الجمعة 29 مارس 2024
فن وثقافة

"يَوْمِيَّاتْ قَنَّاصْ".. الطَّاهْرَةْ التي أغرمت بالقنص بفعل دعوات و"فَاتْحَةْ اَلرّْمَا" (4)

"يَوْمِيَّاتْ قَنَّاصْ".. الطَّاهْرَةْ التي أغرمت بالقنص بفعل دعوات و"فَاتْحَةْ اَلرّْمَا" (4) القناص نور الدين الزوزي رفقة النشاش عبد الله

في الحلقة الأولى من "يَوْمِيَاتْ قَنَّاصْ" تحت عنوان "لَا تَكْتَمِلَ "فْرَاجَةْ" اَلْقَنْصْ إلا برفقة "اَلنّشَّاشْ" الحاذق واليقظ والصيّاد الماهر"، تناولنا في جريدة "أنفاس بريس" كيفية الاستعداد لـ "عِيدْ اَلرّْمَا"، يوم افتتاح موسم القنص الذي ينطلق الأحد الأول من شهر أكتوبر من كل سنة، واسترجعنا مع صديقنا القناص نور الدين الزوزي مشاهد من عمليات الصيدة التي تتأسس أصلا على مُرَافِقْ القناص الذي يُسمّى في أعراف وعادات الصيادة بـ "اَلنّشَّاشْ" حيث استحضرنا نموذج عبد الله النقرة الذي يشهد له بالحنكة والدربة في ميدان تقفي أثر الوحيش والطرائد.

تناولنا في الحلقات السابقة محكيات من هذه اليوميات الجميلة سواء قصة "شِيخْ اَلرّْمَا" مع اَلْعَتْرُوسْ والذِّئب الذي كان يتربّص ويفترس رؤوس الأغنام بمنطقة الرحامنة، أو رواية القناص الرحماني المهووس بـ "اَلصَّيْدَةْ"، والذي فضّل المشاركة في افتتاح موسم الصيد (ذات سنة) بدل حضور مخاض زوجته وولادة فلدة كبده.

في هذه الحلقة من "يوميات قناص" التي حكاها ضيف الجريدة الطبيب نور الدين الزوزي سنورد في مقالنا محكيات من نوادر جميلة تدخل في سياق "اَلْكَرَامَاتْ"، جنبا إلى جنب مع ما هو روحي، والذي يؤسس للإيمان والاعتقاد بـ "دْعَاوِي اَلْخَيْرْ".

هي محكيات وقعت لبعض الصيادة سواء أثناء عملية اَلصَّيْدَةْ، وروايات شفهية لها علاقة بمحيط القنّاصة العائلي والأسري، مثل التي نقدمها في هذه الحلقة. على اعتبار أن هدفنا من تقديم هذه النوادر هو إشراك القراء في محكيات تساعد على فهم سلوك "اَلصَّيَّادَةْ" ومعاناتهم مع "اَلْبَلْيَةْ" التي يتجرعون من وقائعها ألطف الذكريات وأجمل المقالب وأشرس المواقف مع الطرائد...

 

لا يمكن افتتاح موسم القنص إلا بحضور "شِيخْ اَلرّْمَا" الذي يتوجه بالدعاء وسط "لَمَّةْ اَلرّْمَاةْ" في جو يسوده الخشوع والتضرع إلى الله ليحرس "اَلرُّمَاةْ" ويحيطهم بعنايته، من كل سوء، ويدعو لهم بالعودة الميمونة من جولات القنص. وقد يمتح من قاموس "اَلْبَرَكَةْ" و "اَلتِّيسِيرْ" في العمل، والظفر بحظ موفق في الحياة ونجاح الدرية، وسلامة الروح وطهارة النفس والبدن من الأسقام والعلل.

 

نموذج دعاء "شِيخْ اَلرّْمَا" تحت خيمة الصَّيَّادَةْ يوم افتتاح موسم القنص

 "الله يْعَمَّرْكْم، مَا عَمْرَتْ مَكَّةْ وَاَلْمَدِينَةْ. بْغَيْنَاكْم تَرْعَاوْ بِلَحْفَا وَتْرُوحُوا لِلدّْفَى. وَالنّْهَارْ اَلْخَايْبْ تْكُونْ غَايَبْ. وَالنّْهَارْ اَلزِّينْ مَا تْرُوغْ فِينْ، بِجَاهْ اللهْ وَ رْضَاتْ اَلْوَالِدِينْ، يْكُونُوا لِيكُمْ عْوِينْ. بْغَايْنَا سَارُوتْكُمْ، يْحُلْ يَمِينْ وَيَسَارْ، اَلْبَابْ اَلِّلي وُقَفْتُوا عْلِيهْ يَتَّفْتَحْ مَا بِينْ إِيدِّيكُمْ، بِجَاهْ اللهْ وُ رْضَاتْ وَالِدِيكُمْ، رَاهَا تَحْضِيكُمْ. اللهْ يْخَيْرَكُمْ وُ يْخَيَّرْ تَرِّيكْتَكُمْ. الله يْفَيِّضْ غْدِيرْتْكُمْ. اَلْعَيْنْ اَلِّلي شَافْتْكُمْ تَرْضَاكُمْ. الله خَلِّيكُمْ بْحَالْ اَلسّْرَاتَةْ اَلِّلي خَرَّجْتُوهَا مَنْ اَلرِّيقْ فِي رَاسْ اَلْمَحْرَكْ تْلِيقْ. اللهْ يَجْعَلْكُمْ بْحاَلْ اَلصُّوفْ شِي مَا يَعْـﯕَرْ شِي..".

 

دْعَاوِي مُولْ اَلْبَرَكَةْ وَاَلْحَكْمَةْ وَالتِّيسِيرْ؟

هذا الطقس الديني والصوفي في حضرة "اَلرّْمَا" يُفتتح بقراءة ما تيسر من القرآن الكريم لتحصين الرّماة من كل سوء ويجنبهم "سُمْ اَلْبَارُودْ"، خلال عملية رصد الطرائد وإطلاق "القُرْطَاسْ" على الهدف، ويفتح بصيرتهم على التعاون والإيثار فيما بين "الصَّيَّادَةْ"، ويمنحهم الثقة في النفس والتوكل على الله بنقاء وصفاء الذهن وطهارة النفس. حتى أضحى الرامي/ الشريف (مُولْ اَلْبَرَكَةْ) مقصدا للبركة واليمن والتيسير من طرف عامة الناس. (الله يْخَرَّجْ سَرْبِيسْكُمْ عْلَى خَيْرْ)؟

في حضرة "اَلرُّمَاةْ" سواء أثناء وخلال موسم القنص أو في مناسباتهم الاحتفالية الخاصة بهم، يتقدم "شِيخْ اَلرّْمَا" صاحب الكرامات، برفع أجمل "دْعَاوِي اَلْخَيْرْ والتِّيسِيرْ" ابتهلا وتضرعا لله، وقد توجه دعواته المستجابة صوب كل من يسيء التقدير ويقلق راحة بال "الرَّامِي" ويُكسِّر خاطره، وكأنه يصوِّب بارود "جَعْبَةْ اَلْمُكَحْلَةْ" في اتجاه الشر، والعين والحسد... واَلْعَدُوّ المفترض، لذلك فكل من يسمع بكرامات "اَلرّْمَا" قد يصبح مريدا فاعلا ومتفاعلا يطيع الأوامر، وينفذها حسب الطقوس والأعراف المتفق عليها.

 

قصة "الطَّاهْرَةْ" مع زوجها القناص "السِّي مْبَّارَكْ"

لم تكن زوجته "الطَّاهْرَةْ" راضية على هوايته التي تبعده عن البيت، وتنسيه التزاماته الأسرية، خصوصا لما يَهِلُّ "عِيدْ اَلرّْمَا" وينطلق موسم القنص رفقة زملائه "الصَّيَّادَةْ"، الذين يقطعون المسافات الطويلة بحثا عن الطرائد في الجبال والغابات والوديان وبين الشعاب....وما يترتب عن ذلك من متاعب وإكراهات ومشاكل لا تكون في الحسبان.

"الطَّاهْرَةْ" كان يزعجها زوجها "السِّي مْبَّارَكْ"، بطلباته ورغباته التي لا تنتهي، والمرتبطة بالاستعداد للسفر للقنص في ربوع المملكة، لأنه كان ملحاحا و كثير السؤال عن أغراضه وحاجياته ومستلزمات "الصَّيْدَةْ" أيام قبل وصول ساعة الصفر. وأكثر من هذا وذاك، كان الزوج/الرَّامِي شديد العناية بـ "كِلَابْ اَلصَّيْدْ"، وحريصا على جدول تغذيتهم ونظافتهم ورعايتهم... طبعا كل هذه الأعمال وجب على "الطَّاهْرَةْ" أن تساعده فيها يوميا وبدون تردد، مما يجعلها موزعة بين أعمال البيت وتربية الأطفال والخروج لقضاء متطلبات العيش ورعاية البهائم والدجاج وما إلى ذلك من أغراض الأسرة البدوية طيلة اليوم.

نساء "الدُّوَّارْ" كنّ يعقدن اجتماعاتهن لمناقشة "بَلْيَةْ" أزواجهن التي تبعدهم عن سقف البيت، والتَّفَكُّهِ بقصص "الرُّمَاةْ" والأحداث التي تواكب موسم الصّيد، وفي أحايين كثيرة كانت زوجاتهن تتغنى بشجاعتهن بنظم غنائي يعكس بسالتهم في ميدان الرماية، لقنص الطرائد، لكن زوجة "السِّي مْبَّارَكْ" كانت تبدي تحفظّا إزاء هواية القنص التي رفضت كل ما يتعلق بها لعدة اعتبارات تخص علاقتها بزوجها القناص/ الرّامي.

كثرة أسئلة الزوجة المستفزة، كلما طال الغياب وكَثُرة رحلات الصيد رفقة الرُّماة من أبناء الدَّوَّارْ، غيّرت حال "السِّي مْبَّارَكْ" وأضحى لا يطيق تلك الأسئلة الروتينية، التي أقلقت راحة باله وعكرت صفاء ذهنه، فقرر أن يفاتح "الرّْمَا" في موضوع "الطَّاهْرَةْ" التي تضغط عليه لكي يودع ويستقيل من هواية القنص مع زملائه الصَّيَّادَةْ.

 

"شِيخْ اَّلرّْمَا" يطلق دعوته المستجابة

فاتحهم في الأمر، وهم مُتحلِّقون حول "شِيخْ اَلرّْمَا" الذي استعجل رفع أكف الضراعة لله من أجل أن يستجيب لدعوة الخير هذه فقال: "اللهم ليِّن قلبها على السِّي مْبَّارَكْ، واجعلها مُسخّرة في يده، ومُلبيّة لطلبه، ومُساعدة له في جَمْعِ أغراضه، اللهم قلِّلْ من أسئلتها، واجعلها خادمة له، طيِّعة كالخاتم في أصبعه. اللهم حَبّْبْ لها الأرانب وطير الحجل وكل الطرائد. اللهم أَحْبِبْ لها سلاح الصيد وكلاب الصيد، وافتح صدرها وقلبها لتكون السّند لزوجها كلما استعد للقنص مع الرُّمَاةْ ...وآخر دعوانا الحمد لله رب العالمين".

لم يتردد "السِّي مْبَّارَكْ" في حكي ما وقع لـ "الطَّاهْرَةْ"، التي اقشعر بدنها من "الْفَاتْحَةْ"، التي رددها "شِيخْ الرّْمَا" أمام الصَّيَّادَةْ، حيث مررت الحكاية لنساء الدُّوُّارْ، اللواتي ساهمن بدون علم في ترسيخ سلوك "الرّمَاةْ" على مستوى اَلْكَرَامَاتْ التي تتحقق بفضل "دْعَاوِي اَلْخَيْرْ" أثناء لَمَّةْ "اَلشُّرْفَةْ مْوَالِينْ اَلجّْعَبْ".

لم يمر على الحدث سوى أيام، وبينما كان "السِّي مْبَّارَكْ" مستلقي على ظهره بجانب قَرْبُوصَ اَلتِّبْنْ في الْـﯕَاعَةْ، حتى سمع صوت "الطَّاهْرَةْ" يأتيه من بعيد، وهي تجري دون نعل، وتصيح بأعلى صوتها "واا السِّي مْبَّارَكْ. وَأَنْتَ فِينَكْ اَلْمَرْضِي، نُوضْ...نُوضْ رَاهَا نَاعْسَةْ تَحْتْ اَلشَّطْبَةْ. شَفْتْهَا بِعَيْنِي...أرْنَبْ جِيْدَةْ وُمْلِيحَةْ. نُوضْ نُوضْ بِالزَّرْبَةْ قْبَلْ مَا تَهْرُبْ".؟؟

وقفت "الطَّاهْرَةْ" تلهت أمام "السِّي مْبَّارَكْ" الذي لعب دور النائم (النّْعَاسْ خُو اَلْمُوتْ)، وهي تصيح: وَاااالرَّامِي، وَأَنْتَ فِيقْ... مَالَكْ مِيَّتْ؟ 

وقف مذعورا وقال: أَنْتِ آشْ عَدَّكْ؟ مَالْكِي آشْ كَايَنْ؟

فأجابته مسرعة: أَرْنَبْ، أَرْنَبْ، تَحْتْ اَلشَّطْبَةْ نَاعْسَةْ، نُوضْ جِيبْ اَلْمُكَحْلَةْ، وُصَيَّدْهَا لِينَا نْدِيرُو عْلِيهَا اَلرْفِيسَةْ اَلِّليلَةْ... أَرْنَبْ جَيْدَةْ . نُوضْ الله يَهْدِيكْ. أَهَاذْ اَلرَّاجَلْ؟

في تلك اللحظة، تذكر بطل القصة "فَاتْحَةْ شِيخْ اَلرّْمَا" ودعواته التي تشبه طلقات البارود، وقال في نفسه لقد استجاب الله لدعوات الرّْمَا، وتحولت "الطَّاهْرَةْ" إلى امرأة من طينة "عْبِيدَاتْ اَلرّْمَا".

ماطلها الزوج، في التجاوب مع رغبتها الجامحة، وظلت حركاته بطيئة، لكنها تابعت كلامها بالقول: "أَنَا نَمْشِي نْجِيبْ لِيكْ اَلْمُكَحْلَةْ وَاَلْقُرْطَاسْ". فهرعت نحو البيت وتأبطت السلاح بسرعة البرق وعادت مسرعة حافية القدمين..." وَأنْتَ تْحَرَّكْ يَا رَبِّي اَلسَّلَامَةْ. عَانْدَكْ تَهْرُبَ".

بحركات بطيئة توجه "السِّي مْبَّارَكْ" نحو الشطبة، بعد أن أشارت عليه "الطَّاهْرَةْ" مرة ثانية بأصبعها نحو الهدف، لكنه تغافل لهفتها، ولم يتحمس لكلامها، بعد أن سدد على أرجل الأرنب، الذي نجى من القنص، لكنه ركض هاربا من مخبئه وهو يجر رجله المعطوبة. فابتسم الزوج وهو يتابع مشهد الأرنب مشيرا على زوجته أن تركض ورائه وتمسك به.

شمرت "الطَّاهْرَةْ" على ساعديها، وأمسكت بأطراف "تَحْتِيَتِهَا" بأسنانها، وأطلقت الريح لساقيها وراء الأرنب، مسافة طويلة دون أن تشعر بوخز الشوك في قدميها الداميتين، إلى أن قبضت على الطريدة التي كان من الممكن أن يصيبها الرَّامِي "السِّي مْبَّارَكْ" في مقتل، منذ الوهلة الأولى لكنه كان يعي بأن زوجته قد تغير حالها وأضحت من خدام "عْبِيدَاتْ اَلرّْمَا"، لذلك أخضعها لتجربة الانصياع والامتثال، فكان له ما أراد.