الخميس 28 مارس 2024
فن وثقافة

محمد دخاي: "أصحاب ولا أعز" ودلالات بلاغة خلخلة أفق انتظار المتلقي

محمد دخاي: "أصحاب ولا أعز" ودلالات بلاغة خلخلة أفق انتظار المتلقي محمد دخاي مع صورة بطلات وأبطال فيلم "أصحاب ولا أعز"

خلفت القراءات المتعددة المبنية على تعدد التلقي النقدي والفكري لفيلم "أصحاب ولا أعز" نقاشا كبيرا امتد إلى قضايا خارج الابداعية الفنية المرتبطة بهيمنة الوظيفية التخيلية التي تشتغل على خطاب السينما، مما افرز قراءات مغرضة ومؤدلجة خارج السياق عرضت الفيلم للتنقيص المجاني وفي تبخيس واضح للخطاب السينمائي في سعيه لبناء أنساق فكرية وتواصلية بغاية التأثير والإمتاع، وشد المشاهد من أجل الانخراط الإيجابي  في أي عمل ابداعي لطرح جملة من الأفكار والقضايا والقناعات.

 

"أصحاب ولا أعز" وخلخلة أفق انتظار المتلقي

التلقي النقدي لفيلم "أصحاب ولا أعز" المعروض على منصة نتفليكس لا يخرج عن كونه إحدى التجارب الإبداعية الثقافية والفنية التي جمعت ما بين المتخيل ومساحات الواقع العادي من خلال بناء حكي سردي بوصفه نمطا من أنماط الخطاب يحاول أن يقنع المتلقي من خلال اقحامه في زاوية الانخراط الضمني لمعايشة الأحداث مع مجموعة من الأصدقاء (ثلاثة أزواج وزوجاتهم، وصديق لهم يدعى ربيع) يجتمعون على العشاء مع متابعة ظاهرة كونية ترتبط بالخسوف لكن صدمة المتلقي ستكبر أكثر عندما يقررون لعب لعبة مثيرة بأن يتركوا جميعاً هواتفهم على مائدة الطعام ويردون على الرسائل والمكالمات التي يتلقونها أمام الجميع دون محاولة لإخفاء أي أسرار عن المتواجدين...

دلالات الخسوف ليس مرتبطة فقط بواقع متابعتها فقط كظاهرة كونية أنها إحالة على خسوف البشر من خلال انفضاح أمور خاصة أصبحت مرتبطة بواقع الهواتف التي شغلت الدنيا وملأت الناس وتحولت إلى علبة سوداء، مما خلق نوعا من اللاتوازن وعدم التكافؤ في معايير التواصل داخل العائلات وهو ما عمل الفيلم على مناقشته عبر رؤية إبداعية يتداخل فيها نمطين من الخطاب؛ الخطاب التداولي الحجاجي والخطاب التخييلي...

لقد نجح الفيلم الذي يدور في زمان ومكان مغلقين من بدايته إلى نهايته في زعزعة أفق انتظار المتلقي من خلال إقحامه في اللعبة بشكل مغاير، مما يجعله يبحث عن مخرج لزوج مريم (منى زكي)، تلك الأسرة المصرية التي تعيش في لبنان وتعيش مفارقة غريبة باعتبارها أسرة مسلمة وجدت نفسها تنخرط في لعبة اجتماعية جديدة خارج الضوابط الدينية المبنية على ثنائية الحلال والحرام، وهو ما تبرزه مشاهد لجوء مريم (منى زكي)، إلى شرب الخمر في بداية الأمر بشكل سري قبل أن تنخرط في تكسير قواعد اللعبة عندما ستجد نفسها في موقف صعب عندما يطلب زوجها شريف (إياد نصار) من ربيع (فؤاد يمين) استبدال هواتفهما المتشابهة لكي يهرب شريف من مشكلة مع زوجته، وهو الذي كان ينتظر صديقته لكي ترسل له صوراً عارية، ويُفلت شريف من المشكلة ويتورط في مشكلة أكبر، عندما يتلقى رسائل على هاتف ربيع يتضح منها ميوله -ربيع- الجنسية الشاذة، فتُصدم مريم (منى زكي) زوجة شريف، وتتشاجر مع زوجها وتُفصح أمام الجميع عن أسرار حياتهما الجنسية وما يعتريها من فتور وكيف لشخص لا يقربها منذ سنة تقريبا، أن تكون له علاقة شاذة خارج الضوابط وهو ما يحرك اللاشعور الديني عند مريم (منى زكي)، القائم على تحريم المثلية الجنسية ورفضها رفضا قاطعا، قبل أن تعود الأمور إلى مجاريها بعد اكتشاف المقلب في نهاية الفيلم، وفي مواقف وجد فيها المشاهد نفسه يتعاطف مع شريف (إياد نصار) أكثر من الشاذ الحقيقي ربيع (فؤاد يمين)...

 

"أصحاب ولا أعز".. كل القراءات ممكنة

لقد سقطت أغلب القراءات التي تناولت الفيلم في فخ أحكام القيمة بعد أن قاربت الفيلم من بوابة مرجعيات أخلاقية وأخضعت الممثلين، وخاصة الفنانة (منى زكي)، إلى محاكمة اخلاقية بدعوى التعري المجاني في الفيلم، وكما يرى الناقد محمد شريف بأنها كانت من الفنانات اللاتي رفعن شعار "السينما النظيفة" قبل أكثر من 20 عاماً، وكسبت جمهوراً عريضاً من أصحاب الفكر المحافظ، ها هي تخذل هذا الجمهور وتتخلى عنه، وتصدمه وتُشعره بأنها خدعته، علما أن الفيلم نجح من خلال السيناريو في بناء الصور السردية كصيغ خطابية وأن التقاطها من طرف المخرج جاء متماهيا مع الحوار وهو ما لم يشعر معه المتلقي بالملل وهو يدور في مكان واحد، لطرح ثيمة الخيانة الزوجية والمثلية الجنسية في سياق حجاجي يتقاطع فيه التداولي بالمتخيل، سواء كان غربيا بحكم أن الفيلم "أصحاب ولا أعز" مقتبس من فيلم إيطالي ينتمي إلى ما يسمى بالدراما الكلاسيكية الكاشفة يحمل اسم "PERFETTI SCONOSCIUTI"، أو عربيا، وهو ما تم رفضه من طرف بعض القراءات بدعوى أنه لا يعكس الثقافات الشرقية المبنية على ما يسميه محمد النويري في كتابه (البلاغة وثقافة الفحولة) بالحذق وجودة السياسة والحزم الرفيق والتلاحم والتكافل والسيادة والفحولة والشهامة والقوة والمكابدة والشوق والذكورة، وكأنها ثقافات لا تعرف شيئا اسمه الخيانة الزوجية أو المثلية الجنسية...

 

"أصحاب ولا أعز".. ما بين التخييلي والتداولي

لقد نجح الفيلم فيما يشبه السخرية باعتبارها مفارقة استرجاعية في طرح قضايا تدخل في إطار المسكوت عنه، بغاية البحث عن الياتها ورؤيتها القائمة على الفضح والخروج من الالتباس الذي يحيط بها من أجل تحويل قضايا متعددة خلفت نقاشا فكريا عبر الإبداعية السينمائية تثير الخيال العام وتحقق ما يسميه (رولان بارت) باللذة الفنية وفي إطار رؤية فنية تعيد طرح أسئلة ترتبط بإمكانية النظر إليها من زوايا متعددة ومختلفة، بل وصادمة لا تخرج عن التصورات المعاصرة المرتبطة بتغير القيم وتحولات تكنولوجيا الاتصال وما أحدثته وسائل التواصل الاجتماعي عبر العالم، لأنها أضحت جزءا من الواقع المعيش، نجحت فيه الصورة السينمائية في شد المتفرج إلى تواصل وجداني معها لما لها من قيمة جمالية كما يرى(إدكار موران) لأنها تجمع ما بين قيمتي المعرفة المنطقية والمشاركة الذاتية، استطاع من خلالها مخرج الفيلم وسام سمايرة في التأسيس لترجمة فنية لدهشة الفكر، لا تحددها رؤية جمالية ثابتة، ولكن عبر رؤى تنطلق من سياقات تدفع المتلقي إلى طرح العديد من الأسئلة التي تعمد إلى تغيير نظرتنا للحياة وإعادة اكتشاف ما يبدو غير عادي وبجميع انزياحاته الاجتماعية والثقافية، وخاصة قضايا الخيانة الزوجية والمثلية الجنسية.

 

محمد دخاي، باحث أكاديمي في التواصل وتحليل الخطاب