Tuesday 2 September 2025
كتاب الرأي

سليمة فراجي: وجدة.. جمال خفيّ خلف قسوة الطبيعة والبشر 

 
 
سليمة فراجي: وجدة.. جمال خفيّ خلف قسوة الطبيعة والبشر  سليمة فراجي
هكذا أنهيتُ كتابي باللغة الفرنسية حول مدينة وجدة: Oujda: l’éclat d’une mémoire blessée entre ombre, lumière et résilience. 
عند إنهاء هذه الصفحات، تترسّخ لدى القارئ قناعة عميقة تتجلى في كون سحر وجدة لا يُفصح عن نفسه من النظرة الأولى. فهي مدينة طالما حُكم عليها بقسوة مناخها القاري الملتهب في فصل الصيف، والأشد برودة في فصل الشتاء، ناهيك عن العواصف الرملية وجفاف الفضاءات الخضراء.  
ومع ذلك، فإن الذين وُلدوا فيها، أو أقاموا بها، أو حتى من مرّوا بها لوقت قصير، يحملون في أعماقهم حنينًا لا يمحوه الزمن. فوجدة ليست مجرد مكان؛ إنّها روح. تنبض في نداء المؤذنين، وفي صخب أسواقها، وفي ذاكرة المقاومة، وفي دفء إنسانيتها.  
وجدة تخفي بريقها خلف القسوة، لكنها تهبه بسخاء لمن يعرف كيف ينظر إليها بعيون القلب. جمالها لا يُقاس بحجارتها العتيقة ولا بمناظرها الطبيعية فحسب، بل بالأثر الخفيّ الذي تتركه في الذاكرة وفي الروح.  
وجدة… ماضٍ نابض ومستقبل واعد. 
على امتداد هذه الصفحات، حاولت في هذا الكتاب أن أكرّم وجدة، وأن أسلط الضوء على بعض معالمها، وعظمة رجالها، مدينةً عريقةً ضاربة في التاريخ، غنيةً بتقاليدها وأهلها. عبر معالمها الرمزية، ونسائها الشجاعات، وعاداتها، وأزيائها، وموسيقاها، ورياضاتها المتنوعة من كرة القدم والريكي وكرة المضرب والملاكمة وسباق الدراجات، إذ تكشف وجدة عن نفسها كملتقى للهويات والروايات، موسومة بجراح التاريخ، لكنها ممهورة دومًا ببصمة الصمود. 
وإذا كان هذا السفر في قلب المدينة قد ساعد على إعادة اكتشاف تراثها ودورها في تاريخ المغرب، فقد أبرز أيضًا التحديات التي تواجهها اليوم. بين التهميش والأمل، تقف وجدة على مفترق طرق، حيث يمكن لثرواتها، وإن أُهملت، أن تتحول إلى رافعة للتنمية الاقتصادية والثقافية والسياحية. 
إن هذه الرحلة في تقاليد وجدة هي نداء لحماية التراث والاعتزاز به، سواء كان لباسًا أو معمارًا أو عادات اجتماعية. وهي أيضًا دعوة إلى تفعيل الماضي لا تجميده، ليكون أساسًا لمستقبل تتعايش فيه الأصالة مع الحداثة في انسجام.  
رسالة وجدة تتجاوز حدودها الإقليمية لتحمل معنىً كونيًا: رسالة التعايش، ونقل المعارف، والاعتزاز بالهوية الثقافية. فهي تجسّد فكرة أن الجماعة، مهما تشبّثت بجذورها، تستطيع أن تبقى منفتحة على العالم. 
وهذا الكتاب يُختتم على نغمة أمل: أن يجد كل ساكن، وكل عاشق لهذه المدينة، في هذه الصفحات مصدر إلهام يمدّه بالعزم على المساهمة في إشعاعها. وأن تواصل الأجيال الصاعدة، وهي تنفتح على العالم، حبّ هذا الإرث الثمين وتغنيه. 
فوجدة ليست مجرد مدينة؛ بل هي ذاكرة حيّة، شاهدة صامتة على نضالات وأفراح وتطلعات من مرّوا بها. وبقدر ما تعرف كيف تتجدد دون أن تنسى جذورها، تستطيع أن تستعيد مكانتها التي لم تفقدها قط: نجمة لامعة في سماء المغرب، وجناحه الوفيّ في الشرق. 
وجدة ترد على النداء  
تلال ومنحنيات تعانق جبال بني يزناسن، الموشومة بدماء الآباء والأجداد،  
أولئك الشجعان الذين دافعوا عن سيادة الوطن… 
وجدة، مدينة العبور والذاكرة،  
مرّ بها عظماء هذا العالم،  
مدينة الاستقبال والاختلاط، استقبال الجزائريين قبل استقلالهم سنة 1962،  
وجدة تعودت على دوي صدى أناشيد المجد، وأهازيج الحب للوطن، ذكرى 16 غشت 1953، استقبال المغاربة المطرودين من الجزائر في سنة 1975، في روح تسامح وحوار بين الثقافات والمعتقدات. 
وأنا أكتب عنها، اكتشفت قصصًا منسية،  
ومعالم شاهدة بناها أناس متنوعون — مغاربة، جزائريون، فرنسيون، يهود وآخرون، جمعهم تراب واحد، وتضامن واحد، ونَفَس واحد من الشجاعة والصمود. 
وجدة! أجيبي النداء!  
لا تتركي صوتك يذوب في صدى البعيدين، الممزقين، المقتلعين… العدميين.  
من أجل وجدة، فلنرفع الرأس، ولنوقظ الضمائر.  
من أجل وجدة، فلنُحيِ الأمل من جديد.  
وهكذا يُسدل الستار على هذا الكتاب، لكن حكاية وجدة… تستمر.