الجمعة 29 مارس 2024
فن وثقافة

عبد الصمد الشنتوف يروي تفاصيل تجربة عابرٍ إلى الضباب (30)

عبد الصمد الشنتوف يروي تفاصيل تجربة عابرٍ إلى الضباب (30) عبدالصمد الشنتوف
جلست وحيدا على كنبة خشبية وسط المزرعة، أنظر إلى حقول فسيحة خضراء، وأرفع عيوني نحو سماء زرقاء.كنت غارقا في لحظة تأمل، ألقي نظرة وداع على بلدة "هورسماندن" الهادئة التي استضافتني. نظرة حزن وفراق .
وضعت رأسي بين كفي وفكرت في صديقي خالد حين قال لي إبق معنا في لندن، فمستقبلك هنا وليس هناك. كان يحاول ثنيي عن الرجوع إلى المغرب لأنه يفكر في مصلحتي. قلت له سوف أنهي سنتي الدراسية الأخيرة ، ثم أخوض مباراة الأساتذة من جديد، أعدك إن لم أوفق ستجدني بجانبك في مدينة الضباب .
في هذه الليلة لملمت أغراضي ورتبتها داخل حقيبتي، صرت جاهزا للسفر . غدا سأرحل إلى لندن لأتسوق بعض الأشياء . سألقي نظرة وداع على المهاجرين المغاربة بمقهى "كازابلانكا".
فكرت في أشياء كثيرة، سحبت نفسا عميقا إلى رئتي، قلبي تملأه مشاعر الاشتياق. عشرات الأسئلة تزدحم في رأسي. بعد شهور من الاغتراب داهمني شعور فظيع. أستغرب كيف افتقدت مطاردة "المخازنية" لباعة متجولين في الأزقة. افتقدت أصوات منبهات سيارات مزعجة.
افتقدت تزاحم الركاب على أبواب حافلات متهالكة. افتقدت صياح الناس وشجارهم في الأسواق. افتقدت تكدس القمامة على الأرصفة . افتقدت أناسا طيبين يتلصصون على بعضهم من نوافذ المنازل. افتقدت مشاهدة عربات تجرها البغال في دروب ضيقة. افتقدت حرارة الشمس الحارقة. افتقدت مداعبة أمواج شاطئ "بليغروصا" بالعرائش. افتقدت أشياء كثيرة تسرح في مخيلتي .
مرت ريتا أمامي وتوقفت، استدارت نحوي فسألتني :
- تبدو شاردا، فيما تفكر يا "سام" ؟ 
- أجبتها: كنت غائبا في لحظة تأمل، أستحضر في ذهني كل فصول رحلتي إلى إنجلترا والآن أستعد للعودة إلى وطني.
اقتربت مني وجلست على طرف الكنبة تداعب كلبها المدلل ثم قالت :
- موسم قطاف التفاح كان ناجحا هذه السنة  والآن أوشكنا على نهايته . وقد سعدت بوجودك معنا ، أشكرك على اشتغالك معنا ، كم كنت رائعا في عملك !.
- أخجلتني بعباراتك الأنيقة سيدتي ، أشكرك على حسن اهتمامك بي !.
- أنت لا تقل اندماجا وتألقا في العمل من صديقك التيجاني ! .
- سأذكرك ما حييت سيدتي ، لقد منحتني تجربة ثمينة أضفتها إلى رصيد حياتي ! .
- لا عليك ، أنت شاب طموح وباب ضيعتي مشرع لك في أي وقت !.
- شكرا لك مدام ريتا .
- لا تنس أنني سأنظم حفلا على شرفك هذا المساء في بيتي على الساعة الثامنة !.
- أشكرك مرة أخرى ، هذا من لطفك سيدتي !
بعدئذ ، بادرتني قائلة : سوف أنشغل بترتيب بوفيه الحفل ، أرجوك أن ترافق لولو في جولة فسحة بوسط البلدة ، لأنه يشعر ببعض الضجر . وافقت على الفور في حين تماثلت أمامي صورة التيجاني لما كان يصطحب لولو معه كل مساء. أمسكت بحبل مقود يطوق عنق الكلب ومضينا نمشي سويا . أحسست للحظة أن الناس كلهم ينظرون إلى ، ارتبكت قليلا، ليس من عادتي أن أصطحب حيوانا في الشارع لكن في نفس الآن شعرت مزهوا وأنا أتجول مع كلب قصير من فصيلة الكنيش. إنها أول مرة أتجول مع كلب في فضاء مفتوح .
عدت بذاكرتي إلى زمن الطفولة ، حيث كنت أستمتع بمطاردة كلاب ضالة ، فضاءات اللعب شبه منعدمة لذا كنت أظل أركض وراء الكلاب طوال النهار . كانت تفر مني وكنت أجدني أتسلى بملاحقتها وضربها . كنت أعتقد أنها كائنات أقل إدراكا وبلا مشاعر ، وإنها عديمة الروح وبالتالي فهي كائنات منبوذة تستحق المطاردة .
هنا في بلاد الإنجليز تغيرت نظرتي للكلاب، لذا وجدتني أرمم علاقتي بها ، تصالحت معها ، أصبحت أرافق صديقي لولو وسط هورسماندن. نصادف المارة من الناس في الطريق ونتبادل التحية "هالو"، يستوقفونني ، يفرحون بالكلب ثم يداعبونه بشغف. ندردش قليلا حول الطقس ، موسيقى ميك جاغر، الهامبورغر ، نتحدث عن أي شيء، نخوض في حديث الكلاب ثم نواصل سيرنا .
بدا الكلب مبتهجا ومنسجما معي، كان لولو في قمة انتشائه . ربما أذكره بصديقه التيجاني الذي كان يغمره بالعطف والرعاية . لولو كلب جميل ومدلل . يقطن في بيت مريح ، ويستحم مرتين في الأسبوع . يستلقي فوق أريكة فارهة تشبه صالون الملك لويس 16 ليستريح بصالة الضيوف، أحيانا ينام بين أحضان ريتا وكأنه طفل رضيع ، تغدق عليه بكل ألوان الأطعمة، تأخذه عند البيطري إذا مرض ويسافر معها إلى إيطاليا واليونان كل سنة تقريبا. عندما يتجولان معا في المزرعة، يتنزهان بين الورود والأشجار، ويركضان سويا بين أحراش الحقول. عندما ينال منهما التعب يستظلان تحت شجرة إجاص ليتمددا قليلا. تنظم له ريتا كل عام حفلا فاخرا بحضور مدعوين كلاب البلدة ، فتطفئ له شمعة عيد ميلاده السعيد . كلب ولد بلمعقة من ذهب في فمه ولم يتذوق طعم القساوة والحرمان قط .
تابعنا سيرنا نحو وسط البلدة ، جلسنا تحت شجرة تفاح باسقة نستظل بأغصانها، نظرت إليه وشرعت أكلمه بالعربية ، أتواصل معه عبر الإشارات والإيماءات، شعرت كما لو كان يفهمني.  
أبلغته مأساة الكلاب وحقوقهم المهضومة في بلدي، قلت له :
- الحيوان عندنا تنتهك حقوقه ويعاني من عنف غير مبرر .
- نظر إلي وقد انتصبت أذناه من شدة الصدمة !
- أخبرته أن الحيوانات في بلدي تلتحف السماء وتبيت في العراء، ولا حظ لها في زيارة البيطري عند المرض.
- حينما سمع هذا الكلام توقف لولو عن بصبصة ذيله وأغمض عينيه معبرا عن حزن عميق أصابه !
أضفت قائلا :  
- عليك أن تعلم يا لولو أنك محظوظ لأنك ولدت في إنجلترا، لو كنت في المغرب لكان وضعك سيئا للغاية.
- انتابه بعض القلق وأخذ يرمش بعينيه ، ثم طفق يخبط بيده اليمنى على الأرض غير مصدق ما أقول !
- قلت له : هل تعلم أن الناس عندنا تغيب عنهم ثقافة الرفق بالحيوان وأن منظمات حقوق الحيوان شبه منعدمة في بلادنا.. لا أدري لماذا أخفى عنك صديقك التيجاني كل هذه المعلومات ولم يخبرك بحقيقة الوضع المزري عندنا .
الحيوان في المغرب يعاني الويلات في بلد قاس لا يرحم فيه الإنسان فبالأحرى أن يشفق فيه عن حيوان .
- قام لولو بحركة طي ذيله تعبيرا على خوف وتوتر انتاب جسده !
- أمسكته بيدي وأمسدت على ظهره حتى يستعيد ثقته وهدوئه ذلك أنه يسمع كلاما بشعا عن أخيه الحيوان . التفت إليه مخاطبه :  
- انظر إلي وافتح أذنيك يا لولو ، عليك أن تكون قويا ، سأروي لك انتهاكات أكثر فظاعة مما سمعت !
- انبطح لولو على بطنه وأخذ ينصت إلي باهتمام بالغ !
- في المغرب يطلقون الرصاص الحي على الكلاب بأمر من السلطات بحجة أنها ضالة .
- فانتصب الكلب واقفا وصدرت من حلقه دمدمة حزينة بصوت خفيض !
 أضفت قائلا :
- بعض الجزارين في بلدي يصطادون الكلاب ، ليذبحونها ويحولونها إلى لحم مفروم يقدمونه للزبناء كوجبات سوسيس بعدما ينثرون عليها بعض البهارات.
- لم يتحمل المسكين سماع هذا الهول من الوحشية، فانخرط في نوبات بكاء ونباح معا حتى أغمي عليه !
رق قلبي لحالته الصعبة ، كانت أول مرة في حياته يبكي لولو بهذه الحرقة القوية .
 كاد أن يفقد عقله من شدة الحزن لما أخبرته بالقطط التي يوضع داخل أفواهها طلاسم ووصفات سحرية، فيعمد المشعوذون إلى خياطة أفواهها وتركها تموت في الخلاء ببطء .
 قلت له أعتذر إن أخبرتك بكل هذه الانتهاكات القاسية في حق أخيك الحيوان ، لكنها الحقيقة المرة يا لولو . ضممته الى صدري وربت على ظهره برقة وحنان . فجأة ، انفلت من بين ذراعي وقصد شجرة تفاح قبالتي ، طفق ينبح محتجا بشدة وكأنه يتخيل الشجرة هي المشعوذ القاتل ، شرع يلتهم أوراقها بغضب ويعض أغصانها بهستيريا . اجتاحته حالة حنق شديد . قرأت في عينيه تضامنه القوي مع كل الحيوانات البئيسة في بلادنا . اقتربت منه ، وطمأنته بأني سوف أخبر ريتا بكل شيء . سأحثها على مراسلة منظمة الرفق العالمية بالحيوان لتخبرها ما تتعرض له الحيوانات من إساءات في المغرب ، لربما هذا سيدفع السلطات لاتخاذ تدابير رادعة تحمي حقوق الحيوانات وتضع حدا لظلم الانسان وطغيانه الجامح .
عند رجوعنا من الجولة صادفتنا في الطريق امرأة شقراء في عمر الخريف . كانت تتفسح مع كلب كبير الحجم من فصيلة الهسكي يشبه الذئب . حاول الكلب الضخم أن يقترب من لولو فمنعته من ذلك ، انتفضت وتصديت له بقدمي، خفت أن يلتهمه كقطعة ساندويش  هدأتني المرأة قائلة : دعهما يتداعبان ويتشممان بعضهما البعض، لا تقلق فكلبي وديع لطيف . أخذت تسرد علي لمحة عن كلبها قائلة: كلبي من فصيلة الهسكي الرفيع، يبلغ من العمر ست سنوات وينحدر من سيبريا.
شعرت بخجل ينتابني، لبثت أنصت إليها وأضحك كشخص أبله. لا أدري ما أقول لأنني أجهل الكثير عن تفاصيل الكلاب ، ثم استرسلت المرأة في شروحات دقيقة . قاطعتها بحماس مزيف قائلا : كلبي إسمه لولو من أصل اسكوتلاندي ، ثم بادرتها بسؤالي عن ميلاد كلبها متصنعا إلمامي بثقافة الكلاب . أبديت اهتماما فائقا بشروحاتها  مخمنة أنني صاحب الكلب . بعدئذ أربكتني بسؤالها : كم عمر لولو ؟ . تجمدت مكاني وأخذت أتلعثم ، بدأت أصيح : افتح فمك يا لولو ، افتح فمك ! . استغربت المرأة من سلوكي هذا وقالت : غريب أمرك ، لماذا تأمره أن يفتح فاه ؟ . أجبتها : أريدك أن تتفقدي أسنانه حتى تعرفي كم عمره . فردت علي منفعلة : وما علاقة هذا بذاك ؟ . فقلت لها : نحن في المغرب نحدد عمر الخروف عبر تفقد أسنانه . ضحكت المرأة من كلامي الذي بدا لها سخيفا وقالت : لكنه كلب وليس بخروف ! على أي حال ، لكل بلد ثقافته وكلابه ، سعدت بدردشتي معك ، طاب مساؤك !. أطلقت الشقراء ابتسامة خبيثة وانصرفت عني .
اقترب موعد الحفل . على الساعة الثامنة مساء توجهت إلى بيت ريتا ، استقبلتني بابتسامتها العريضة التي لا تخبو أبدا . لم يكن الضيوف سوى زملائي في المزرعة إضافة إلى جاك ونتاشا . على يمين القاعة تم نصب طاولة مستطيلة يعمرها كوكتيل من ساندويشات، عصائر، ومشروبات روحية ، تعلوها يافطة مزركشة مثبتة على الجدار مكتوب عليها "سوف نفتقدك يا "سام" .
داهمني إحساس جميل حين قرأت اليافطة، لاحت على وجهي ملامح زهو وافتخار ، قلت في نفسي : الإنجليز يحتفون بي وأنا مجرد قاطف تفاح اشتغلت معهم لمدة وجيزة . شعرت وكأن الكون كله يدور حولي . كنت محط اهتمام الجميع . أغاني "ليونيل ريشي" كانت تصدح في الفضاء عبر جهاز كاريوكي . أمسكت ريتا بالميكرفون لإلقاء كلمة ترحيب بالضيو. قالت إنه حفل وداع أقيم خصيصا للطالب العامل "سام" ، سعدت بوجوده معنا . أثنت علي كثيرا، كما شكرتني على كل مجهوداتي التي قمت بها في الضيعة. بعدها اقترحت أن يؤدي كل واحد منا عبر جهاز كاريوكي أغنية شعبية من تراث بلده . اشترطت أن أبقى أنا الأخير في الترتيب ربما لأن الحفل أقيم خصيصا على شرفي . كان حفلا متعدد الثقافات مفعما بقيم المحبة والانسانية.
 تقدم جورج أولا وأدى أغنية إفريقية رديئة ، بعدها أمسك جوصيه بالميكرفون وغنى أغنية برتغالية جميلة ، ثم تبعه بوريس ليسمعنا أغنية بولندية مملة . فيما كان حشمت رائعا في أداء أغنية تركية عاطفية رقيقة . عندما جاء دوري ترددت شيئا ما ، فكرت مليا في الأغنية الشعبية التي سأقدمها لهم . أدرت الفكرة سريعا في ذهني وأخذت القرار . تقدمت نحو كاريوكي بخطى واثقة ، أمسكت الميكرفون وانطلقت أصدح بأغنية محمد فويتح "أوما لولو" . تسمروا جميعا في مكانهم يستمعون إلي ، ظل الجميع مشدوها ، كانت نغمات أغنية فويتح تخترق قلوبهم موقعة سحرا على مسامعهم ، انبهر المدعوون من أدائي الرائع حتى كادت عيون ريتا تقفز من مقلتيها . صفقوا لي بحرارة . كادت ريتا تطير فرحا ، كانت ترقص وتتمايل على إيقاع أغنية "أوما لولو" بخشوع ، وتزداد طربا حين تسمع إسم لولو يتردد في الفضاء .
عند نهاية الحفل ، أشارت لي ريتا أن أرافقها إلى القاعة المجاورة ، طفحت على وجهها سعادة عارمة وقالت : أشكرك على الأغنية الجميلة وقد وقع في ظنها أنني نسجت الأغنية حصريا على شرف كلبها المدلل .
عانقتني بحرارة ، قبلتني على خدي الأيمن ، ثم منحتني ظرف يحوي مستحقاتي المالية مع بطاقة هدية. حملقت في وجهها برهة وألم الوداع يعتصر قلبي. انصرفت في هدوء نحو المرآب ، كانت عيناي دامعتان، شعرت بألم الفقد يمزق أحشائي . أخذت مكاني قرب الخزان ، جلست وحيدا ، غارقا في صمتي، متدثرا بكيس نومي . كنت هائما على وجهي أرسم رحلة عودتي في مخيلتي . شدني الحنين إلى أرض "العباد الصالحين" .
مددت يدي إلى حقيبتي فسحبت بطاقة هديتي. فتحتها  لأطلع على ما بداخلها . خفق قلبي حين قرأت كلمات رقيقة بخط يد ريتا تقول فيها : "عزيزي سام ، أتمنى لك رحلة آمنة إلى بلدك المغرب ، كم كنت رائعا ، يحزنني كثيرا أن أقول لك وداعا ! ".