الجمعة 19 إبريل 2024
كتاب الرأي

أحمد الحطاب: دولة الحق والقانون.. المواطنة والحياة اليومية

أحمد الحطاب: دولة الحق والقانون.. المواطنة والحياة اليومية أحمد الحطاب
دون الدخول في التفاصيل القانونية و السياسية التي تتميّز بها دولة الحق و القانون (هنا، دولة مستعملة كمرادف لوطن)، يمكن تعريف هذا المفهوم الأخير من الناحية الاجتماعية كما يلي :
"كيان أو نظام اجتماعي يتكون من جماعة بشرية اختار أعضاءُها عن طواعية، من أجل التّساكن و العيش الجماعي فوق تراب ما، العملَ بمجموعة قوانين تُسَيَّرُ بموجبها أعمالُهم و تفاعلاتُهم (تعاملاتُهم)".
عبارة "التَّساكن و العيش الجماعي" تعني أن يَقْبَلَ البعضُ البعضَ الآخرَ بغضّ النّظر عن الاعتبارات العِرقية، الدينية، السياسية، الثقافية، اللغوية، الخ.
عبارة "اختار عن طواعية" تعني أن اختيارَهم مجموعةَ قوانين تمّ بدون ضغط أو إكراه.
عبارة "مجموعة قوانين" تعني وسيلةً تُنظِّم التّساكن و تُحدِّد العملَ في إطاره. يتعلَّق الأمر بترسانة مبادئ و قوانين و مساطر، الخ. على رأسها القانون الأسمى أي الدستور. علما أن هذه الترسانة يتمُّ تطبيقُها على مختلف مستويات الحياة اليومية و تتعامل مع أعضاء الجماعة على قدم المساواة. و هنا كذلك، تُعدُّ فكرةُ القبول المتبادل أساسية.
عندما نجمع "جماعة بشرية" و "تساكن" و "اختيار عن طواعية" و "مجموعة قوانين"، فإننا نصل إلى مفهوم "المواطن" الذي يستلزمُ إعمالَ مفهومَ "الحقوق و الواجبات". و هذه الأخيرة، ضرورية بمكان، لإخضاع "الأعمال و التفاعلات" التي يقوم بها "أعضاء الجماعة" لمبادئِ و حُكمِ "مجموعة قوانين".
و عليه، لماذا وضعتُ معا "دولة الحق و القانون"، "المواطنة" و "الحياة اليومية"؟ بكل بساطة لأن هذه الوحدات الثلاثة مرتبطة ارتباطا وثيقا فيما بينها بمعنى أنه إذا لم يَسُدْ بينها توازنٌ، فإن الأمرَ يؤدي إلى الاختلال.
و للإشارة، إذا لم يكنْ هناك لا دولة الحق و القانون و لا مواطنة، فإن الحياةَ اليوميةَ تعتريها الفوضى (السيبة) أو قانون الغاب (قانون الأقوى – و لو أن الغاب، من الناحية البيئية، له قوانينه). فهما (دولة الحق و القانون و المواطنة) اللذان ينظِّمان الحياةَ اليوميةَ.
و إذا مَحَتْ "دولة الحق و القانون" المواطنةَ، فإن الحياة اليومية تخضع للاستبداد و الكُلِّيانِية (حكم شمولي - totalitarisme) و الطُّغيان مع خنق الحريات. وداعاً للتّفتُّح و التّحرُّر  و الإبداع و بالتالي، وداعا للتنمية البشرية. و المُحيِّر هنا هو أن بعض الدول لا تزال تعيش هذا الوضع بحيث أن المواطنين جميعَهم يكونون في خدمة المتسلِّطين و المستبِدين إن لم يكونوا كلهم مُدَانين حتى إشعار آخر. 
يتَّضح جليّاً مما سبق أن التَّوازن بين المكوِّنات الثلاثة، السالفة الذكر، شيء أساسي لتستثب "دولة حق و قانون عادلة" و "مواطنة مثالية" و "حياة يومية سليمة (صحية)". 
علاقةً ب"دولة حق و قانون عادلة"، يمكن القول بأنها، مبدئيا، عادلة ما دامت القيم و المبادئ و القوانين و المساطر، الخ. التي تنظِّمها، من جهة، نابعةً من القانون الأسمى (الدستور) و من الإرادة الشعبية التي تُجسِّدها المؤسسات التمثيلية، و من جهة أخرى، يتم تطبيقُها على المواطنين بكيفية متساوية (لا شك، و هذا شيء مفروغ منه، أن هناك دائما خروقات التي هي راجعة ليس ل"دولة الحق و القانون" في حد ذاتها كمفهوم و لكن للاستعمال السيئ النوايا لهذا المفهوم).
و علاقةً ب"المواطنة المثالية"، لا داعي للقول أنها، على الإطلاق، ليست من شِيم أو صِفات جميع أعضاء الجماعة communauté. قد لا تُقاوم هذه "المواطنة المثالية" الميولَ إلى الجشع و حبِّ الشّهرة و الصّيت و التّعطّش للسلطة و السُّمعة و الجاه و الاغتناء، الخ.
و علاقةً ب"حياة يومية سليمة"، أقول، و بدون تردُّد، أنها من ضرب الخيال بمعنى أنها لا يمكن أن تُعْتَبَرَ خالية مائة بالمائة (إطلاقا) من العيوب.
كما نلاحظ، التوازن بين منظومة المكوِّنات الثلاثة  ("دولة حق و قانون عادلة"، "المواطنة المثالية" و "حياة يومية سليمة") غير مكتمل. كل مكوِّنٍ من المكوِّنات الثلاثة يمكن أن يتعرض للخلل.
فما هي إذن العوامل التي تقود إلى الخلل المذكور؟ إنها كثيرة. و على سبيل المثال و نظرياً، هذه قائمة غير شاملة للعوامل التي قد تُخِلُّ بالتوازن : عدم احترام دولة الحق و القانون، غياب أو نقص المواطنة و حب الصالح العام، الفساد، الإفلات من العقاب، انعدام الأخلاق، عدم الاستقامة، الجشع، المكيدة و الخداع، التَّحايل، النّصب، الاختلاس، الاستهزاء بالصالح العام، الأنانية، النّفاق، التّزوير، الزَّبونية، الدّيماغوجية، السياسة السياسوية، الخ.
و مما يُؤسف له أن الحياة اليومية هي مصدر هذه العوامل المُخِلّة بالتَّوازن. و هذا يعني أن الجماعةَ البشريةَ التي تحتضنها دولة الحق و القانون تحتضن بدورها فئتين من الأعضاء (المواطنين) : فئةٌ تحترم دولةَ الحق و القانون و فئةٌ لا تُقيم لها أي اعتبار.
الفئة الأولى تنشط في الحياة اليومية مسلحةً بمبادئ المواطنة و حب الصالح العام (سيادة الصالح العام على المصلحة الشخصية). بينما الفئة الثانية تنشط في الحياة اليومية مدعمةً بالنقائص و العيوب و الصفات الدنيئة المشار إليها أعلاه.
و هذا هو ما يجعلني أطرحُ السؤال التالي : "هل بالإمكان تقويةُ و تمتينُ و تحسينُ و توسيعُ التوازن بين المكوِّنات الثلاثة للمنظومة السالفة الذكر؟"
الجواب هو نعم. لكن الأمرَ لا يتعلَّقُ بالدفاع عن "المدينة الفاضلة كما وصفها أفلاطون"، و التي هي من ضرب الخيال، فضلاً عن أن الطبيعة البشرية ليست شيئا قارّاً. بمعنى أنها تتأرجح بين الخير و الشر. فالأمر يتعلَّق بترجيح كفَّة الميزان نحو الخير و ذلك باللجوء إلى الوسائل الضرورية لمواجهة جذور الشر. فكيف يمكن تحقيق هذا الهدف النبيل؟
 و هنا كذلك، هذه، على سبيل المثال، قائمة غير شاملة للأعمال التي، من المفروض، القيام بها للتَّوفيق بين العناصر الثلاثة السالفة الذكر : احترام دولة الحق و القانون من خلال احترام المؤسسات الوطنية، إرساء استقلالية القضاء، الحرص الصارم على تطبيق القانون، تخليق الحياة العامة، جعل المواطنة و حب الصالح العام مُحرِّكين أساسيين للعلاقات البشرية، ترسيخ العدالة الاجتماعية، الدفع إلى تفتُّح و تَّحرُّر المواطنين من خلال الثقافة و الاتصال و الفنون، النهوض بالحريات العامة و حقوق الإنسان (الحقوق الاجتماعية و الاقتصادية و الثقافية)، تشجيع بروز طبقة متوسطة، إرساء مساواة المواطنين أمام القانون (محاربة الإفلات من العقاب)، اعتبار المدرسة كمؤسسة مُسخَّرة للتربية و ليس كآلة لحشو الأدمغة، محاربة أو القضاء على الفقر و الهشاشة و التهميش و الأمية، امتصاص الاقتصاد غير المهيكل، الخ.
 وباختصار، الضمانة الراسخة لاستدامة التَّوازن بين المكوِّنات الثلاثة للمنظومة تكمن في :
"تمتُّع المواطن بكرامته و بحقوقه كاملةً و أداءُه لواجباته بإخلاص"
في هذه الحالة، ستزداد "الحياة اليومية" سلامةً و ستجد فيها "دولة الحق و القانون" مكانا يسير من حسن إلى أحسن.
غير أن التمتّتُعَ بالكرامة يحتِّم على دولة الحق و القانون أن تسهرَ على احترام و تطبيق القانون تطبيقا صارما. لأنه من غير المعقول أن تُسَنَّ  القوانينُ دون الحرص على تطبيقها في الحياة اليومية.
إنه خللٌ في "دولة الحق و القانون" التي هي الضامن المؤسساتي لتطبيق القانون. إذا كان بعض المواطنين يتجاهلون هذا الأخير أو لا يعترفون به، فعلى "دولة الحق و القانون" أن تُعيدهم إلى الصّواب.
يكفي أن نتجول من الصباح إلى المساء في الأماكن العمومية (أزقَّة، شوارع، مِحجَّات، طرق، إدارات، أسواق، مرافق خدمات، أماكن الترفيه، الخ.) لنلاحظ كيف يفتح تَسَاهُلُ السلطاتِ الطريقَ للتجاوزات و الفوضى بجميع أشكالها بكيفيةٍ علنية وٍ مرَّاتٍ و مرَّاتٍ مُخِلَّةٍ للنظام.
و أخيرا، يجب أن لا ننسى أن عدم احترام دولة الحق و القانون عاملٌ قويٌ يُعرقلُ مسيرةَ التنمية الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية. يكفي أن نُلقي نظرةً من حولنا لنلاحظ أن كل الدول التي تقدمتْ و تطوَّرتْ، تكون فيها السيادة لدولة الحق والقانون.