حين يحتد الجدل بين من يرفع صوت الإنجاز، ومن يرفع صوت النقد قد يبدو الأمر وكأنه انقسام في الرؤية. لكنه في الحقيقة تعبير صحي عن وطن حي، ما يزال في طور النحت بين مطرقة الواقع وسندان الأمل. في بلدي، تتصارع أحيانا مقاربتان: الأولى ترى في الدولة راعية للتقدم وإن كان بطيئا، والثانية تراها مسؤولة عن التأخر المزمن في العدالة الاجتماعية. والمقاربتان ليستا متضادتين بالضرورة، بل هما وجهان لحقيقة واحدة: وطن يتقدم، لكن ليس للجميع.
فالذين يدافعون عن الدولة، يرون أن المغرب لم يبدأ مشروعه التنموي إلا قبل قرن، وأن ما تحقق خلال العقود الأخيرة يعد قفزة نوعية: البنية التحتية من طرق وسدود وموانئ وجامعات ومستشفيات، ومشاريع الطاقات المتجددة ثم الحماية الاجتماعية، والقطار فائق السرعة... كلها مؤشرات على أن الدولة لا تكتفي بإدارة الأزمات، بل تراكم المكاسب. ويضاف إلى ذلك أن البلد واجه خلال السنوات الأخيرة ثلاث صدمات كبرى: جفاف قاس ومتكرر استنزف مخزون الأمن الغذائي وسبب الإجهاد المائي وجائحة عالمية أرهقت الأنظمة الصحية والمالية، وزلزال مدمر في الحوز استدعى تعبئة مؤسساتية وإنسانية غير مسبوقة.
هذه الوقائع يجب أن تدرج ضمن أي قراءة موضوعية لمسار التنمية في المغرب، إذ لا يصح محاسبة الأداء الوطني وكأنه تحقق في ظروف طبيعية.لكن في الطرف الآخر، يقف المواطن النقدي، (لا بالعدمية، بل بالقلق الصادق) يسأل: من يستفيد فعليا من هذه المشاريع؟ وكيف وزعت الموارد المتبقية بعد تلك الأزمات؟ وهل أُحسن تدبيره؟فالمسألة لم تعد فقط: لماذا لم تشيد مستوصفات أو مدارس لائقة؟ بل: هل كان بالإمكان توجيه ما تبقى من إمكانيات الدولة بقدر أعلى من العدل والنجاعة؟
والأهم من كل هذا، أن لا نختزل المواطن في كونه رقما في معادلة الاقتصاد. فالمواطن ليس عنصرا مجهولا (x) نبحث عن موقعه، بل هو محور المعادلة من أصلها. ومن أجله وضعت السياسات العمومية، ومن أجله تبنى المؤسسات، وبوضعه المعيشي تقاس فاعلية الدولة. مع التأكيد على أن التنمية ليست رفاهية، بل مسار مؤلم أحيانا. فالفرنسيون الذين بنوا أنفاق باريس لم يكونوا مرفهين تماما. كما لا ينتظر المغرب أن ينهض بمعجزات ، غير أنه يستحق أن يقال له: إنك تمشي، ولكن عليك أن ترى من يسير خلفك، لا أن تنظر فقط إلى من سبقك.
وفي المحصلة علينا أن ندرك بأن الواقعية ليست صمتا عن الخلل، كما أن النقد ليس خيانة، وبين الواقعية الوطنية والواقعية النقدية، تكمن حقيقة أن المغرب ليس وطنا ينهض للبعض دون غيرهم، بل وطن يتقدم لأجل الجميع، في ظل الأمن والاستقرار والعدالة الاجتماعية.