منذ عقود ونحن، مغاربة العالم، نعيش في مفارقة صارخة: نحن قوة حقيقية، نساهم في الاقتصاد الوطني بمليارات التحويلات، ونحافظ على إشعاع المغرب عبر القارات، ونغرس في أبنائنا حب الوطن رغم البعد. ومع ذلك، نظل في نظر مؤسسات بلدنا مجرد جالية تذكر عند الحاجة وتنسى بعد إنتهاء الموسم ، ورقما ماليا في تقارير البنوك، وموضوعا موسميا على موائد الأحزاب.نحن لسنا جالية عابرة، بل الامتداد الطبيعي للمغرب في العالم، نبضه في المنفى، وصوته حين يعلو خارج الحدود. نحن الجهة الثالثة عشرة، جهة حقيقية ورمزية في آن واحد، جغرافيا ممتدة على الخريطة العالمية، وكيانا إنسانيا يحمل المغرب في الذاكرة واللغة والمطبخ والطقوس. خرجنا من المغرب بأجسادنا، لكنه ظل فينا جواز سفر أبدي، لا تنزعه المسافات ولا تقهره الغربة.
قبل عام، أطلق الملك خطابا مفصليا، دعا فيه إلى بناء مؤسسة قوية تصل الفروع بالأصول، وتفتح جسرا إستراتيجيا بين الكفاءات في الخارج ووطنها. كان ذلك الخطاب بمثابة خريطة طريق، غير أن ما تلاه لم يكن سوى صمت المؤسسات وركود مجلس الجالية، الذي تحول مع مرور الوقت إلى واجهة رمزية بلا فعالية. وهنا يطرح السؤال: هل يعقل أن يترك هذا الرأسمال البشري الهائل معطلا، فيما الوطن في أمس الحاجة إلى كل طاقاته في الداخل والخارج؟.
الحقيقة أن النقاش حول "المشاركة السياسية" للجالية لم يرق بعد إلى مستوى التحديات. البعض يحصره في المقاعد البرلمانية أو في صناديق الاقتراع، في حين أن المشاركة أوسع وأعمق. فابن الجيل الثاني أو الثالث في باريس أو مونتريال، لن تعنيه ورقة انتخابية إذا لم يجد مدرسة تعلمه لغته، أو مركزا يفتح له أبواب الثقافة المغربية، أو مؤسسة تعزز إنتماءه. التمثيلية لا تبدأ بالصناديق، بل بالهوية. والهوية حين تبنى تصبح السياسة امتدادا طبيعيا لا غاية مفصولة.
مغاربة العالم، رغم كل الإقصاء والتهميش، يمارسون مواطنتهم يوميا: يرفعون العلم المغربي في تظاهرات رياضية وثقافية، يحافظون على المطبخ المغربي في مطاعم صغيرة بأوروبا، يرسخون في أبنائهم الذاكرة المغربية بلغات متعددة، ينخرطون في الدفاع عن قضايا الوطن في فضاءات إعلامية وحقوقية دولية. إنهم يقومون بما يجب أن تقوم به المؤسسات، لكن بإمكانات فردية وبإصرار وجداني.
من هنا، يصبح السؤال السياسي أكبر: ما الجدوى من مجلس جالية يظل غائبا عن همومنا اليومية؟ وما الجدوى من مؤسسات ترفع شعارات دون أن توفر مراكز ثقافية أو منصات تربط الأجيال الجديدة بالمغرب؟ أليس الأجدر أن يعاد تأسيس المجلس بتركيبة جديدة، شبابية، علمية، مبدعة، قادرة على قراءة التحولات العالمية ومواكبتها لصالح الوطن؟.
إن مغاربة العالم ليسوا عبئا كما يصور أحيانا، بل هم ثروة استراتيجية: رأسمال بشري، شبكة علاقات، خبرات علمية واقتصادية، طاقات شبابية. إنهم الدبلوماسية الشعبية التي تعزز صورة المغرب، والامتداد الطبيعي لقوته الناعمة. لكن هذه القوة تبقى معطلة ما لم تجد إطارا مؤسساتيا مرنا وفعالا يستثمرها.
نحن لا نطلب امتيازا، بل حقا. حقنا أن نكون شركاء لا متفرجين، مواطنين كاملي الحقوق لا أوراق موسمية. نطالب بمجلس حقيقي ينبض بالكفاءات من داخل التجربة، بمكاتب تمثيلية في كبريات العواصم، بمؤسسات ثقافية تحيي الهوية في أبنائنا، ببرامج تعليمية تعيد ربط الجيل الجديد بلغته وأرضه.
إن مغاربة العالم ليسوا ترفا يمكن تأجيله، ولا خزانا ماليا يستدعى عند الحاجة. إنهم ورقة وطنية استراتيجية في زمن التحولات الدولية، وإدارة ملفهم بسطحية أو تأجيل لم يعد ممكنا.
ولهذا، فإن الرسائل الأساسية التي يجب أن تصل بوضوح هي:
تفعيل الخطاب الملكي: لا يكفي أن يظل مرجعا رمزيا، بل يجب ترجمته إلى مؤسسة جامعة، فعالة، بشبكات عمل حقيقية.
إصلاح مجلس الجالية: إعادة تأسيسه بتركيبة شبابية وكفاءات حقيقية من صميم التجربة، ليكون فضاء للتفكير الاستراتيجي لا واجهة شكلية.
الهوية قبل السياسة: بناء المراكز الثقافية، دعم التعليم باللغة العربية والأمازيغية، توفير الكتب والفضاءات التي تجعل الانتماء واقعا يوميا.
شراكة حقيقية: اعتبار مغاربة العالم شركاء في صياغة السياسات العمومية المتعلقة بالهجرة والتنمية، لا مجرد موضوع للتسيير.
دبلوماسية موازية: إدماج كفاءات الجالية في الدفاع عن القضايا الوطنية، وعلى رأسها قضية الصحراء المغربية، مستفيدين من حضورهم في المؤسسات الدولية.
إن الجهة الثالثة عشرة ليست مجرد شعار أدبي، بل رؤية استراتيجية. ومن لا يستوعب هذه الحقيقة، يضيع على المغرب قوة بشرية ورمزية لا تقدر بثمن.
نحن مغاربة العالم، أبناء الوطن في الخارج، نحن الوطن حين يغترب وحين يتجدد. نحن الجهة الثالثة عشرة..