الأحد 19 مايو 2024
كتاب الرأي

عمر لبشيريت: قصة نجاح.. عندما تتحول النقابة إلى “باطرونا"

 
 
عمر لبشيريت: قصة نجاح.. عندما تتحول النقابة إلى “باطرونا" عمر لبشيريت
كانت الأزمة الاقتصادية شاملة وقاسية بإقليم الكيبيك وكندا في بداية الثمانينات. ملامحها انكماش اقتصادي، تراجع نسبة النمو، ارتفاع نسبة البطالة بشكل كبير، إغلاق وإفلاس المعامل، تسريح العمال، وارتفاع أسعار الفائدة بشكل مخيف مابين 18 و20٪؜. كانت سنوات سوداء..
خرج قياديو أكبر مركزية نقابية بالكيبيك FTQ) فدرالية عاملات وعمال الكيبيك)، في خضم تلك الأزمة القوية مقترحين حلا أثار سخرية وانتقاد الجميع آنذاك: خلق "صندوق للتضامن" يساهم فيه العمال والحكومة وأرباب العمل، تكون مهمته دعم التشغيل، الحفاظ على فرص العمل ودعم المقاولات.
الحكومة لم تكن متحمسة، فيما النقابات الأخرى اتهمت أصحاب الفكرة بإثقال كاهل العمال باقتطاعات جديدة، أما حلفاء النقابة من الشيوعيين والماركسيين فقد سخروا من الفكرة بحجة تحول النقابة إلى "باطرون".
أخدت النقابة على عاتقها إطلاق هذه المغامرة وحيدة رغم تحفظ الجميع وعدم تحمسهم للفكرة. حيث شكل يوم 23 يونيو 1983 انعراجا ايدولوجيا كبيرا في تاريخ النقابة من خلال إعلان ميلاد "صندوق التضامن".(Fonds de solidarité FTQ) كان المولود الجديد سابقة في تاريخ النقابات وتاريخ التضامن العمالي. كانت النماذج القائمة، آنذاك في العالم، تقوم على استثمار العمال في مصانعهم مع مخاطر فقدان العمل والأموال في حالة الإفلاس.
الجديد الذي جاءت به النقابة يعتمد على استثمار العمال لمدخراتهم ولتقاعدهم بالصندوق مقابل خصومات ضريبية مهمة وعائدات استثمارية واعدة وضمان للمخاطر. بالمقابل يقوم الصندوق باستثمار الأموال في مقاولات واعدة من أجل الحفاظ على مناصب الشغل وخلق فرص شغل جديدة..
كانت فكرة النقابة تقوم على مواجهة الأزمة الاقتصادية الخانقة من خلال دعم المقاولات المهددة والحفاظ على مناصب الشغل وتفادي تسريح العمال.
ما يسجل أيضا أنه رغم عدم تحمس الأبناك ولا رجال الأعمال، انطلقت الاكتتابات وسط العمال من خلال اقتطاع أسبوعي يصل إلى عشرة دولارات لكل عامل منخرط.
انطلقت المغامرة من العمال وتنظيمهم النقابي، حيث كانت أولى المساهمات من أموال العمال البئيسة أصلا. اليوم بعد أربعين عاما أصبح "صندوق التضامن" من اللاعبين الكبار في مجال الاستثمارات ودعم المقاولات وخلق فرص الشغل بكندا والكيبيك.
انطلق بعشرة دولارات للعامل الواحد وأصبح اليوم يتوفر على رأسمال يصل إلى 18 مليار دولار و759 ألف مستثمر وله استثمارات في 3600 مقاولة تشغل 300 ألف عامل..
بالتالي فإن قصة النجاح هذه يقف وراءها زعماء نقابيون كانت لهم، في عز الأزمة، نظرة مستقبلية وطموح وشجاعة سياسية وايديولوجية لتغيير ودعم عمال الكيبيك وتقوية المقاولات الكيبيكية.
بعد السنوات الأولى لخلق الصندوق وبصبر وتحدي خيالي ومن خلال عمل يومي وفكري تطوعي، تجند له اقتصاديو وخبراء وأطر النقابة، بدأت النتائج تظهر والمولود ينمو ويكبر ويذهل الجميع.
بعد النجاحات الأولية التحقت الحكومة التي قدمت دعما سياسيا، بضغط من البرلمانيين وحلفاء النقابة، من خلال إعفاء أموال العمال المدخرة بالصندوق من ضريبة الأرباح. حيث استطاع العمال ضمان ربح حوالي 30% من الاقتطاعات الضريبية على أموالهم زائد ضمان عائدات استثمارية تصل إلى 2% خلال ستة أشهر و 4,7% خلال عام و5,1% خلال خمس سنوات ثم 6,7% خلال عشر سنوات. أصبح الصندوق سندا كبيرا للعمال من أجل الادخار للتقاعد وبأرباح واعدة جدا.
كانت النقابة العمالية واضحة وهي تتحول إلى شريك اقتصادي، ترجمانا على أنه لا محيد عن الخيار الديموقراطي الاجتماعي. لذلك كانت تدخلات واستثمارات "صندوق التضامن" مختارة بعناية تتمثل في: دعم المقاولات الصغرى والمتوسطة والحفاظ على مناصب الشغل وخلق فرص شغل جديدة.
لذلك نجدها قد ركزت على القطاعات التي تعاني صعوبات مالية وعلى الجهات البعيدة والمدن الصغرى والهشة، والمقاولات المهددة بالانهيار، والمقاولات الناشئة والشباب.
كانت الأرباح والعائدات خيالية وكبر الصندوق ليتحول إلى قاطرة للتنمية ودعم مجهودات الدولة وشريكا في النهضة الاقتصادية والاجتماعية وتشييد البنية التحتية والطرقات والنقل.
أصبح الصندوق اليوم مطلوبا من طرف الدولة للتدخل في الاستثمارات الهيكلية وشريكا لصندوق الإيداع والتوفير بالكيبيك وللأبناك في كافة المشاريع التنموية الكبرى.
أصبح اليوم قاطرة لا محيد عنها في التنمية، حيث استطاع خلق 77 صندوق استثماري متخصص و87 صندوق محلي للتضامن و16 صندوق جهوي للتضامن، كما قام بإنشاء "الصندوق العقاري للتضامن" وصندوق الطاقة البديلة.
لقد تنوعت استثمارات الصندوق لتطال جميع القطاعات الاقتصادية، من صناعة الطيران والفلاحة والتكنولوجيا الحديثة والصحة والمعادن والطاقة والصناعة والعقار وتكنولوجيا المعلومات والخدمات والاتصالات والغابات والاقتصاد الاجتماعي والتجارة… إلخ.
أما أن تترأس "صندوق التضامن" فذلك يعني إما أن تصبح في المستقبل وزيرا أولا، أو وزيرا، أو موظفا حكوميا كبيرا، أو رئيسا تنفيذيا لكبريات الشركات.
ينتخب المدير العام للصندوق خلال مؤتمر النقابة، لكن هناك فصل واضح للسلط. الصندوق ورئاسته ليست ريعا نقابيا ولا منصباً للتوظيف او الاغتناء، هو صندوق استثمار يسري عليه كل ما يسري على الأبناك والشركات.
هكذا استطاع زعماء نقابيون (وهم يواجهون أزمة اقتصادية طاحنة) من إبداع حل لإنقاذ الاقتصاد ودعم فرص الشغل والمساهمة في نهضة المجتمع. زعماء كانت لهم نظرة ثاقبة وشجاعة سياسية وايديولوجية، وفوق ذلك ثراء فكري وحس وطني، وشعور كبير بالمسؤولية.
لم يغتني أي أحد منهم ولا وظف أبناءه وخلق لهم مكاتب للدراسات. والأكثر من ذلك لم يتسول الدولة ولا ساومها.
اليوم نقابة FTQ وهي تشرف على صندوق ضخم ورافعة اقتصادية للعمال وللبلد، لا تزال تواصل نضالها وتدافع عن العمال بشراسة، آخرها الإضراب عن العمل اللامحدود في الصحة والتعليم.
إن النتيجة اليوم هي أنها كنقابة عمالية لاعب أساسي في التنمية الاقتصادية ورقم كبير في النضال العمالي.