Sunday 22 June 2025
جالية

جمال الدين ريان: مغاربة العالم ونهاية حلم المشاركة السياسية؟

جمال الدين ريان: مغاربة العالم ونهاية حلم المشاركة السياسية؟ جمال الدين ريان
منذ أن خرج إلى الوجود دستور 2011، مُثقلًا بوعود الانفتاح ومُحمّلًا بأحلام دولة تُعيد صياغة علاقتها بمواطنيها، خُيّل لمغاربة العالم أن لحظة الاعتراف السياسي قد أزفت، وأن المشاركة في صياغة القرار الوطني باتت أمرًا قريب المنال. كانت تلك لحظة استثنائية، بدا فيها أن الوطن يُنصت أخيرًا لصوته الموزّع عبر القارات، وأن الجغرافيا لن تكون بعد اليوم سببًا في نفي الحقوق.
 
فصول واضحة في الدستور أكدت على هذا المسار، من الفصل 16 الذي دعا إلى تقوية الروابط مع مغاربة الخارج وإشراكهم في التنمية، إلى الفصل 17 الذي أقر صراحة بحق التصويت والترشح، ثم الفصل 18 الذي أكد ضرورة حماية حقوقهم وتعزيز صلتهم بالمغرب. غير أن الممارسة السياسية لم تسر في هذا الاتجاه. بل بدا وكأن تلك النصوص، بكل ما تحمله من وعود، وُضعت في خانة “النية الحسنة” أكثر منها في خانة التفعيل الحازم. فأن تُكتب الحقوق شيء، وأن تُفعّل شيء آخر، بل إن الفارق بينهما قد يُشكّل أحيانًا استراتيجية في حد ذاتها.
 
في الخطاب الرسمي، يُشاد بدور مغاربة العالم، وتُقدّم الجالية على أنها “رأسمال بشري وطني” و”صوت للوطن في الخارج”. أما حين يتعلق الأمر بالمشاركة السياسية، فإن هذه الأصوات تُختزل فجأة في مجالس استشارية لا سلطة لها، أو تُدعى للمشاركة الرمزية في مناسبات مناسِبة. هكذا يبدو الأمر: تمثيلية بلا تمثيل، حضور بلا تأثير.
 
وراء هذا التناقض، تقف أسباب متداخلة، تُوصف أحيانًا بأنها “تحديات”، لكنها في حقيقتها أقرب إلى أعذار منتقاة بعناية. يُقال إن العقبة تكمن في غياب القوانين التنظيمية، أو في تعقيدات لوجستية تحول دون إجراء الانتخابات في الخارج، أو في تعدد الهويات والانتماءات السياسية والثقافية للجالية. لكن هذه الذرائع لا تصمد طويلًا أمام تجارب دول نجحت، رغم تعقيداتها، في ضمان حقوق مواطنيها في المهجر، بدءًا من التصويت الإلكتروني، مرورًا بالتصويت في القنصليات، وانتهاءً بالدوائر البرلمانية الخاصة بالجاليات.
 
الحقيقة المُضمرة، التي لا يُقال عنها الكثير، هي أن إشراك مغاربة العالم يُربك حسابات مراكز القرار، وقد يفتح المجال لقوى سياسية جديدة، وربما لنقاشات تختلف في نبرتها وسقفها عما اعتاده المشهد الداخلي. وفي بلد لم يُحسم بعدُ في طبيعة توازناته العميقة، قد يبدو توسيع دائرة الفاعلين السياسيين مخاطرة غير مرغوبة.
 
لكن، وفي مقابل هذا التردد الرسمي، يتنامى وعي متزايد داخل الجالية المغربية بالخارج، وعي لا يرضى بدور المتفرج، ولا يكتفي بخطابات التقدير من بعيد. جيل جديد من مغاربة العالم، نشأ في ثقافات سياسية تشاركية، بات أكثر إصرارًا على نيل حقوقه السياسية، ليس من باب الامتياز، بل من باب الانتماء. وهنا، تتجلى المفارقة الكبرى: الدولة تعترف بمغاربة الخارج حين يحتاجهم الاقتصاد، أو حين تقتضي الحاجة الدبلوماسية تلميع الصورة، لكنها تُحجم عن منحهم حق التأثير في القرار، وكأن الوطنية تقاس بالحضور الجغرافي فقط، لا بالالتزام والولاء والمساهمة.
 
القول إن حلم المشاركة السياسية لمغاربة العالم قد انتهى، فيه قدر من التهويل. لكن الأصح أن هذا الحلم وُضع في غرفة الانتظار، ضمن حسابات مؤجلة، وأولويات لا تشملهم حتى إشعار آخر. الحلم لم يُجهض، لكنه مُعلّق. وقد يكون أخطر من الإلغاء هو التأجيل الممنهج، لأن الانتظار الطويل يُحوّل الحق إلى مطلب ثانوي، ويُدجّن الطموح حتى يصير أمنية بعيدة.
إن ما ينقص هذا الملف ليس النصوص، فهي موجودة؛ ولا الآليات، فهي قابلة للابتكار والتأقلم. ما ينقصه، في العمق، هو الإرادة السياسية. إرادة تُدرك أن المواطنة لا تُجزّأ، وأن من يملك رقمًا وطنيًا وجواز سفر مغربيًا لا يُفترض أن يُعامل كأجنبي داخل وطنه الأم، ولو كان على بُعد آلاف الأميال.
 
وفي انتظار هذه الإرادة، يظل السؤال معلقًا: هل نحن أمام تأجيل تقني، أم إلغاء مؤدب؟ وأي معنى لمواطنة تُختصر في التحويلات المالية والتقارير الوزارية، دون أن تتجسد في التمثيلية السياسية؟ وحده المستقبل سيُجيب... لكن الجالية، التي اعتادت الصبر، بدأت تُتقن لغة الانتظار المشروط.