الخميس 28 مارس 2024
فن وثقافة

الشاعر الفلسطيني غسان زرقطان يتحدث عن متحف ياسر عرفات.. الرئيس الثائر

الشاعر الفلسطيني غسان زرقطان يتحدث عن متحف ياسر عرفات.. الرئيس الثائر الشاعر الفلسطيني غسان زرقطان
في خريف 2016 أنجز العمل الطويل في متحف ياسر عرفات، كنا نشكل فريقا صغيرا لكتابة وتكثيف الوثائق وتدقيقها، أحمد نجم  وأنا وفريق مؤسسة عرفات، وبينما كان العمال والمهندسون يرفعون الأدراج والجدران والطلاء وبلاط القاعات كان هناك من يرتب مقتنيات عرفات وسريره ويعلق زيه العسكري، كان اللقاء مساء  ولساعات  حيث يجري النقاش والتدقيق في مكتب د.ناصر القدوة الذي كان ينبش كل وثيقة ومصطلح ويقارن التواريخ ويصغي ويجادلني في الصياغة ويقدم اقتراحاته بطريقته القريبة الى القلب، كان ذلك مبهجا رغم تراكم العمل ومفيدا. هنا أعيد نشر هذه المقالة التي كتبتها تحت ذلك الضوء ومع تلك الرفقة:

صداقة ياسر عرفات
عليك أن تعبر إلى جانب الضريح في طريقك إلى بناء المتحف، سيكون الضريح على يمينك محاطاً بزراعة صغيرة وسطح مائي خفيف، هناك ينام ياسر عرفات، الضريح هو الوثيقة الأولى، غير المقصودة، ربما، التي عليك أن تحملها مثل دليل غير مقصود، أيضاً، وأنت تدلف المدخل الرئيسي لمتحف ياسر عرفات، ستفكر بتلك المساحة التي بني كل هذا على آثارها، الأرضية المعبدة ومهبط الطائرات. هنا كان ياسر عرفات قبل أن يشتد الحصار يتمشى قليلاً ويعرض يديه للشمس، وسيكتنفك ذلك الإحساس بأنه، الضريح، يقودك في الممرات الصاعدة المزدحمة بالأحداث والصوت والصورة ليوصلك الى غايته البسيطة، الغاية التي ستضح عندما تجد نفسك أمام الغرفة الصغيرة تحدق في السرير العسكري الفقير حيث قضى الرجل ليلته الأخيرة في رام الله. السرير هو الوثيقة الأخيرة التي سترافقك وأنت تهبط الدرجات عائداً من نفس الممر نحو البوابة الخارجية حيث سيكون الضريح الى يسارك.
ليس المقصود، هنا، الحديث عن أهمية المتحف ومقتنياته وكونه إضافة ثمينة وجسراً يأتي من التاريخ ويعيده الى التجربة، ليس لتقمصه ولكن للبناء عليه وتأمله كاملاً بسجاياه وآلامه وأحلامه الكبيرة مكوناً أساسياً من الراهن دون ادعاء أو تقمص أو جمود، تلك أشياء وممتلكات عامة أقرب الى "الوقف"، يمكن العثور عليها في الوثائق والتواريخ.

أفكر بطاقة "الشكر" التي رافقت كل هذا، الفكرة والإعداد والعمل.
شخصية، هكذا يمكن أن أصف علاقتي بمتحف ياسر عرفات الذي سيفتتح خلال أيام في رام الله، شخصية وخاصة ويكتنفها شعور غامض، يصعب تفاديه، بالافتقاد والخسارة، علاقة تراكمت من خلال مشاركتي مع فريق المتحف في تحرير وتسجيل الرواية التاريخية المعاصرة، التي غطت الفترة ما بين منتصف القرن التاسع عشر حتى تلك الصبيحة من نوفمبر عام 2004.
كان العمل يتحرك ببطء ودقة معتمداً على مصادر ومراجع ووثائق مرئية ومكتوبة استطاعت مؤسسة عرفات جمعها وتصنيفها، لتشكل في النهاية نصاً سردياً متماسكاً وموثقاً وسليماً من الزوائد البلاغية والانشاء.

الرواية التي تحيط بك وأنت تصعد الممرات وتنعطف في نهاية كل ممر لتواصل الصعود في تناوب بين الصورة والصوت مثل دورية حراسة أبدية، قبل أن تدلف غرفة "المرافقين" الضيقة التي يغطيها البث المشوش لجهاز تلفزيون قديم، سمح لهم ياسر عرفات بالاحتفاظ به وشاركهم في ملاحقة العالم على شاشته التي تعطلت الآن.

ستفكر وأنت تقف أمام المساحة الضيقة وسريره العسكري المرتب، أظن أنه من تلك الأنواع القابلة للطي، أنه في طريقه للحصول على اغفاءة قصيرة كعادته، كان يلتفت للحظات، بعفوية المنتبه، إلى الجهاز الذي يرتفع عن الأرض بقامة رجل متوسط الطول.
في الحكاية يظهر عرفات في سنوات الثلاثينات من القرن الماضي، طفلاً يتجول في الزاوية الفخرية (زاوية أبو السعود/ أخواله) في حي المغاربة في القدس، الزاوية التي هدمت في العام 1969، وهو يمسك يد شقيقه الأصغر. إذا كان لي أن أختار فسأبدأ من هناك تحديداً في الزاوية الفخرية، سأمسك يد الطفل وأمشي معه في حارات القدس وشوارعها، بينما فلسطين تنتظر بصبرها الخاص استشهاد الشيخ السوري عز الدين القسام في أحراش يعبد، الشيخ الذي وصل عكا على ظهر مركب صغير في رحلة قادته من"جبلة" عبر "جسر الشغور" إلى بيروت ثم صيدا.

لم ألتق بياسر عرفات كثيراً، مرات قليلة يمكن عدها على أصابع اليدين، وهو أمر غير مألوف ضمن جيلي الذي التحق بعرفات من بيروت إلى تونس إلى فلسطين، لأمر يتعلق بعلاقتي مع الزعماء كنت أتفادى فرص اللقاء معه، وهو ما ولد لدي بعد رحيله فكرة فوات الفرصة في أن أراه أكثر، الفرصة التي منحني اياها، مثل ضربة حظ، عملي مع فريق المتحف في تحرير وتسجيل الرواية.
الآن استطيع أن أقول أنني كسبت خلال تلك الأسابيع صداقة ياسر عرفات.