المسلمون اليوم في مرحلة انحطاط غير مسبوقة، هي أكبر مما عرفوه في القرون الوسطى وأظهر من الأمس يوم غزاهم المستعمر الغربي فقطَّعم أوصالا ناسخةً موالاةَ بعضِهم بعضا وأن يشُدَّ بعضُهم بعضا وأن يكون له كالبنيان المرصوص، وأضحينا نتشبّع سعادة بكل علاقة أخوية بين بلدين مسلمين جاريْنِ، ولا نملك الشعور بألَـمِ دماء تُسفَك بين المسلمين.
إن انحطاط المسلمين اليوم لأفجع من جميع المآسي عبر التاريخ الإسلامي إذ هو انحطاط نفسيّ وعَقَدِيٌّ، ومن مظاهره قولُ فقهاءَ تائهين بوجوب موالاة إيران الصفوية وبضرورة نُصرتها وهي تحارب الصهاينة وبضرورة التمسُّكِ بأُخوَّتِها واتخاذ تشيُّعِها ومذهبها الباطني نموذج الإسلام الصحيح بدليل شعار المقاومة، وأن عدُوَّها الأول هو إسرائيل وأمريكا.
ويتلخص تَيْهُ الإسلاميين عن أسباب النصر وعن الإسلام في:
أولا: أنهم اتخذوا أئمةَ الشرك أعداء اللهِ أولياءَ يُلقون إليهم بالمودة ويُسرّون إليهم بها رغم إعلان اتفاق رعيل الشيعة الأول ومتأخريهم على (أن لأئمتهم مع الله حالات هو فيها هم وهم فيها هو) سبحان الله وتعالى عما يشركون.
ثانيا: أنهم ينتظرون النصر من الذين يُكفِّرون الصحابة ويخصون أبا بكر وعمر وعثمان وعائشة رضي الله عنهم بالسب واللعن، ويُدلّسُون بأن صفوية إيران المعاصرة مختلفة تماما عن ماضيها.
ثالثا: أنهم يُزكون مَن يقولون بأن مصحف فاطمة الخاص بالشيعة ليس فيه حرف واحد من القرآن.
رابعا: أن فيالق القدس والحرس الثوري وأذرعَهما لم يقتربوا خطوة واحدة من تحرير القدس بمقاومتهم إلا بالمجازر الوحشية ضد العراقيين والسوريين وإلا بتعريض أهل غزة للتحريق والتشريد ليزدادوا وهْنا على وهْن.
خامسا: أن شعار "المقاومة" الذي خَدَّرتْ به إيران سُذَّجَ العرب والمسلمين العُمْيَ عن دماء مئات الآلاف من العرب وأهل السنة سفكتْها جحافل (فيلق القدس) و(الحرس الثوري) و(الحشد الشعبي) و(حزب الشيطان)، وعن تشريدِهم ملايين السوريين وتمزيقِهم عقابا لهم على أنهم عرب أو أكراد من أهل السنة تطهيرا عرقيا وطائفيا لا تعرف إيرانُ وأذرُعُها سواه، وإنما تقنعت بشعار (المقاومة) لتسويقه ولكأن شعار "الموت لإسرائيل ولآمريكا" دليلٌ وافٍ كافٍ شافٍ يجُبُّ عن إيران جرائمَها في العراق وسوريا، ويُبْعد عنها تهمة الإيقاع بأهل غزة وتقديمهم قربانا إلى حليفتها التقليدية "إسرائيل".
سادسا: أن إسرائيل لم تبلغْ معشار تضييق إيران الصفوية على المسلمين السنة، ولم تبلغ معشار مجازر إيران والحشد الشعبي وحزب الشيطان ضد أهل السنة.
إن التعاطفَ مع إيران والحرص على انتصارها على إسرائيل لا يعدو أن يكون استجارةً من الرمضاء بالنار، فكل منهما يتخذ من العرب وأهل السنة عموما عدوا تقليديا يجب تحييده، غير أن عداوة الباطنيين الصفويين في إيران أكبر وأظهر بقرينة تنزل وصف القرآن ـ في سورة المائدة ـ قوما متأخرين عن حياة النبي صلى الله عليه وسلم يُسارعون في الكفر قالوا ءامَنَّا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم يُحرِّفون الكلِم من بعد مواضعه قد اتَّخذهم اليهود أساتذة لهم بقرينة أن اليهود سماعون لهم.
إن الحرب بين إيران وإسرائيل لَـخَيْرٌ محضٌ ينشغل بها كل منهما عن المستضعفين في المنطقة أي عن العرب وأهل السنة الذين تعتبرهم كل من إيران وإسراءيل عدوا تقليديا وتاريخيا يجب التخلص منه، وما أرى هذه الحرب بينهما إلا حوارا لم يتفق طرفاه بعدُ على تقاسُم الكعكة.
وإن فلسطين لأرض مباركة باركها اللهُ للعالَمِين كما في سورة الأنبياء، والعالَـمون وصف يشمل جميع الناس، ولا يختص به جنس من الأجناس، وفقِهَ أحبارُ اليهود ما جهله فقهاء المسلمين أن الأرض المباركة حول القدس لن يتنزَّل عليها العذابُ ـ كالذي أهلك اللهُ به قوم نوح والأحزابَ من بعدهم ـ يوم يُصبح مطلع الفجر من ليلة القَدْرِ شهادةً.
إن تيارَيْنِ اثنين قد ازداد بكل منهما العامة في فلسطين قَرْحا وجُرحا وتشرُّدا وتحريقا: أحدهما: الفكر الشيوعي اليساري الذي أَلْـهَم الثوريين الفلسطينيين العملياتِ الانتحاريةَ والاختطافَ فاتخذوا الحشاشين الباطنيين قدوة، وآخرهما التيار الإسلامي الجهادي الذي اعتبر الواقع وَهْمًا من الأوهام وتجاهَلَ أن عدوَّهم يملك طعامهم وشرابهم ودواءهم وكهرباءهم وأوراقهم النقدية.
إن الإسلاميين المعاصرين لم يملكوا لأهل غزة غير فتنتِهم فتنةً تجعل الحليم حيران باعتبار كل ما يزداد به أعداد الأسرى والقتلى واليتامى والثكالى والمشردين جهادَ دفْعٍ ونصر مؤزر.
إن الإسلاميين المعاصرين قد ابتدعوا منكر القول باعتبار وجوب مقاطعة إسرائيل وتجريم التطبيع فدلّسوا على العامة وجهّلوها وحرَّفوا الكلم عن مواضعه، إذ لا تخفى ضرورة مسارعةِ المسلمين ـ كل بحسَب الوُسْعِ والأسباب ـ إلى محاورةِ مَن يحتجزون مسلما أو يأسرونه والتنسيقِ معهم لافتدائه وفكاك رقبته من الأسر بالمال وغيره، ولا تعني الدعوة إلى مقاطعة مَن ملكتْ أيمانُه أسرى المسلمين غيرَ خذلان الأسرى وإسقاطِ ضرورة موالاتهم بالسعي في تحريرهم وفكاكِ رقابهم.
إن الفتن المعاصرة المتلاحقة لتحتاج حوارا مؤصلا يَفرضُ عزْلَ العامة عن حروبٍ آثمة يُقتَل فيها الرضع والأطفال والنساء وسائر الخوالف (غير المقاتلين) ولينحصر شرر الحروب في حمَلة السلاح.
الحسن ولد ماديك/ باحث موريتاني في تأصيل القراءات والتفسير وفقه المرحلة ولسان العرب