الجمعة 26 إبريل 2024
كتاب الرأي

عبد الإلاه حبيبي: المفهوم الجديد للحزب السياسي.. عرض وزبائن...

عبد الإلاه حبيبي: المفهوم الجديد للحزب السياسي.. عرض وزبائن... عبد الإلاه حبيبي

انتهى زمن الاستقطاب بالشعارات، وجمع الحشود بالسرديات الكبرى، لم يعد لهذه الدعاوى المثالية مفعول، وكأن العالم غزاه  تيار مضاد - للأفكار، يعمل بكل قوة حتى لا يسمع  الناس سوى الطنين، وأن لا ترى العيون سوى الألوان المثيرة: الزاهية المتلألئة، أو الداكنة الغارقة في الحداد والسواد...

 

لقد حلّ زمن العروض المغرية، الحزب في منظوره الجديد ليس مكانا تقام فيه طقوس استنبات الأفكار والمشاريع السياسية الكبرى، لقد تحول إلى مقاولة إعلامية وتجارية تتقن فنون ترويج العروض التي تنتجها وتقترحها على زبائن مستهدفين من استراتيجية العرض والاقتناء...

 

أكاد لا أعثر على من يبحث فقط عن الأفكار، على من يشغل ضميره للعثور على جماعة منظمة تحلم بغد مشرق، بمستقبل بعيد قد تتلبس ملامحه بالحلم البعيد المنال... إنه جمهور في طريقه إلى الانقراض، جمهور يشبه زبائن الحكواتي الذي كان يحكي حتى يتطهر المحيطون به من ثقل الضجر، وقلة الحيلة، عبر تغذية خيالهم بصور لأبطال أسطوريين يحققون له إشباعا لبعض رغباته المنطفئة، وإرادته المشلولة، وكآبة واقعه البئيس...

 

العرض السياسي بمعناه الجديد يتضمن مقترحات، معالجة سريعة ومختصرة لمشاكل محددة، مقترحات في مطويات تجيب عن بعض الحاجيات التي تعبر عنها فئات اجتماعية أو مهنية محددة، دون تلوينات بلاغية، أو تورط وجداني في خطابة ملتهبة قد تخلق حالة نفسية  سيغلب عليها إدمان البحث عن جرعة خيال ووميض من حلم كبير بعدالة مستحيلة ومساواة مطلقة ولعل هذا ما عبر عنه ذات تاريخ حلم اضمحلال الدولة و الطبقات وتحقق انتصار الكادحين والضعفاء...

 

اليوم هناك زبائن يتجولون في فناءات سوق كبير، على رفوفه رتبت سلع وبضائع ملفوفة في أغلفة  مصنعة بعناية دقيقة، يقف قربها مختصون ومتخصصات في الحديث عنها باستعمال جمل صغيرة وبسيطة في المعنى والمبنى، بلغة يفهمها كل المتسوقون، ليس فيها رداءة مفهومية، أو روائح أدلجة باذخة، أو حتى جملا اسمية، هي مجرد تركيبات سهلة، فهمها لا يتطلب مجهودا ذهنيا كبيرا، ولا تكوينا فكريا عميقا، لهذا يتفاعل معها المتسوقون، ويقترب منها الراغبون في الحصول على مفعولها المباشر... نحن هنا أمام معادلة جديدة: عرض سياسي وزبائن محتملين...

 

قديما كان هناك زعيم، صاحب شخصية كاريزمية، يحمل في يده اليمنى مشروعا سياسيا كبيرا، وفي يده اليسرى تهديدا بالقيامة في حالة ما إذا لم يتبع الناس وعده، أو ما يسمى سردية كبرى، وحول الزعيم يتحلق زعماء صغار لهم ملامح المبشرين بالسعادة التي تقتضي تضحيات وصبر جميل والتزامات قد تقرض مساهمات شهرية من جيوب هؤلاء المدعوين إلى هذه العشيرة المتحورة إلى حزب يبحث عن حالمين بعالم أفضل، عن رافضين لنظام الأشياء، عن مصدومين بعالم صنعته ماكينات الإشهار وعلوم التسويق، لكنه عالم حقيقي، قوي الحضور، يملأ كل القنوات الفضائية فرحا ومرحا، يسكن كل البيوت، ويسهر على كنس الأحلام الكبرى... لهذا فهو منتوج قابل للتسويق والتفاعل والقبول والرفض دون ضجيج أو طرد أو محاكمات...أو حتى مماحكات...

 

العلاقة بين العرض والجمهور ليست علاقة بين شيخ ومريد، بل هي علاقة أفقية، بين رزنامة من المقترحات لحل سلة من المشكلات بمعالجات واضحة ومرتبة ترتيبا ينأى بها عن كل عمومية أو سببية متعالية...

 

لا يقبل العقل الكلاسيكي هذه الصور الجديدة، قد يحسبها لعبة أطفال لا يحسنون فهم العوالم الجديدة، أي مجرد حديقة يتسلى فيها الصغار بأفلام كرطونية تنسيهم واقعهم المؤلم وما يسببه لهم من إحباطات وضجر... لكن الحقيقة هو أن هؤلاء هم من يفهم العالم حقيقة، ويعرف وسائل التأثير فيه، ويتقن علوم اختراق مجاهله، وتقنيات بلوغ قلوب ساكنيه... لهذا قد يصعب أن نعثر غدا على شيوخ في عالم السياسة الجديدة، لأن التيار العابر للمحيطات والقارات والسماوات قد يكون كنسهم من ملاعبه المفضلة...

 

ليس هنا تشفي آو مبالغة في الرؤيا، بل هناك وصف لما هو قادم، حديث محتمل عما ستعيشه الأجيال الآتية، وذلك بالنظر إلى التطور المريع في كل وسائل التواصل والاتصال، التي لها سلطة قوية في التأثير وخلق الحوافز والبدائل وعلامات التشوير... قد نستفيق متأخرين وطرقات قوية على أبواب غرفنا التي لن تظل غارقة في همساتها المخملية المألوفة، لهذا وجب النهوض، وتنقية العيون من كل العمش الحاجب للتفاصيل حتى نستطيع على الأقل تمييز بين ما نراه حولنا من أشياء وكائنات وما يسكننا من خيالات وظلال حسبنها لزمن طويل حقائق نهائية...