Friday 23 May 2025
فن وثقافة

الحنوشي: كمال عبد اللطيف.. الأستاذ و القدوة 

الحنوشي: كمال عبد اللطيف.. الأستاذ و القدوة  كمال عبد اللطيف (يمينا) وعبد الرزاق الحنوشي 
أتيحت لي الفرصة لحضور ومتابعة الندوة التي نظمتها شعبة الفلسفة بكلية الآداب والعلوم الإنسانية يوم الأربعاء 14 ماي 2025 بالرباط تكريما للأستاذ والصديق كمال عبد اللطيف، حيث اتخذ هذا التكريم طابعا فكريا وأكاديميا مميزا من خلال الكتاب الجماعي الصادر بمناسبة هذا اللقاء الاحتفائي بعنوان "التنوير أفقا".
 
غير أن مداخلة ذ. محمد الشيخ قد أثارت انتباهي بشكل خاص لكونها تضمنت بعض الأحداث والطرائف و" القفشات" التي جمعت المتحدث بالمحتفى به عندما كان هذا الأخير أستاذا للأول، وتشاء الصدف أن أكون أنا كذلك أحد "الشهود"، بحكم دراستي الجامعية خلال نفس السنة، وبنفس الشعبة، وبنفس المدرج، ولن أعود إلى تفاصيل تلك الوقائع التي أوردها ذ. الشيخ في مداخلته، وسأكتفى بتزكية ما ذهب إليه بشأن الطقوس المميزة و المشوقة لدروس الفلسفة اليونانية التي كان يقدمها لنا ذ. كمال عبد اللطيف كل يوم ثلاثاء على الساعة الثانية زوالا بمدرج ملحقة السويسي الثاني الحديث البناء حينئذ (السنة الجامعية 1984 – 1985)، استحضر أيضا الصعوبات بل المغامرات والمخاطر التي كانت تحيط بوصولنا الى تلك الملحقة، مع انعدام وسائل النقل واضطرار جل الطالبات و الطلبة للمخاطرة والمرور عبر السكة الحديدية غير المحروسة والمجازفة باختراق مزارع فيتا  (VITA) غير الآمنة.
 
كانت لشعبة الفلسفة آنذاك جاذبية كبيرة، وكانت شهادة الإجازة تستغرق أربع (4) سنوات، وكانت السنة الأولى تعرف اقبالا كبيرا، لذلك كانت أغلب الدروس تتم بالملحقة الجديدة  لتوفرها على مدرجات فسيحة تتسع لأعداد كبيرة من الطلبة.
 
كانت الشعبة حينئذ تعنى بالفلسفة، وعلم الاجتماع وعلم النفس، وكانت السنة الأولى بمثابة جدع مشترك  تقدم فيه دروس تغطي التخصصات الثلاث، وكان الطالب (ة)  مطالب باجتياز امتحان السنة الأولى بنجاح، وبعدها يختار أحد التخصصات الثلاث، وكان امتحان السنة الأولى هو نقطة التحول الأساسي في المسار الدراسي الجامعي، فإما أن يتمكن الطالب (ة) من تجاوز  هذه "العقبة"، بسلام و يواصل دراسته أو يغير وجهته. لذلك كنا نلاحظ ذلك الاقبال الكبير على التسجيل بالسنة الأولى والحماس الكبير الممزوج بنوع من الشعور بالتميز، وكنا نلاحظ الإقبال الكبير للطلبة على حضور الدروس بمدرجات مملوءة عن آخرها.
 
غير أنه بمجرد الإعلان عن نتائج امتحانات السنة الأولى "تتبخر" تلك الأعداد الغفيرة ليصير عدد طلبة السنة الثانية، لا يتجاوز بضع عشرات في كل تخصص: فلسفة عامة بعدد قليل لا يتجاوز الأربعين، وعلم اجتماع،و علم النفس، بينما كان العدد في السنة الأولى يعد بالمئات.
 
بالعودة إلى دروس الفلسفة اليونانية التي كان يقدمها لنا ذ .كمال عبد اللطيف بمنهجيته الخاصة المعتمدة على النصوص، فلم يكن يكتفى بتبليغ وشرح المضامين والوقوف على دلالات المفاهيم والمقولات، وسرد مختلف الوقائع وتوضيح السياقات التي انتجت فيها مختلف الأفكار والنظريات، بل كان درسه أيضا يحيط بجوانب أخرى تروم التنبيه لبعض "المنزلقات" والاحتراس الضروري في تناول بعض المواضيع.
 
ولا زلت أتذكر إلى اليوم بعضا منها، كان عندما يقدم لنا بعض الشذرات من محاورات أفلاطون مع السفسطائيين، كان دائما يحرص على أن يذكرنا بالسياق التاريخي والسياسي لتلك الحقبة، وكان ينبهنا إلى الكتابات التي ترسم صورة سلبية عموما حول السفسطائيين، وكان يلفت إنتباهنا بأهمية إعمال التفكير النقدي وعدم التعاطي مع مثل هذه السرديات كحقائق ثابتة ، بل مجرد وجهات نظر قابلة للنقاش والتمحيص والتفنيد أيضا.
 
وكان ذ. كمال عبد اللطيف أيضا يحثنا ويحفزنا على قراءة الكتب والمراجع باللغة التي كتبت بها، ولطالما حذرنا من التزييف والتحريف والبتر الذي يقع فيه بعض المترجمين، ولفت انتباهي آنذاك صدور ترجمة عربية لكتاب تاريخ الفلسفة اليونانية للكاتب إميل برييي (Emil Brèheir Histoire de la philosophe grecque). ولما اطلعت على الترجمة العربية التي تحمل توقيع جورج طرابيشي، صدمت من هول ما وقفت عنده من " كوارث" في الصيغة العربية مقارنة مع النص الأصلي، وعندها فهمت جيدا تنبيهات ذ. كمال عبد اللطيف، والذي كان يلزم نفسه أثناء تقديم دروسه على الإحالة الى المصادر والمراجع بحرص كبير منه على توخي الدقة والضبط.
 
كانت دروس ذ .كمال عبد اللطيف، أيضا دروسا في الحياة، يتم تمريرها بسلاسة وبيداغوجية، ولازالت في هذا الصدد بعض المقولات راسخة في ذهني الى اليوم، كان قد أوردها في إحدى محاضراته، ومنها: "إن الإنسان لا يمكن أن يصنع شيئا مع أناس تمت صياغتهم من قبل"، وهي مقولة منسوبة لسقراط على لسان أفلاطون، وهي مقولة تفسر بشكل دقيق الحالة التي كان عليها الوضع بين سقراط وخصومه والتي انتهت بإعدامه، لكن هذه المقولة تتجاوز في مدلولاتها سياقها الخاص لتتحول إلى حكمة لها كل مقومات الديمومة.
 
هذه إذن بعض الذكريات على بساطتها، تؤكد ما أجمع عليه كل المساهمين في تكريم أستاذ الأجيال الصديق كمال عبد اللطيف، من كونه ليس مجرد مدرس بارع للفلسفة فقط، بل صاحب مشروع فكري تنويري وتحديثي، وقبل ذلك وبعده قدوة حسنة في المهنة والحياة وفي المجتمع، كما أكد ذلك صديقه الأقرب وزميله ذ. عبد السلام بنعبد العالي الذي توقف في شهادته عما أعتبره إحدى أهم خصال كمال عبد اللطيف:" إقباله على الحياة، إقباله على العمل، على المعرفة وعلى الآخرين، ذلك الإقبال الذي يتجلى في الإبتسامة التي لا تفارقه وفي شغفه الذي لا يكل بمتابعة ما استجد في مجال الفلسفة والأدب…. وفي مثابرته الدؤوبة على الكتابة والانتاج وفي قدرته الجبارة على خدمة الآخرين والتفاني في اسداء المعروف إليهم"
 
وبالفعل إذ كان المنجــز الفكــري الــذي حققــه ذ .كمــال عبــد اللطيــف طيلــة العقــود الأربعــة الأخيــرة يشــهد لــه بحيويــة لافتــة في الحقــل الفلســفي والمعــرفي المغربــي والعربــي، وبانتظاميـة مُسترسـلة في الكتابـة والبحـث والمواكبـة والحضـور، فإنه جعـل مـن الكتابـة اختيـارا وجوديـا وليـس مجـرد تعبيـر عـن التزامـات أكاديميـة، أو أداة للتواصـل؛ فهـو يعـرف كيـف يسـتثمر القاموس المناسـب لـكل إطـار يكتـب فيـه، كما سجل ذلك  ذ .محمد نور الدين أفاية في تقديم كتاب "التنوير أفقا".
 
الندوة التكريمية خلفت لدي إنطباعا إيجابيا جدا ليس فقط لأن أصحاب المبادرة مشكورين قد أنتصروا لثقافة الإعتراف والتكريم بمحهودات وعطاءات من سبقوهم في هذا الحقل المعرفي البالغ الأهمية فحسب، بل لأن ديمغرافية الحضور وتنوعه قد أشرت على أن حاضر ومستقبل الدراسات الفلسفية ببلادنا مسقبل واعد وأن جيل المؤسسين ومن أعقبهم قد نجحوا في تهييء الخلف في هذا التخصص الذي لم يفقد جاذبيته رغم كل المحن، وأن الجامعة العمومية لا زالت المشتل الحقيقي للنخب الفكرية والعلمية رغم كل العثرات وحالات الشدود.