الخميس 28 مارس 2024
كتاب الرأي

مؤسسة عبد الهادي بوطالب: على هامش النقاش حول النموذج التنموي الجديد

مؤسسة عبد الهادي بوطالب: على هامش النقاش حول النموذج التنموي الجديد

يجري اليوم، داخل المغرب، نقاش حول التقرير العام للنموذج التنموي الجديد، وهو تقرير يحمل عنوان "تحرير الطاقات واستعادة الثقة لتسريع وتيرة التقدم وتحقيق الرفاه للجميع". والملاحظ، أن التدابير الاحترازية المتخذة لمواجهة جائحة "كورونا" قد أثرت على توسيع دائرة النقاش ليمتد إلى مختلف المناطق والجهات، وإلى الجامعات والمنتديات الفكرية والثقافية، كما أن توقيت النقاش في هذه المرحلة، التي تتميز بجدولة الامتحانات والعطلة الصيفية والاستعداد للانتخابات القادمة.. من شأنه أن يؤثر على هذا النقاش ومساره والأهداف المتوخاة منه. نعم، لقد دعا جلالة الملك في لقائه مع رئيس اللجنة بمناسبة تقديم التقرير العام لجلالته، إلى التفاعل الجدي مع خلاصات هذا العمل، كما أكد بلاغ الديوان الملكي على تنفيذ التوصيات الوجيهة الواردة في هذا التقرير، حيث على الحكومة ومختلف الفاعلين والمؤسسات، كل في مجال اختصاصه المشاركة لتنفيذ ذلك.

 

والجدير بالذكر، أن مؤسسة عبد الهادي بوطالب تشارك في هذا النقاش، ضمن المؤسسات الثقافية التي تحمل أسماء عدد من الرموز الوطنية التي ساهمت في النضال من أجل استقلال المغرب ومواصلة الكفاح من أجل بناء المغرب الحديث، مغرب الديمقراطية والعدالة الاجتماعية. وقد اختارت هذه المؤسسات، عقد عدد من الندوات لتفعيل هذا النقاش والمساهمة في تطوير القضايا المطروحة بشأنه.

 

والجدير بالذكر، أن هذه المؤسسات قد حرصت منذ البداية على أن النموذج التنموي الجديد ينبغي تأطيره داخل المؤسسات الدستورية، حيث من المنتظر أن يتدارك توقيع الأحزاب السياسية على الميثاق الوطني للتنمية، هذا المعطى المؤسسي، حيث كيفما كانت التوصيات والمقاربات التنموية المقترحة، فإنها لا يمكن أن تأخذ طريقها إلى التنفيذ إذا تم تغييب الجانب السياسي والمراهنة على التكنوقراط. وفي هذا الإطار لابد من القول، بأن تزامن عرض هذا النموذج مع قرب الاستحقاقات الانتخابية من شأنه أن يدعم هذا الطرح، كما من شأنه أن يستدعي إلى التساؤل حول ما إذا كانت الأحزاب اليوم، واعية كل الوعي، بضرورة الاعتماد على النخب الكفؤة والنزيهة، لأن نموذجا من هذا القبيل لا يمكن تطبيقه بنفس الوجوه والآليات. خاصة وأن من بين الملاحظات التي يوردها التقرير تلك التي تتعلق بتعزيز مشاركة المواطنين كركيزة للديمقراطية التمثيلية والتشاركية، حيث يؤكد التقرير على ما يلي:

 

- تعزيز مشاركة المواطنين كركيزة للديمقراطية التمثيلية والتشاركية

إن النظر إلى الأداء الديمقراطي في حده الأدنى، المختزل في مظاهر شكلية وفي الانتخابات، على خلفية التوتر المستمر بين الحقل السياسي والشركاء الآخرين في المجتمع المدني، يفقد المسلسل الديمقراطي حيويته.

اعتبارا لتشبث المواطنين بالاختيار الديمقراطي، فإنه من الأساسي توسيع المشاركة السياسية وتعزيزها بغية الرفع من نجاعة الفعل العمومي وتوفير ظروف التعبئة التامة والكاملة للمواطنين.

ولهذه الغاية، من المهم إعادة الحيوية إلى الهيئات الوسيطة، لاسيما الأحزاب السياسية التي تعتبر عماد الديمقراطية التمثيلية. كما يجب إعادة تنشيط المشاركة السياسية من خلال انفتاح واسع للأحزاب السياسية على القوى الحية للمجتمع وتحصين الحقل الحزبي، لاسيما من خلال تعزيز قدرات الأحزاب لإنتاج الأفكار وتنشيط النقاش السياسي وتأطير المواطنين في التزاماتهم المدنية وفي مشاركتهم السياسية والاجتماعية على المستوى الوطني والمحلي. ويلعب تحديث وتعزيز قدرات الأحزاب وجاذبيتها تجاه المواطنين وقدرتها على تعبئة الكفاءات دورا رئيسيا في استعادة الهيئات الوسيطة لمهمتها الأولى كممثلة للمواطنين وفاعلة في الحياة العامة ومنتجة للأفكار وللالتزامات المدنية. وفضلا عن ذلك، يجب أن يقدم الفاعلون التمثيليون، المنتخبون من طرف الأمة، مثالا للقدوة والنزاهة، وهي القيم التي لا محيد عنها من أجل إعادة تأهيل المجال السياسي في نظر المواطنين.

 

موازاة مع ذلك، يجب تعزيز الديمقراطية التشاركية عبر مضاعفة قنوات الوساطة التقليدية أو المبتكرة الموسومة بهاجس الإدماج والتعددية والقرب. ويتعين توسيع نطاق الديمقراطية التشاركية قصد الأخذ بعين الاعتبار بشكل أفضل الإشكاليات الخاصة بالمجالات الترابية والفئات الاجتماعية، من خلال اللجوء إلى بعض الآليات، كما هو الشأن بالنسبة للميزانيات التشاركية على المستوى الجماعي أو للتدبير المفوض لمرافق القرب لفائدة التجمعات السكنية المستهدفة. كما ستعزز هذه المشاركة، على المستوى الجهوي، بإحداث مؤسسات مثل المجالس الاقتصادية والاجتماعية والبيئية الجهوية التي تضمن تمثيلية تعددية لجميع الحساسيات والمصالح داخل المجالات الترابية.

 

أخيرا، فإن وسائل إعلام مستقلة، ومجتمعا مدنيا متحررا ومسؤولا، وبرلمانا قادرا على ممارسة اختصاصاته التشريعية ومساءلة السلطة التنفيذية والقيام بتقصي الحقائق، تعتبر عناصر أساسية من أجل إغناء ومواكبة حياة عامة غنية، نشطة، دامجة ومطبوعة بحس المواطنة والشعور بانتماء كافة المواطنين لمشروع مشترك.

 

لهذا فإن مؤسسة عبد الهادي بوطالب حين تشارك في هذا النقاش إلى جانب المؤسسات الوطنية الأخرى، فلأنها كفاعل مدني وإطار جمعوي، بقدر ما تستمد مشروعها الثقافي من الرصيد الوطني والسياسي للأستاذ عبد الهادي بوطالب، فإنها تستمده أيضا من نظامها الداخلي الذي يؤكد على مساهمتها في النقاش العام حول بعض القضايا المطروحة التي تنسجم مع أهدافها المسطرة، ومن بين القضايا التي تستأثر باهتمام مؤسستنا ما يتعلق بالشأن الثقافي الذي يلاحظ عنه أنه لم يحظ بالاهتمام الكامل داخل التقرير، خاصة وأن البعد الثقافي يعد من الأبعاد الأساسية والجوهرية التي ينبغي أن تؤطر هذا التقرير، وفي هذا المجال يمكن العودة إلى الأستاذ عبد الهادي بوطالب وهو يتحدث عن هذا البعد، حيث تعددت اهتماماته الثقافية منذ انخراطه المبكر في الحركة الوطنية وولوجه عالم الصحافة، أو مساهمته الفعلية في المجال السياسي، سواء ضمن المعارضة أو المشاركة في الحكم. وقد برز اهتمام الراحل بهذا الموضوع، منذ أن تحمل إدارة "الإيسيسكو" المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة لمدة عشر سنوات، حيث كانت له العديد من المواقف والمبادرات. وفي موضوع له تحت عنوان : "البعد الثقافي في مخطط التنمية الشاملة" يقول: "إن البعد الثقافي هو حجر الأساس في مخططات التطور الحداثي، ولا سبيل للتعايش مع الثورات التي تتلاحق في عصرنا وتغمر العالم كله إلا إعطاء الأسبقية في عالمنا العربي الإسلامي للبعد الثقافي واعتبار التنمية الثقافية ضرورة لا تَرَفا زائدا.

 

بيد أن واقع العالم الإسلامي يعطي صورة معاكسة لهذا المنظور. إن الميزانيات المخصصة في بعض أقطارنا العربية الإسلامية لوزارة الثقافة أو ما يعادلها من مرافق إدارية موازية ميزانيات هزيلة، وتكاد تكون رمزية لا يؤبه لها.

والقطاع الخاص في العالم الإسلامي لا يعرف إلا الاستثمار في ميدان الاقتصاد، ولا يرى فائدة خارج الاستثمار الزراعي أو التجاري أو الصناعي أو ملكية العقارات والأرض، وينأى بالأموال عن القذف بها في حمأة الثقافة. وهو يحكم على الاستثمار الثقافي بأنه عديم المردودية ومحفوف من كل جانب بأخطار الخسارة. لذلك لا تُوظَّف إلا استثمارات محدودة تكاد تكون منعدمة في مجالات بناء المدارس والمعاهد والجامعات التي يؤدي من يغشاها ثمن الدراسة مع أنها تجارة مربحة.

 

أما حكوماتنا فهي لا تخصص في ميزانياتها العامة إلا النزر الهزيل للبحث العلمي الذي يُرصد له أحيانا واحد في المائة من الميزانية أو أدون من ذلك. ولا نسمع عن دولنا إلا نادرا تأسيس جوائز للعلوم والثقافة وتشجيع الاختراع، كما لا يدخل في اهتماماتها إلا القليل عن تشجيع الكتب والمجلات والدوريات المتخصصة وبناء دور الثقافة والنوادي الفكرية".

 

إن التقرير يعتبر المسألة الثقافية، ضمن الاختيارات الاستراتيجية، لكن يلاحظ عنه أنه لم يتقدم بالمقترحات الكفيلة بإعادة الاعتبار للثقافة، فتحت عنوان: النهوض بالتنوع الثقافي كرافعة للانفتاح، للحوار وللتماسك، يؤكد التقرير على ما يلي: "ويعتبر المغرب بلدا غنيا بتنوعه الثقافي وعمقه التاريخي وتراثه المادي واللامادي. وفي هذا السياق، يجب أن تصبح الثقافة بالمغرب رافعة متعددة الأبعاد للرخاء الاقتصادي وللرابط الاجتماعي المتماسك وللقوة الناعمة في المجال الجيوسياسي: إنه رهان للوحدة الوطنية في علاقة مع الطلب على المعنى وعلى المعالم التاريخية والهوياتية، كما تشكل الثقافة أيضا موردا للنمو والاستثمار والتشغيل أكثر قربا من المجالات الترابية والحاجيات المحلية، ويمثل العمق التاريخي للمغرب ميزة يتعين استغلالها كرافعة للاستقرار على المستوى الإقليمي والإشعاع الثقافي والتعايش".

 

هذه الرافعة محتاجة إلى دعم من مختلف الجوانب السياسية والمادية، لصيانة الموروث الثقافي وتطويره، ولتشجيع الإبداع الفكري والثقافي في جميع الميادين الثقافية، من المسرح إلى السينما، إلى الأغنية إلى الشعر ومختلف الفنون...وفي مختلف المناطق والجهات. إن العمل الثقافي لا ينبغي أن يكون عملا موسميا ومناسباتيا، بل عملا مستمرا ومتواصلا حتى يكون المنتوج الثقافي منتوجا حيا وفاعلا.

 

وبموازاة للعامل الثقافي، فإن مسألة الإعلام يلاحظ عنها كذلك أنها لم تحظ بالاهتمام المطلوب، إذ لا يمكن أن يتقوى المجتمع ولا يمكن للمغرب أن يكون قويا إلا بإعلام فاعل حر مستقل. لقد تضررت الصحافة مع جائحة كورونا ومعها تضررت القراءة والمتابعة الإعلامية، والمنتظر أن تتبلور بعض الأفكار والتوصيات والمقترحات لإخراج الإعلام من أزمته الراهنة، لأن نجاح النموذج التنموي الجديد، رهين بدعم الإعلام القوي والفاعل، وفي هذا الإطار، ينبغي الإنصات لمطالب ومقترحات الإعلاميين وتفعيلها على أرض الواقع.

 

إن النقاش حول النموذج التنموي الجديد، ينبغي أن يتواصل، لأن ما يتضمنه التقرير من توصيات ومن آراء ومقترحات لا يمكن لها أن تتفعل إلا في ظل حوار مفتوح مع كل القوى والفاعلين لخلق مناخ جديد يعيد الثقة للمواطنين ويحرر الطاقات كما يشير إلى ذلك هذا التقرير...