يدخل المغاربة، مع بداية كل صيف، في مواجهة ساخنة مع الغلاء، وكأن العطلة لم تُخلق للاستجمام بل لاختبار القدرة الشرائية للمواطنين في خضم حسابات المضاربين الموسميين الذين يهتبلون الفرصة لتحقيق الربح السريع، ولو على حساب عرق المصطافين الراغبين في اقتطاع أيام معدودة لشحن طاقتهم. فما إن ترتفع درجة حرارة الجو حتى تبدأ الأسعار بالتصاعد في الفنادق والمطاعم والشقق والمقاهي ووسائل النقل ومواقف السيارات، بل حتى الشواطئ يتم احتلالها من طرف أشخاص مسخرين لكراء الشمسيات والكراسي والطاولات، فضلا عن الفُوَط وملابس السباحة والألواح والدراجات المائية.
مبدئيا، يُفترض، كما يجري العمل بذلك في كل البلدان، أن يكون الصيف بالنسبة للمواطن المغربي (الموظف والعامل، وكل أصحاب الدخل المحدود)، فرصة للانعتاق من مشاق الضغط المهني، ولحظةً للتمدد خارج الروتين اليومي الثقيل، وانفلاتا جماعيا من جدران المدينة المكتظة، على نحو ما انتبهت إليه المجتمعات الصناعية التي جعلت من العطلة آليةً للهروب من الضغوط وتجديد الطاقات وشحذ الهمم، وترميم الأعطاب النفسية، واستعادة الكفاءة الحيوية للفرد. غير أن واقع السياحة الداخلية ببلادنا يُقدّم صورة معاكسة تمامًا؛ فالصيف هنا تحوّل إلى موعدٍ ثابت مع "فراقشية العطل" الذين يتقنون اصطياد اللحظات الجماعية للفرح، وتحويلها إلى مصدر للربح السريع، دون وزاع أخلاقي أو رقابة مؤسساتية فعّالة أو أي رادع قانوني يدفع عن ذوي الدخل المحدود أطماع هؤلاء؛ حيث تتحول وجهات الاصطياف إلى ساحات للاشتباك بين المواطن من جهة، وبين ارتفاع الأسعار الذي لا يتوقف من جهة ثانية.
إن ما يشهده المغرب في مواسم الاصطياف ليس مجرد ارتفاع عادي في الأسعار بفعل زيادة الطلب (ذروة الموسم)، بل ظاهرة متكررة تنذر بوجود خلل عميق في آليات تنظيم قطاع السياحة الداخلية، وغياب دور فعال للسلطات العمومية في حماية المستهلك وضبط السوق. ويتجلى ذلك في الارتفاع المهول لأسعار كراء الشقق والفنادق والإقامات والمطاعم، خاصة في المدن الساحلية والسياحية مثل (أكادير، تاغازوت، طنجة، أصيلة، تطوان، الصويرة، مراكش، السعيدية، إفران، الواليدية، الحسيمة، مرتيل، مير اللفت، الداخلة.. إلخ). بل حتى بعض المدن الصغرى التي كانت تقصدها الأسر الفقيرة مثل الجديدة باتت تعرف ارتفاعا ملحوظا في الأسعار، إذ بادر "الفراقشية" إلى استحلاب جيوب المواطنين الذين يجدون أنفسهم فجأةً مضطرين إلى أداء ضعف ما هو معتاد من أجل الاستفادة من خدمة أساسية، كالإقامة أو الأكل أو النقل. بل الأدهى من ذلك، أن هذه الأسعار، التي ليس لها أي سقف محدد، لا تخضع لأي معيار قانوني، ولا تُحدد بناء على ضوابط واضحة، بل تعطي مؤشرًا واضحًا على أن المواطن المغربي يجد نفسه محاصرًا بين رغبة ملحة في الاستجمام والراحة التي يتيحه له فصل الصيف، وبين واقع اقتصادي يجعل من الاصطياف في المدن السياحية عبئًا ثقيلًا على ميزانيته، بل يشكل تهديدا لها، لأن العطلة مرتبطة أيضا بالدخول المدرسي وما يستتبعه من مصاريف قاهرة. فالملاحظ أن أسعار كراء الشقق المفروشة ترتفع في ذروة الموسم الصيفي أحيانًا إلى ثلاثة أضعاف الأسعار في باقي السنة، حيث تتحول شقة كانت تكلف 400 درهم لليلة إلى 1200 أو 1500 درهم، وفي بعض المدن يصل هذا السعر إلى 2000 درهم لشقة عادية. أما أسعار الفنادق فغالبًا ما تخضع لأسعار موسمية غير شفافة، لا يضبطها أي معيار رسمي يمكن للمواطنين الرجوع إليه، بل الملاحظ أن الفندق نفسه يحدد حجز الغرفة بسعر أعلى للمواطن المغربي مقارنة بالسعر المخصص للسائح الأجنبي (هناك تخفيضات مخصصة للأجانب في كثير من الفنادق والمنتجعات)!
فهل يمكن تفسير ذلك، بأن الاستثمار في البنية التحتية الموجهة للسياحة الداخلية مازال دون المستوى المطلوب، وأن التركيز الكبير ينصب على السياحة الخارجية، أم يمكن تفسير ذلك بأن الأمر امتداد لبنية اقتصادية تخلق مناسبات موسمية لنهب المواطن، وتُرسّخ «تطبيعًا جماعيًا مع الغلاء»؟
والحق يقال إن ارتفاع الأسعار، وهذا ما تعرضنا له في أعداد سابقة من «الوطن الآن»، لا يرتبط فقط بفصل الصيف، بل هي دورة زمنية موسمية خانقة مستدامة، تبدأ مع رسوم التسجيل والدخول المدرسي، وتصل إلى رمضان، وتمر بعيد الأضحى وعاشوراء، لتنتهي بالعطلة الصيفية، في حلقة اقتصادية لا يتوقف فيها تطور "استنزاف الجيوب" من مناسبة إلى أخرى، ومن قطاع إلى آخر. والأنكى من ذلك أن السلطات العمومية الموكول لها أن تكون المراقب والضامن لحقوق المستهلك تبدو مكتوفة الأيدي، بل أحيانا كثيرة يقدمها الواقع بوصفها متواطئة مع «الفراقشية». إذ تعجز عن توفير آليات رقابية صارمة تُلزم الملاك وأصحاب المطاعم والفنادق و«السناكات» والمسابح بحدود واضحة للأسعار وجودة الخدمات، كما أن الإكراهات القانونية والتنظيمية تعجز عن السيطرة على ظاهرة الكراء العشوائي للشقق المفروشة، التي تستغل بشكل موسمي للمضاربة على حساب المواطن. والحال أن التجارب الدولية في هذا المستوى، تبين أن الحلول الفعالة تكمن في تدخل الدولة لتنظيم السوق وضبط الأسعار خلال فترات الذروة. ففي فرنسا، التي تعودنا أن نضرب بها المثال، توجد آليات لتحديد سقوف أسعار الفنادق والشقق المفروشة في المواسم السياحية، مع رقابة دورية تضمن حقوق المستهلكين. أما في إسبانيا، القريبة منا، فتعمل الحكومة مع المنصات الرقمية لضبط كراء الشقق عبر منصات مرخصة، وتفرض غرامات مالية على المخالفين.
لقد أصبحت السياحة الصيفية عندنا مناسبة مفضّلة عند شبكات الغش والاحتيال؛ ففضلا عن الخدمات المتدنية التي لا تُطابق الحد الأدنى من معايير الجودة، إضافة إلى محدودية العرض السياحي الداخلي، وتركيزه في مدن محدودة، فإن خريطة السياحة المغربية تبدو غير متوازنة مجاليًا، إذ تستمر الاستثمارات والبنيات التحتية في التراكم في مدن مدن مثل مراكش وأكادير وطنجة، بينما تُترك مناطق جبلية وواحية وداخلية مهمّشة، رغم ما تزخر به من مؤهلات طبيعية وثقافية هائلة. والنتيجة أن الضغط يتركّز في وجهات معدودة، ما يُفاقم الغلاء، ويُضعف من فرص التنويع، ويُسهم في إفراغ التجربة السياحية من بعدها المواطناتي العادل.
في ظل هذا الواقع، لا يمكن الحديث عن عطلة كحق اجتماعي، بل كترف طبقي حُجب عن الأغلبية. إذ تحوّلت العطلة الصيفية من حق للاستجمام إلى رفاهية مؤقتة محصورة في الأشخاص الذين يستطيعون دفع أموال باهظة، بينما تُستثنى شرائح واسعة من المواطنين، ويُرمى بها نحو الهامش، مما يدفعها إلى عدم الثقة في الدولة، وعدم قدرتها على حمايتها أو توفير مساحة للاستجمام بأسعار تراعي فائض دخلها.
في هذا المستوى، يتعين على السلطات المغربية، حكومية أو محلية، أن تسارع إلى إعادة الاعتبار للسياحة الداخلية عبر مجموعة من التدابير الممكنة، من قبيل:
أولا: تطوير برامج للسياحة الاجتماعية، تتيح للعائلات ذات الدخل المحدود فرصة للاستجمام المريح خلال مواسم الاصطياف، فضلا عن تشجيع السياحة القروية والثقافية التي قد توفر بدائل بأسعار معقولة.
ثانيا: بناء بنية تحتية اصطيافية شعبية مجهزة تجهيزًا جيدًا يمكن أن يلعب دورًا مهمًا في تعميم حق الاستجمام، وتشجيع المستثمرين على إنشاء «دور ضيافة، مخيمات منظمة، قرى سياحية، مركبات استقبال..». كما يمكن يمكن للدولة أن تُموّل هذا التوجه بخلق صندوق لدعم السياحة الداخلية، وربط الدعم بتشغيل الشباب المحليين وتنمية المجتمعات المضيفة.
ثالثا : تفعيل رقابة صارمة خلال فصل الصيف، عبر إجبار الفضاءات السياحية على الإعلان العلني عن الأسعار، وتخصيص رقم وطني أخضر لتلقي الشكايات الفورية، وربط الشكايات بآليات تدخّل فعالة لا تقتصر على التوثيق فقط.
رابعا: إخضاع خدمات كراء الشقق والمنازل والإقامات السياحية لنظام قانوني صارم، يفرض التصنيف والترخيص، ويُمنع من خلاله كل عرض غير مصنّف على المنصات الإلكترونية.
خامسا: إعادة التوازن المجالي عبر تحفيز الاستثمار في المناطق الأقل جذبًا، من خلال ربطها بالبنية التحتية، والترويج لها وطنيًا، ومنحها تسهيلات ضريبية وقانونية. فالسياحة ليست مراكش فقط، بل هي أيضًا زاكورة، أزيلال، الريف، الأطلس، وتافراوت، وغيرها من المناطق الغنية بالثقافة والطبيعة.
سادسا: هناك حاجة إلى مراجعة الهيكل التنظيمي لوزارة السياحة، عبر خلق مؤسسة أو جهاز يُعنى بالسياحة الداخلية تحديدًا، يملك صلاحيات رقابية وتقريرية، وقادر على التنسيق مع المجتمع المدني والجهات والعمالات في رسم سياسات محلية عادلة.
سابعا: دعم قدرات المجتمع المدني، وتمكينه من الانخراط في مراقبة السوق، وتعبئة المواطنين، وتوفير شبكات إنذار مبكر حول الغلاء أو الغش أو الاستغلال.
ثامنا: إعادة الاعتبار لفكرة العطلة ذاتها. فالعطلة ليست عطالة، ولا هي ترف عابر، بل هي لحظة لإعادة بناء الذات، وحق في الانفلات المؤقت من ضغط الزمن الإنتاجي، ومتنفس للعدالة والكرامة. حين تُترك هذه اللحظة فريسةً لجشع السوق، نُهدد السلم الاجتماعي من حيث لا ندري، ونُساهم في ترسيخ التفاوت بدل معالجته.
تاسعا: اضطلاع الإعلام العمومي بنقل صورة حقيقية وموثوقة للإشكالات التي يعيشها المواطن مع المضاربين في الأسعار، وفضح ممارسات الاستغلال خلال مواسم الاصطياف، وذلك لخلق ضغط شعبي تعزيز وعي المستهلك بحقوقه.
عاشرا: وضع استراتيجية وطنية شاملة مبنية على مقاربة تشاركية بين الدولة والمجتمع المدني والقطاع الخاص والمستهلك، لكسر الحلقة المفرغة التي تتكرر كل سنة، خلال لحظة الاستجمام الصيفي.
إن ترك الحبل على الغارب أمام «فراقشية العطلة الصيفية» لن يؤدي، في النهاية، إلا إلى اتساع الهوة الاجتماعية وتعميق التفاوتات الطبقية وتغذية الإحباط الاجتماعي. وهذا يدعو السلطات، وخاصة الحكومة التي ترفع شعار «الدولة الاجتماعية»، إلى التدخل من أجل إنصاف الفئة الأوسع عددا من المواطنين، وفك ساحات اشتباكها الظالم مع ارتفاع الأسعار!
تفاصيل أوفى تجدونها في العدد الجديد من أسبوعية "الوطن الآن"