Monday 29 September 2025
جالية

أريري: قلق اللغة وطمس الهوية في إستونيا

أريري: قلق اللغة وطمس الهوية في إستونيا عبد الرحيم أريري في شارع لينين، الذي أصبح يحمل اسم "رافالا" بالعاصمة تالين
رغم "استقلال" إستونيا عن الاتحاد السوفياتي بعد تفكك هذا الأخير عام 1991، فالعلاقة مازالت متوترة بين البلدين. إذ رغم انضمام إستونيا للاتحاد الأوربي وللحلف الأطلسي عام 2004، فإن ذلك لم يشفع لإستونيا في تجنب تهديدات الدب الروسي. 
 
موسكو لديها ورقة قوية بإمكان استخدامها أن يشوش على إستونيا إن لم نقل يزعزع استقرارها، ألا وهي ورقة الروس الإستونيين، إذ من أصل 1.300.000 نسمة، يشكل الإستونيون ذوي الأصل الروسي 25% من المجموع العام تقريبا. لهذا فكل قرار عمومي إلا ويطغى عليه هذا التوجس. 
 
وبحكم أن إستونيا واجهت صعوبة في وضع قطيعة نهائية مع الحقبة السوفياتية، التي فرخت بين 1940 و1989، مجمعات سكنية ضخمة وهيمنة صناعية، بالنظر إلى أن التخلص من هاته التركة ككل يتطلب أموالا باهظة للهدم وإعادة الإسكان، فقد اختارت إستونيا نقل"الحرب" مع روسيا إلى المجال الرمزي، عبر اعتماد سياسة تروم أستنة (نسبة إلى إستونيا Estonisation) الشوارع والساحات، أي إزالة الطابع السوفياتي عن الفضاء العام Désoviétisation، بتغيير أسماء الشوارع والأزقة بالعاصمة "تالين" Tallinn التي تحمل أسماء سوفياتية وتعويضها بأسماء إستونية.
 
لم يتم محو أسماء السياسيين والشيوعيين السوفيات، من شوارع مدينة "تالين" فقط، بل حتى الأسماء التي تتميز بحمولة إديولوجية شيوعية تم تغييرها، من قبيل: Héros, Pionniers), Komsommol, Octobre, la jeunesse, Partisans,...). أضف إلى ذلك أسماء أدباء وموسيقيين سوفيات.
 
السياسة التي تبنتها سلطات هذا البلد البلطيقي تندرج في إطار ما سمته: "استرجاع شوارع مدينة تالين لهويتها الإستونية، التي كانت تتمتع بها قبل الاحتلال الروسي للبلد عام 1940".
 
ولترجمة هذا الجفاء مع كل ما يمت بصلة للسوفيات، بادرت سلطات "تالين" إلى إعادة النظر حتى في أسماء شوارع وأزقة المدينة القديمة. هاته الأخيرة، رغم أنها لم تكن تحمل أسماء سوفياتية، فالسلطات اختارت إرسال "ميساج" لموسكو مفاده أن رادار إستونيا تم توجيهه إلى الفضاء "الجيرمانو-الإسكندنافي" إلى غير رجعة. وتم اختيار أسماء قديمة كانت تطلق في العهد الذي كانت فيه "تالين" تابعة للفضاء الجيرماني والسويدي من أواخر القرن 12 إلى نهاية العصر الوسيط.
 
تغيير أسماء الشوارع والأزقة في مدينة "تالين"، بأسماء إستونية أو بأسماء ترمز للحقبة الجيرمانو إسكندنافية، لم يرتبط فقط بالرغبة في القطع مع الحقبة السوفياتية، بل يندرج كذلك في إطار "تثبيث" الهوية الإستونية عبر قناة اللغة.إذ على غرار الفنلنديين الذين عانوا من طمس لغتهم في عهد حكم القيصر الروسي، فإن إستونيا لم تسلم هي الأخرى من إجبار سكانها على تعلم اللغة الروسية ومحو الإستونية من المرافق العامة. ففي مطلع سنوات السبعين من القرن العشرين صدر قانون يجعل "الروسية" هي "لغة الاشتراكية". وقامت موسكو بتنصيب "كارل فاينو" Carl Vaino، زعيما للفرع المحلي للحزب الشيوعي بإستونيا في أواسط السبعينيات، الذي تم تكليفه بالإشراف على برنامج تسريع تحسين وتعميم اللغة الروسية على الإيستونيين. 
 
بمجرد تعيينه، فرض "كارل فاينو" إجبار تعليم الروسية ابتداء من السنة أولى ابتدائي.
 
استحضارا لهذا الجرح، قامت سلطات إستونيا في عام 2003 بإصدار قانون يمنع كتابة أسماء الشوارع والأزقة باللغة الروسية، وتضمن القانون معايير ومواصفات كتابة الأسماء في اللوحات باللغة الإستونية بالحرف اللاتيني وليس بالحرف السوفياتي Cyrillique، كما صدر الأمر بإزالة كل اللوحات من شوارع "تالين" التي كانت مكتوبة بشكل مزدوج:"إستوني وسوفياتي".
 
معركة "أستنة" Estonisation الفضاء العام، لم تنته بمحو كل ما يرمز للسوفيات، بل ظهر في العقد الثاني من الألفية الحالية، وافد لغوي جديد، ألا وهو اللغة الإنجليزية بفضل تعميمها بالمدارس. ونتج عن ذلك أن عددا من المحلات التجارية في المدينة بدأت تكتب الأسماء على واجهاتها بلغة شكسبير، فصدر قانون جديد يمنع كتابة الأسماء بلغة غير اللغة الإستونية، مع تمتيع الشركات العالمية والعملاقة باستثناء في هذا المجال، لكن مع إلزامها بإرفاق كتابة الاسم باللغة الإستونية كذلك.
 
وهذا ما يعكس قلق ساسة إستونيا وخوفهم من تذويب هويتهم ولغتهم، خاصة وأن اللغة الإستونية لا يتم التكلم بها إلا داخل إستونيا، بل حتى داخل البلد لا يتكلم بها سوى 75% من مجموع سكان إستونيا البالغ عددهم 1.300.000 نسمة.
 
هكذا لا ينام الإستونيون على هوية ثابتة، فما زالوا، رغم 34 سنة من الاستقلال، على خط تماس دائم بين المحو والإحياء، بين ماض سوفياتي يراد طمسه وحاضر يفرض الميل إلى لغة الغرب، في خضم رهاب دفين من ذوبان لغة لا يتحدثها ربع السكان. 
 
نعم، قد تكون إستونيا قد نجحت في محو أسماء شوارعها من قبضة السوفيات، لكن الواقع يؤكد أنها لم تنج بعد من التهديد اللغوي القادم من الغرب..