغربي غني بشكل يستعصي معه الإلمام بشتى تجلياته وتلويناته وتفريعاته. وكلما تداولنا الحديث ـ بروية ـ عن هذا التراث، وعن كيفيةِ العمل على صيانته و استمراريته، تتناسل أمامنا العديد من الأفكار والرؤى يمكن اختزالها ـ إجمالا ـ في ثلاثة اتجاهات :
فهناك من يُقر بأن هذا التراث جزء من الماضي وجب التخلص منه، ونفض اليد عنه لأنه حاجزٌ أمام عجلة التطور،بل معيقٌ لتطلعات الحاضر، ومُكبل لاستشراف المستقبل المنشود بأدوات وتقنيات حديثة؛ وعلى نقيض هذا الرأي، نجد من يقدس إنتاجات الأجداد، ويعتبرها المرجع الأساس الذي لا محيد عنه لخلق جسور تواصل متين بين الماضي والحاضر، فنجده يُلغي ذاته وكفاياته الموسيقية، الفنية، والثقافية، مفضلا إعادة رسم الصورة كما شاهدها وعايشها بكل تفاصيلها الدقيقة. وبين هذا وذاك، يبرز رأي ثالث يقف في منزلة بين المنزلتين، يؤمن بضرورة الحفاظ على موسيقى المؤسسين الماهدين وإبداعاتهم المتنوعة، إلا أنه لا يمنحها قداسة مطلقة، لأنها نتاج العديد من التطورات والقراءات والإضافات التي لحقت بها عبر مختلف الحقب والسنين، فالقديم ـ كما يقال ـ لا يموت قطعا، ولكن الجديد ـ هو الآخر ـ لا يولد من العدم؛ ولا أشك جازما في أن الفنان الأنيق نعمان الحلو هو أحد فرسان و مناصري هذا الاتجاه.
1ـ الأستاذ نعمان الحلو الموسيقي المثقف:
في خضم هذا النقاش، يأتي إصدار هذا العمل الموسيقي التراثي المتفرد بكل المقاييس، فهو المنـتوج الغنائي والآلي الذي حمل اسم " الأندلس الآن ـ موسيقى عمرها أكثر من 1000 سنة...رؤية جديدة" لصاحبه الفنان نعمان الحلو، وهو من إصدارات سنة 2016، بتوزيعات موسيقية للفنان كريم السلاوي. ويبدو جليا أن هاته الرؤية الجديدة، والمقاربة الحديثة لأداء بعض صنائع الموسيقى الأندلسية المغربية، تشكل الآن نقلة نوعية في المشوار الفني للأستاذ نعمان، وعبرها يقدم لنا تصورا جديدا رائقا، ونضجا فنيا عاليا، ستكون له تبعات إيجابية في مستقبل قريب.
إن التفرد والتميز هي بعضٌ من السمات الأساسية التي رافقت هذا العمل الغــنـائي، ويظهر ذلك - في مرحلة أولى - انطلاقا من عتبة العنوان، وغلاف القرص الذي وثق لمحتواه بثلة متنوعة من الصنائع: إن عنوان (ـ الأندلس الآن ـ موسيقى عمرها أكثر من 1000 سنة ... رؤية جديدة)، فيه صرخة مدوية أطلقها نعمان وهو يتحدث إلى نفسه من جهة، وإلى المهتمين بالموسيقى الأندلسية المغربية، موسيقيين، منشدين، ومولعين من جهة ثانية، يحثهم للعودة إلى هاته الينابيع الحضارية التي انصهر فيها الشرق والمغرب بروافده المتعددة، وشبه الجزيرة الإيبيرية، لكي تنتج لنا فنا غاية في السمو والإبداع، لازالت كامنة فينا تمظهراته الشعرية والموسيقية.
لطالما خامرت نعمان رغبة جامحة في تقديم رؤية جديدة لهذا الإرث الأندلسي ـ المغربي، فهو ابن مدينة فاس العريقة الفواحة بعبق التاريخ التليد، وأحدُ مريدي مدرسة الأصالة المغربية المتمثلة في موسيقى الآلة، وفن الملحون، والتراث الروحي والفني للزاوية المغربية، وهو الفنان المنتمي إلى أسرة تحمل جيناتها عبق الأندلس وتمظهراته الحضارية؛ وأعتقد جازما بأنه الواعي بثقل مسؤولية العناية بالتراث الموسيقي والأدبي الوطني، فقراءة التراث ودراسته وكذا تقديمه برؤية جديدة، مسألة تحفها الكثير من المطبات والمخاطر، تقتضي من الفنان بأن يكون متمرسا، عارفا وعالما، إلى جانب الموهبة التي لا محيد عنها كأحد أقطاب رحى العملية الإبداعية.
ومن هنا، يأتي اقتراحه تقديم تصور ونفس جديدين للموسيقى الأندلسية المغربية، وعرضها أمامنا طبقا فنيا رائقا بتوابل حديثة تـُوظـَّف لأول مرة على هاته الشاكلة، خصوصا وأن تجربة فريدة من نوعها وجديرة بالتنويه قد خاضها نعمان منذ سنوات تمثلت في عرض شذرات من نوبة غريبة الحسين بدار الأوبرا بالقاهرة بمعية الفرقة القومية للموسيقى العربية تحت قيادة المايسترو الكبير سليم سحاب، أحد كبار قائدي فرق الموسيقى العربية بالعصر الحديث، وهي تجربة كانت لها أكثر من دلالة على اعتبار أن موسيقانا المغربية - بصفة عامة - من الناحية التقنية: إيقاعا وجملا لحنية وأداء، لها خصوصيات عدة تجعلها نسبيا عصية على غير المغاربة، والأكيد أن هذا المنتوج الأندلسي المغربي الذي تجاوب معه جمهور غفير ونفذه آليا جوق مصري على ركح مصري، قد ترك أثرا طيبا في مخيلة ووجدان نعمان.
وفي موضوع ذي صلة، جاء غلاف الألبوم الجديد منسجما تماما مع الفكرة العامة لهذا العمل، حيث الانصهار التام بشكل دقيق بين الأصالة والحداثة.
فقد تم اختيار عالم الصناعة التقليدية المغربية عبر لوحة ضمت نقوشا على الخشب، وأشكال هندسية بديعة من الزليج استـُبـْدلت في نهاية اللوحة بحروف لغة الرياضيات الرقمية الكونية ، نظام العد الثنائي، وتتوسط هاته الأشكال والنقوش البديعة صورة للفنان لحلو في لحظة وجد روحي يتأبط آلة عود حديث الصَّنعة، ويرتدي هنداما يجمع هو الآخر ما بين الأصالة والحداثة.