الجمعة 29 مارس 2024
كتاب الرأي

مصطفى الخداري: اللاجئة..

مصطفى الخداري: اللاجئة.. مصطفى الخداري

ضُغِط على جرس الباب الرئيسي  لمرات متعددة! لم يكن  يفصل بين الرنة والأخرى أي حاجز زمني. وكأنها ضغطة واحدة مستمرة .

" مساء الخير! من الطارق؟"

كان هذا هو الرد العادي الذي يتلو دائما هذه الحركة.

حاول الحارس التمعن في الصورة التي تظهر على جهاز الهاتف للمؤسسة قبل الضغط على الزر لفتح الباب. أعاد السؤال من جديد للتأكد, بعدما تعذر عليه معرفة الطارق. فكان الجواب سريعا وواضحا.

" البوليس!"

شرطيان بالزي الرسمي، سيدة شقراء بلباس رياضي تحمل معها حقيبة جلدية صغيرة ورجل يرتدي سترة زرقاء داكنة وسروال "جينز".

اقتحم الجمع مدخل المؤسسة بمجرد فتح الباب الرئيسي تم اقتيد إلى مكتب الإدارة في الطابق الأول. إنها زيارة غير عادية، لم تكن مبرمجة من قبل. علامات الارتباك كانت بادية على محيا الحارس وهو يرافق الزوار في الممر المؤدي للمكتب.

إن هذه المدرسة التي تتموقع في قلب مدينة أمستردام تتميز باستقبالها لأطفال من مختلف الفئات، الأجناس والبلدان. مؤسسة تعكس بصدق الصورة الواقعية التي تعيشها هذه الحارة العتيقة التي تجمع بين أزقتها متاجر ومقاهي من مختلف الثقافات. أحيانا يتخيل للمتنزه و كأنه يتجول وسط بازار إسطنبول الشهير يحتسي شايا تركيا, أو يمشي في أحياء المدينة القديمة لتطوان يقتني مقومات الطاجين من الجزار المغربي، أو يسير في قلب شوارع حلب يلتهم صحن كباب في إحدى المطاعم السورية الشعبية.  وهنا وهناك يستوقفك مقهى هولاندي عصري تقصده نخبة خاصة. ليس لانتشاء القهوة فقط والاستمتاع بمرورالراجلين  في الشارع الرئيسي للحيمقهى هولاندي عصري، وإنما قصد العمل. فترى الأعناق منحنية والأعين مركزة حول شاشة الحاسوب.

تفاوت اجتماعي, ثقافي واقتصادي كبير وملموس للعيان. سكن اقتصادي  تؤمه في الغالب الطبقة الهشة التي تتشكل في مجملها من الأجانب. مباني قديمة، متآكلة، ضيقة. تأوي أسرا كبيرة  العدد، ذات دخل ضعيف وتعتمد  في الغالب على المساعدة المادية التي تخصص للعاطلين عن العمل أو طلبة مضطرين للعيش مؤقتا في هذه المساكن لبخس ثمنها. في المقابل تتواجد دور سكنية من المستوى الرفيع  داخل هذا الزخم السكاني. تقطنها الفئة  الميسورة ذات الدخل العالي. غالبا لا يتعدى عدد أفراد أسرها تلاثة أو أربعة أفراد. وتتميز طبعا هذه الدور بجودة بناياتها و شساعتها.

الأهم من كل هذا و ذاك، ورغم كل هذه الفوارق، هو تعايش كل هذه الفئات المختلفة مع بعضها البعض في هذا الحي العتيق. وهذا ما يعكسه  تواجد غالبية أبناء هذه الفئات في هذه المؤسسة التعليمية العمومية. هو في الحقيقة اختيار صعب ولكنه ممكن.

ترى ماهو سر هذه الزيارة المباغتة في عشية هذه الجمعة؟

 بالاضافة الى عناصر الشرطة الاثنان، قدما الشخصان الآخران أنفسهما كموظفين في قسم الرعاية الخاصة لأطفال اللاجئين. ثم أضاف أحدهم:

" أين هي أقسام " آية"  و "منار"؟

استقر المطاف بالطفلتين السوريتين الأصل  صحبة أمهما أخيرا  في هولاندا.  بعد نجاتهم من المخاطر المتعددة التي واكبت رحلاتهم الطويلة.  بداية بويلات الحرب المندلعة  في بلدهم التي  أتت على كل ممتلكاتهم  وتسببت في موت الأب الى المغامرة بالهروب من سوريا عبر جبال و مناطق في غاية الخطورة بأسماء منتحلة. ثم العيش الاضطراري في الهواء الطلق تحت خيم صنعت من أقمشة بالية و أعواد أشجار هشة، و سط حشود من اللاجئين من كل جهة وصوب. كل هذا في ظروف كارثية بالمعنى الشامل للكلمة،  برد وجوع ومرض وخوف ومستقبل مجهول.

استبشرت الأم خيرا عندما حصلت على إقامة مؤقتة و سكنى  وسط هذا الحي المتعدد الثقافات. وبادرت في الحين بتسجيل "آية"  و"منار" بالمدرسة. و كانت حريصة كل الحرص على أن توفر الراحة والاستقرار لابنتيها حتى يتابعان دراستهما بكل نجاح. واستطاعت أن تكسب بسرعة عطف  العديد من الأمهات داخل وخارج المؤسسة. كما نجحت في ظرف وجيز التمكن من النطق ببعض الكلمات الهولاندية محاولة قدر الإمكان التواصل مع المدرسة.

" لقد تقرر وضع أم الطفلتين تحت الحراسة في انتظار تعميق البحث معها"

و تابع أحد الوافدين قائلا: " لدى يجب أخذ "آية"  و"منار"  الآن للإقامة عند إحدى الأسر التي ستتكلف برعايتهما"

نزل الخبر كالصاعقة! لم يكن أحد يتوقع أن معاناة هذه الأسرة لازالت لم تنته بعد. لم يكن أحد يتوقع أن تُفصل الطفلتان ذات الست و السبع سنوات عن أمهما بهذا الشكل؟

 ترى كيف سيكون رد فعلهما؟

بعد أخذ و رد ومشاورات من هنا وهناك، تقرر إخبار الطفلتين بالأمر بعد انتهاء الحصة الدراسية. وامتنع الأساتذة المعنيون حضور مراسيم هذه المأساة.

لم تتمالك أستاذة "منار" نفسها و أجهشت بالبكاء ثم انصرفت الى قسمها. تبعتها إحدى زميلاتها. ثم التحق بهما الباقي. جو مكهرب خيم على المكان، امتزج فيه البكاء والسخط على الوضع.

شتان ما بين الوهلة الأولى التي اقتحمت فيها "منار" باب المدرسة و الآن. لم تكن في الأسابيع الأولى تستطيع أن تزيل معطفها داخل الفصل رغم الحرارة المرتفعة. لم تكن أيضا تستطيع التخلي عن حقيبة الظهر التي كانت تلازمها طيلة اليوم، داخل القسم، في الساحة أو في قاعة الرياضة. هازج الخوف والارتباك كان مخيما على "آية " و"منار" عند قدومهما في البداية الى المدرسة.

و الآن الكل يعلم مدى السعادة الكبيرة التي تغمرالأم صحبة الطفلتين كلما اقتحمتا باب المدرسة.  الكل يشاهد الابتسامة الجميلة التي لا تفارق المحيا. الكل يلمس الثقة الكبيرة في النفس التي اكتسبتها "آية " و"منار" في وقت وجيز. الكل يشاهد المجهود الكبير الذي تبذله الأم من أجل توفير كل الظروف المواتية لإسعاد طفلتيها. ومع ذلك يظل السؤال المطروح: ماذا حدث؟

عندما قررت الأم الانصياع للأمر الواقع وخوض غمار الفرار من سوريا بمعية الطفلتين, أحست بثقل المسؤولية التي ستتحملها. وقبلت أيضا الإسم والوضع الجديد كلاجئة. ورغم هول المغامرات التي اعترضت سبيلها ظلت متفائلة ومصدقة بأنها ستنجو و تستعيد حياتها من جديد رفقة "آية" و"منار". الشيئ الذي لم يخطر على بالها  بالمرة هو الآثار النفسية الكبيرة التي ستلازمها, والتي ستكون سببا في تعاستها.

فهي  لم تسلم من الكاوبيس المفزعة التي تعكر عليها صفوة النوم. مما يجعلها تستيقظ باستمرار في عز الليل منزعجة ونبضات قلبها لا تتوقف عن الضرب. تارة تبكي في صمت و تارة أخرى يسمع الجيران صراخها المدوي.

وإذا كانت الطفلتان قد "تعودتا" على هذه الحالة،  فالأمر مختلف  تماما بالنسبة للجيران.

فبمجرد توصل الشرطة بالشكاية السرية, بدأت متاعب اللأم من جديد.

"آية" و"منار" ترحلان الى وجهة جديدة. ويبقى مصير اللاجئة مجهولا.       

مصطفى الخداري نائب مدير مدرسة عمومية بأمستردام