Monday 1 September 2025
كتاب الرأي

محمد براو: محمد السادس.. بين الخيال الإعلامي واستراتيجية النفوذ (4/6)

محمد براو: محمد السادس.. بين الخيال الإعلامي واستراتيجية النفوذ (4/6) محمد براو

ملكٌ يوصف بالمتقلب، لكنه يحرّك بيادق مملكته على رقعة الشطرنج الدولية بخطى محسوبة

الرد الرابع على الحلقة الرابعة من سلسلة لوموند "لغز محمد السادس" 4 من 6

تمهيد

في سلسلة تحقيقات جريدة لوموند الفرنسية حول "لغز محمد السادس"، يرسم الصحفيان كريستوف أياد وفريديريك بوبان في الحلقة الرابعة، صورة لملكٍ غامض، يتصرف أحياناً كخبير دبلوماسي بارع، وأحياناً كزعيم يصعب التنبؤ بخطواته، يغيب عن القمم الدولية، ويعاقب الفنانين، ويتخذ قراراته من موقع شخصي صرف. سرد جذاب بلا شك، لكنّه يغفل شيئاً أساسياً: المغرب ليس مجرد مرآة لشخص الملك، بل هو دولة ذات استراتيجية، مؤسسات، وأولويات.

آن الأوان لتجاوز التحليلات الشخصانية الضيقة، والعودة إلى مقاربة سياسية عقلانية.

 

من الملك الاستراتيجي إلى الشخصية المتقلبة: انحراف في السردية

يختزل المقال مساراً دبلوماسياً طويلاً ومعقّداً – من العودة إلى الاتحاد الإفريقي سنة 2017، إلى اعتراف عدة عواصم أوروبية وأميركية بمخطط الحكم الذاتي – في مجموعة من ردود الفعل العاطفية أو اللحظات الغريبة. التقارب مع إسرائيل؟ "صفقة مصلحية". التوتر مع إسبانيا؟ "ابتزاز بالهجرة". قضية الصحراء؟ "هوس وطني".

لكن هذه القرارات لم تكن يوماً انفعالات. بل هي ترجمة لرؤية استراتيجية قائمة على أربعة محاور: السيادة، الأمن، التموقع الإفريقي، والانفتاح المتوازن على أوروبا والغرب. محمد السادس قد يفضل العمل في الكواليس، لكنه بلا شك هو مهندس سياسة خارجية نشطة، متناسقة، ومتقدمة على أكثر من جبهة.

 

قضية الصحراء: هل هي فعلاً "هوس" أم مسألة سيادية مشروعة؟

تعترف لوموند بأن المغرب حقق مكاسب دبلوماسية كبيرة في ملف الصحراء، من خلال دعم الولايات المتحدة، وإسبانيا، وألمانيا، وفرنسا لمقترحه بالحكم الذاتي. لكنها ترفض أن تنظر إلى ذلك باعتباره نجاحاً سياسياً.

الواقع أن الملف ليس مسألة عاطفية، بل هو أحد أعمدة النظام السياسي المغربي منذ المسيرة الخضراء سنة 1975، وله دور مركزي في التوازن بين السلطة، الجيش، والرأي العام. تجاهله، أو اعتباره مجرد "هوس ملكي"، فيه استخفاف بتاريخ معقّد وحساس لبلد بكامله.

 

إفريقيا جنوب الصحراء: استراتيجية مدروسة وليست مجرد مناورة

من تصدير الأسمدة إلى تسوية أوضاع المهاجرين، ومن الانتشار المصرفي المغربي في غرب إفريقيا إلى تكوين الأئمة، الحضور المغربي في إفريقيا جنوب الصحراء ليس عرضياً. إنه مشروع طويل المدى، هدفه تكريس عمق استراتيجي للمغرب، وتحقيق توازن مع العلاقات الأوروبية.

تفسير هذا الحضور فقط كـ"ردّ فعل على الجزائر" فيه تبسيط مخلّ. المغرب بنى علاقات مستقلة، اقتصادية وروحية، مع محيطه الإفريقي. وليس مجرد طرف في صراع إقليمي.

 

إسرائيل، غزة، ودبلوماسية الواقعية

في مقاربة لوموند، يبدو التقارب المغربي الإسرائيلي خاضعاً لحسابات باردة على حساب القضية الفلسطينية. ويُفهم من المقال أن "الرباط تفضّل طائرات الدرون على أطفال غزة".

هذا الطرح لا يعكس الواقع بدقة. فالمغرب لم يتخلّ عن دعمه الرسمي لفلسطين، وهو يترأس لجنة القدس، ويحافظ على قنوات اتصال مع جميع الأطراف. إنه يحاول التوفيق بين السيادة الوطنية، الأمن القومي، والتضامن الإسلامي، كما تفعل العديد من الدول العربية الأخرى.

 

نظرة فرنسية ما زالت أسيرة الصور النمطية

ما تعكسه تغطية لوموند هو نمط متكرر في بعض وسائل الإعلام الفرنسية: تختزل الدولة في شخصية الحاكم، والنظام في المزاج، والسياسة في القصص. الملك الذي "ينام"، أو "يغضب"، أو "يلغي القمم"، يحجب صورة بلد كامل يُعيد رسم موقعه في القارة والعالم.

في الحقيقة، "اللغز" ليس محمد السادس. اللغز الحقيقي هو لماذا ما زال البعض يرفضون التعامل مع المغرب كدولة ذات حسابات عقلانية واستراتيجية واضحة؟

لا بد من التفكير في الدولة، لا في الشخصية

المغرب اليوم ليس مملكة عبثية يحكمها مزاج شخصي. بل هو دولة بصدد إعادة التموقع الجيوسياسي، منفتحة على إفريقيا، متمرسة في شراكات متعددة، تصنع سلاحها، وتخوض معارك دبلوماسية في كل الاتجاهات.

آن الأوان لفك الارتباط مع النظرة الاستشراقية القديمة، والنظر إلى المغرب كفاعل إقليمي ناضج، له مصالحه، تناقضاته، وخياراته السيادية.

 

الدكتور محمد براو/ خبير دولي في الحكامة ومؤلف كتاب الحكامة الجيدة على ضوء التوجيهات الملكية